صادفت، قبل أسبوع، في رحلة العودة من اسطنبول إلى لندن، زميلاً أكاديمياً، بريطانياً، وصديقاً قديماً من دارسي الشرق الأوسط. وإلى جانب استعادة بعض اهتماماتنا المشتركة بتاريخ المنطقة وتطوراتها، أخذنا الحديث إلى الجدل المتجدد في دوائر الثقافة والسياسة العربية حول تراجع الفكرة القومية والتيار الإسلامي السياسي. عندها قال الزميل السابق معلقاً، «كلما طالعت نظرية نهاية وموت ما تحسست مسدسي!» ما قصده، بالطبع، أن كل نظريات «الموت»، التي شاعت في العقود القليلة الماضية لم تستطع المحافظة على مصداقيتها ولو لسنوات قليلة. بعد «نهاية التاريخ»، الذي بات واضحاً الآن أنه لم ينته، لم تتوقف نظريات «الموت»، سواء موت الأيديولوجيات أو الهويات الكبرى.
يوم الأحد الماضي، 5 حزيران/يونيو، نشر رئيس تحرير الغارديان الأسبق، بيتر بريستون، مقالة سخر فيها من توقعات اختفاء الإعلام المطبوع، التي ترددت خلال العقد الماضي. قارن بريستون بتوقعات مشابهة حول قرب اختفاء دور السينما، بعد أن تعددت قنوات التلفاز المتخصصة، المتاحة للمشاهد بأثمان زهيدة، وأصبحت الأشرطة السينمائية متوفرة لمن يطلبها، أيضاً بمقابل زهيد، عبر شركات توزيع إلكترونية. وأشار بريستون إلى أنه بالرغم من منافسة وسائل التوزيع الجديدة لدار السينما التقليدية، فإن عدد دور السينما في بريطانيا ارتفع في العقد الماضي من 3486 إلى 4185 داراً. هناك من سيقول، بالطبع، أن العدد كان سيرتفع بمعدلات أكبر لو أن دار العرض التقليدية لم تواجه تحدي وسائل الاتصال الحديثة. وهذا، ربما، صحيح. ولكن المهم ملاحظته أن توفر النسخ الرقمية للكتاب والمواقع الصحافية المتعددة على الإنترنت، أثر بدرجة محدودة فقط على الكتاب المطبوع والصحيفة المطبوعة، ولا يبدو أن أياً منهما في طريقه إلى الموت والاختفاء. الخيارات الإنسانية هي، بالتأكيد، أكثر تعقيداً من التوقعات المتعجلة للموت السريع.
بيد أن القومية والإسلامية لا يمكن أن تقرأ كما يقرأ مستقبل الصحيفة المطبوعة ودار عرض الأفلام، من خلال إحصاءات عدد النسخ وعدد القراء والمشاهدين. هذه أفكار، أو كما يحلو للبعض اعتبارها أيديولوجيات، كبرى، تتعلق بمتغيرات بالغة التعقيد والتداخل من السياسة والاجتماع ووسائل الاتصال والتعليم، وحتى الاقتصاد ومعدلات الرفاه، وليس تطور وسائل التقنية وحسب. ولكن هذا التباين والاختلاف لا يجب، على أية حال، أن يحجب التشابه المقلق بين نظريات «الموت» المتسرعة في هذا المجال وذلك.
تشترك القومية، في المجال العربي ـ الإسلامي، كما في العالم ككل، والإسلامية، في تعلقهما بمسألة الهوية وتطورها. وبخلاف أيديولوجيات كبرى، مثل الماركسية، تعتبر القومية والإسلامية ظاهرتين تاريخيتين؛ بمعنى أنهما ولدا في سياق تاريخي محدد وبفعل قوى ومتغيرات تاريخية، وليس نتاج عبقرية فلسفة لفرد أو مجموعة أفراد. ثمة حالات استثنائية، وجزئية، فرضت فيها الهوية القومية على قطاعات واسعة من الشعب، كما حدث في التجربتين الفرنسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتركية ـ الكمالية في النصف الأول من العشرين. ولكن الهوية القومية في أغلب الحالات ولدت من تطورات اقتصادية واجتماعية وثقافية تاريخية، ومن تقدم هائل متسارع في وسائل الاتصال، أدت معاً إلى انهيار حثيث في روابط الهوية التقليدية المحدودة، مثل القبيلة والعائلة الممتدة والبلدة والحرفة، وتبلور تلك اللحظة الفريدة في التاريخ الإنساني، عندما استطاعت الأمة تصور نفسها كأمة. وهذه بالتأكيد ظاهرة إنسانية، لم تقتصر، وإن اختلفت زمنياً، على أمة بعينها.
الإسلامية، أو الإسلام السياسي، هي أيضاً ظاهرة تتعلق بولادة وعي خاص بالذات، ذات الفرد والجماعة على السواء. ولم يكن غريباً أن هذه الظاهرة أخذت في التجلي خلال الفترة بين الحربين، وأنها، أيضاً، وكما الهوية القومية، لم تظهر في كل البلاد الإسلامية مرة واحدة. يتعلق السبب الرئيسي خلف بروز الظاهرة الإسلامية السياسية بالآثار البالغة لحركة التحديث في المجتمعات الإسلامية، بداية من إضعاف وتهميش مؤسسة العلماء التقليدية، مروراً بانهيار الاجماع التاريخي، ووصولاً إلى الانقسام الفادح في الطبقات الاجتماعية الحديثة. ويتعلق السبب الثاني بصعود مؤسسة الدولة الحديثة، احتكارها لمصادر القوة في المجتمع، وهيمنتها على الأرض والاجتماع. تعظيم مؤسسة الدولة، أدى بالضرورة إلى تعظيم التدافع على مقاليد الحكم والسلطة.
كان نيتشة هو الذي قال أن «كل ما له تاريخ، لا يمكن تعريفه». ولأن القومية والإسلامية تحمل في داخلها تاريخاً متراكماً من التجليات المتعددة، فليس هناك توافق، بأي صورة من الصور، على تعريف كل منهما. نحن نعرف السياق التاريخي الذي ولدت فيه كل منهما، والقوى التي ساهمت في هذه الولادة، ولكن تعدد التعبيرات القومية والإسلامية السياسية بمكان بحيث يصعب الإقرار بوجود معيار واحد، أو نوع مثالي، كما قال فيبر، لقراءة كل منهما. ولا يقل أهمية أن الظاهرتين لم تتوقفا عن التطور والتغيير في سياقات تاريخية متغيرة.
ثمة حركات قومية لعب فيها الانتماء الديني دوراً رئيسياً، مثل القومية الإيرلندية والعروبة المبكرة وحركة تأسيس باكستان، وحركات أخرى استندت إلى مشتركات علمانية بحتة، مثل العرق واللغة، كما في القوميتين الألمانية والفرنسية. تجلت القومية أحياناً في تعبيرات ليبرالية، وفي أحيان أخرى في تعبيرات فاشية. ترامب في الولايات المتحدة، وحركة الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، والجبهة الوطنية في فرنسا، كلها تعتبر اليوم حركات إحياء قومي. ومنذ الموجة الثانية للمد الإسلامي السياسي في سبعينات القرن العشرين، بات من الصعب القول أن هناك إطاراً مرجعياً واحداً للتيار الإسلامي السياسي، ليس في الدائرة السنية وحسب، حيث التعددية شأن متوقع، ولكن في الدائرة الشيعية ايضاً. تجلت الظاهرة الإسلامية السياسية، مثلاً، في صعود حركة الإخوان المسلمين؛ في تعبيرات سلفية متعددة؛ في حراك شعبي، وفي حراك مسلح؛ في الالتفاف حول الولي الفقيه، أو في الإيمان بالعمل الحزبي،…إلخ. اليوم، هناك إسلاميون ديمقراطيون، وإسلاميون مسلحون؛ إسلاميون محافظون وآخرون علمانيون؛ إسلاميون متصالحون مع مؤسسة الدولة الحديثة، وآخرون يرفضون التعايش معها؛ وإسلاميون في الحكم وآخرون في المعارضة.
في السياق المشرقي، على وجه الخصوص، ليست أطروحة موت القومية والإسلامية شأناً جديداً. إخفاقات القوميين والإسلاميين العرب، كما هو معروف، أكثر بكثير من نجاحاتهم، سواء بفعل اختلال توازنات القوى الإقليمية أو الدولية، بفعل الانقسام الحاد في المجتمعات العربية، أو بفعل فقدان الكفاءة لدى قيادات الحركات القومية والإسلامية نفسها. ومن الطبيعي أن تستدعي الإخفاقات والتراجعات نظريات الموت والانحطاط. ولكن السؤال الذي لابد أن يطرح دائماً ما إن كانت الشروط التاريخية التي أدت إلى ولادة القومية والإسلامية قد انتفت كلية، أو أن شروطاً تاريخية جديدة في طريقها لتوليد ظواهر بديلة. بكلمة أخرى، هل استطاعت المجتمعات العربية والإسلامية الإجابة على موقع ودور الإسلام في المجال العام، أو لا؛ وهل أن وعي العرب أو الأتراك بهويتهم القومية لم يعد له من معنى ودور في حيانهم، أو لا.