قرأت مؤخرًا العديد من المقالات والدراسات التي تظهر أن قطاع الصناعات الدفاعية العسكرية التركي حقق اكتفاءً ذاتيًا فريدًا خلال فترة زمنية قياسية امتدت لما يقارب عشر سنوات فقط، حيث اتجهت تركيا عام 2003 لتحقيق اكتفاء ذاتي جاد، واستمرت على هذا النحو حتى عام 2014، إذ استطاعت في ذلك العام التحول من دولة مستوردة إلى دولة مصدرة كأول مرة منذ تأسيسها كجمهورية عام 1923.
في ظل ذلك الطرح، توقد في الذهن شعلة تساؤل أو فضول عن المراحل التاريخية التي مر بها قطاع الصناعات الدفاعية العسكرية التركي، ولمعالجة هذا التساؤل حاولت تسطير مقال موجز عن المراحل التاريخية الخاصة بالقطاع بالاعتماد على بعض المراجع التي سأظهرها لاحقًا.
يمكن تقسيم المراحل التاريخية التي مر بها قطاع الصناعات الدفاعية العسكرية التركي على النحو الآتي:
ـ المرحلة الأولى “1923 ـ 1952”: تزامنت هذه المرحلة مع السنوات الأولى لتأسيس الجمهورية التركية والحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة، كانت الميزة الأبرز لتلك الفترة هي تعرض تركيا للكثير من الضغوطات والمطالب المهددة لأمنها ووحدة أراضيها، وهذا ما دفع تركيا إلى اتباع سياسة توازن تحالفية حذرة تكفل لها الحماية من مطامع الدول العظمى، إذ وقعت اتفاق استراتيجي مع فرنسا وبريطانيا عام 1939 وفي نفس الوقت اتجهت لتوقيع اتفاقيات سياسية واقتصادية نشطة مع ألمانيا.
ويُذكر أيضًا أن تركيا اختارت طريق تطوير قطاع الأسلحة الخاص بها كوسيلة أخرى لصد هذه التهديدات، وامتاز قطاع الصناعات الدفاعية في تلك المرحلة بالمميزات التالية:
ـ تعاون بين القطاعين العام والخاص لتطوير بعض الأسلحة وتغطية حاجة تركيا الدفاعية.
ـ تضمين صناعة بعض الأسلحة الخفيفة في إطار الخطتين الاقتصاديتين للتطوير “الخطة الأولى 1933 ـ 1938، الثانية 1938 ـ 1944″، وعلى هذا الأساس تم تأسيس المديرية العامة للمصانع العسكرية عام 1921، تبعها تأسيس ورش تعمير وتصنيع الأسلحة الخفيفة عام 1924، ومن ثم تأسيس جمعية الطيران التركي عام 1925، والتي تم تغيير اسمها إلى مؤسسة الطيران التركية عام 1935، تأسيس مصنع للذخيرة في مدينة كيريك قلعة عام 1929، تأسيس مصنع لتصنيع محرك للطائرات عام 1948 ولكنه لم يكلل بالنجاح وتم تحويله عام 1954 لمصنع لمحركات المحراث الآلي، وفي النهاية التعاون مع الشركة الأمريكية “كورتيس رايت” لتجميع الطائرات وتعميرها.
وتعقيبًا على الخطط والخطوات المتبعة، يمكن لنا القول بأنها خطط لا تحمل في طياتها أي رؤية استراتيجية تعود على تركيا بالاكتفاء الذاتي الشامل أو تصنيع الأسلحة الثقيلة، بل تشمل فقط تصنيع الأسلحة الخفيفة وتعمير وتجميع الثقيلة بواسطة شركة أجنبية.
ـ المرحلة الثانية “1952 ـ 1973”: بلغ متوسط النفقات العسكرية خلال هذه المرحلة 28.5% من قيمة الميزانية العامة، خُصصت هذه النفقات لاستيراد الأسلحة ولم يظهر واضحًا أي عملية تطوير لقطاع الصناعات الدفاعية لإحراز اكتفاء ذاتي يُغني تركيا عن الاعتماد الكلي على الخارج، ويرجع السبب في عدم اتجاه الحكومات المتتالية في تلك الفترة نحو إعداد خطط لتطوير قطاع الصناعات الدفاعية إلى انضمام تركيا لحلف الناتو عام 1952 وحصولها على العديد من المساعدات العسكرية والتطمينات الأمنية.
إلا أن هذا الصفاء لم يكتب له الاستمرار طويلاً، إذ ظهر للسطح ضرورة تدخل تركيا عسكريًا في جزيرة قبرص لوقف الجرائم الدائرة هناك، ولكن رفض الولايات المتحدة الأمريكية وقيادة الناتو استخدام تركيا لأسلحتهم وتهديدها بفرض حصار في حين أقدمت على ذلك اضطر القيادة التركية إلى تأسيس مؤسسات عسكرية منظمة تساهم في تصنيع أسلحة محلية.
وعلى هذا الأساس تم تأسيس معهد الأبحاث والتطوير الخاص بالصناعات الدفاعية تحت إطار مؤسسة تركيا للأبحاث التكنولوجية والعلمية “توبيتاك” عام 1972، وتأسيس معهد مرمرة للأبحاث العسكرية تحت إطار “توبيتاك” أيضًا في نفس العام، وقامت الحكومة بدعم عملية تأسيس جمعية دعم القوات التركية المسلحة التي تم تأسيسها عام 1970، ومن ثم وضع حجر الأساس لشركة الصناعات الجوية والفضائية “توساش”، وافتتاح مصنع المكائن الهيدروليكية عام 1972.
ومن الممكن اعتبار هذه المؤسسات والشركات البذرة التي ساهمت في تحقيق الاكتفاء الذاتي لتركيا، ولكن الاكتفاء الذاتي لن يتحقق في تلك المرحلة بل سيتحقق بعد عام 2003 والسبب في ذلك بسيط وهو إدارة تلك المؤسسات بشكل ناجع بعد عام 2003.
ـ المرحلة الثالثة “1974 ـ 1984”: تدخلت تركيا عام 1974 عسكريًا في جزيرة قبرص لمنع الحرب الداخلية المشتعلة بين اليونان والأتراك القبارصة، ونتيجة لذلك فرض عليها حصار اقتصادي خانق من قبل الغرب استمر حتى عام 1980، شمل الحصار قطع المساعدات العسكرية لتركيا، وهذا ما دفع الحكومة التركية للاتجاه إلى افتتاح المزيد من المصانع العسكرية المحلية وفي ذلك الإطار تم افتتاح المصانع التالية:
ـ مركز الصناعات العسكرية الإلكترونية التركية “أسيل سان” 1974.
ـ مركز الصناعات الخاصة بالطاقة “أسبيل سان” 1981.
ـ مركز صناعات المحركات “تي توساش” 1985.
وحققت تركيا في تلك الفترة اكتفاءً ذاتيًا وصل إلى ما يقارب 3.8%.
ـ المرحلة الرابعة “1985 ـ 2000”: في هذه المرحلة تم تأسيس عددًا من المؤسسات الهيكلية لإدارة الشركات والمراكز العسكرية بشكل أكثر إنتاجية، ومن المؤسسات التي تم تأسيسها في سبيل ذلك المأرب:
ـ الإدارة العامة لدعم وتطوير قطاع الصناعات الدفاعية 1985، تم تأسيسها في إطار وزارة الدفاع.
ـ معهد دعم أبحاث الخاصة بتطوير الصناعات الدفاعية 1997، تم تأسيسها في إطار “توبيتاك”.
ـ الاستشارية العسكرية 1989، إدارة تابعة للحكومة بشكل مباشر.
المرحلة الخامسة “2002 ـ 2015”: يُلاحظ في هذه المرحلة أنه لم يتم تأسيس مؤسسات عسكرية جديدة، بل تم الإبقاء على نفس المؤسسات، ولكن مع إجراء إصلاحات هيكلية وإدارية جذرية لتلك المؤسسات، لتطويرها وإيصالها إلى القمة، ومن تلك الإصلاحات:
ـ رفع معدل نفقات البحث والتطوير.
ـ معهد الرقابة والتوجيه العسكري، لمراقبة وتوجيه النفقات.
ـ استقطاب عددًا من المهندسين العسكريين الأجانب لإجراء أبحاثهم التطويرية داخل إطار الشركات التركية.
ـ خصخصة الشركات والمراكز العسكرية لزيادة فعاليتها وانتاجيتها.
ـ تأسيس اتحاد التصدير العسكري عام 2010، للبحث عن الأسواق الخارجية وزيادة حجم إنتاج الشركات العسكرية.
ـ دعم الشركات العسكرية حديثة الميلاد مثل شركة ميتيك سان للصناعات الدفاعية 2006، وشركة كوتش للمعلومات والصناعات الدفاعية 2007.
هذه الإصلاحات اكسبت تركيا اكتفاءً ذاتيًا بقيمة 40% ومكنتها عام 2014 من تحقيق فائض تجاري في الميزان التجاري الخاص بقطاع الصناعات الدفاعية العسكرية، وعلى ما يبدو الاستمرار على هذه الوتيرة سيمكن تركيا من تحويل أسلحتها إلى ماركة عالمية مسجلة، وسيصبح لديها على ما يبدو 80% من الاكتفاء الذاتي، حسب تقدير الخبراء.