الشارع الصومالي اليوم إعتاد على مفهوم القبيلة، لا حرج أن يستوقفك أحدهم ليتعرف على إسم قبيلتك وبعدها يصنفك حسب نظرته لتلك القبيلة. ولكن هذا لم يكن الحال في الصومال أبداً، بل هو مرضٌ إنتشر بعد سقوط الدولة لتصبح القبيلة هي الدولة والملاذ الآمن من بشاعة الحرب الأهلية وهولتها.
ورغم إيمان الكثير من الصوماليين أن القبيلة لا يمكنها إقامة دول راسخة إلا أنه لا مفر منها لإنعدام حلولٍ عملية تخرج الناس من كنفها، كان الصوماليون -وما يزال بعضهم- يظنون أن المخرج هو في وجود رئيس صومالي قوي ومجموعة متوازنة من ممثلي القبائل في البرلمان أو حتى رجل عسكري يأخذ بزمام الأمور ويكون مدعوماً من الغرب والدول المجاورة. ولكن كل هذه الأشياء مجرد مسكنات ألم ولن يدوم مفعولها لعقود أو لقرون عديدة، فهناك مشكلة حقيقية يجب إستئصالها لا تطبيبها وسترها.
إذاً نحن بحاجة إلى تمهيد الطريق لنظام مستقر قابل للصمود ضد أي مشاكل أو خلافات مستقبلية، علينا أن ننظر حولنا ونعود إلى دروس التاريخ لكي نبحث عن مخرجٍ لهذه المشكلة. لا حرج في التعلم من تجارب الآخرين فمشاكلنا ليست نادرة بل هي صنع الحالة التي عشناها والمخرج منها هو في تعطيل دور القبيلة بالكامل أو إضعافها في الحياة بحيث لا يكون لها قيمة وتكون الدولة تدير نفسها بنفسها خارج إطار الفصل القبلي والإجتماعي بين أبناء الشعب الواحد.
عبر مر العصور، قامت الحروب حول العالم بسبب الرغبة الجامحة في السلطة، للإستيلاء على مكتسبات الآخر، وعليه فكان على الضعيف أن يتعايش مع القوي ويرضخ لحكمه أو أن يتعلم وبسرعة كيف يكون أقوى منه ليهزمه ويسترد حقوقه، الأمر الذي يأدي الى صراع مستمر لا هوادة فيه، ومع مرور الوقت يضعف أحد الطرفين وينتهي ليتفرد الآخر بالسلطة ويقيم سبل الحكم التي تروق له بدون أي مراعاة للحقوق والمسؤليات.
ولكن بعض الشعوب قررت ترسيخ قيم نبيلة للحفاظ على حقوق الجمتمع، فكانت الدساتير والمعاهدات وإستقلال القضاء وفصل السلطات ليعم الإستقرار والأمان. أما في الشعوب التي لم تصل إلى هذه المرحلة بعد كالصومال وغيرها من الدول العربية فهي لا تزال تعاني من تقسيم المجتمع الى مجموعات قبلية مختلفة وتحاول يائسة دمج هذه الفكرة في الحياة السياسية كطريقة لتقاسم السلطة فيما بينها.
في الصومال كان هذا النظام القبلي قائماً في البادية والأرياف لإنعدام أو ضعف سلطة الدولة هناك، ولم يكن لهذا المفهوم أثرٌ يذكر في المدن، حيث الشرطة والقضاء والنظام الإداري والتجارة والتعامل الحضاري مع العالم الخارجي. بعد كثرة الخلافات السياسية ونشوب الحرب الأهلية بدأ أبناء المدن بالإستعانة بأقاربهم من البادية فجاء هؤلاء ليعيشوا في المدن وليقاتلوا دفاعاً عن قبائلهم وطلباً للسلطة والنفوذ. الأمر الذي أعاد إنتاج مفهوم القبيلة ونشرها كالسرطان في كل بقاع الدولة.
ولو نظرنا إلى قيمة القبيلة في حياة الفرد الصومالي نجدها متطابقة مع ما كان ينبغي للدولة إن تقدمه لشعبها:
١. الأمن: في أي صراع ينشب بين شخصين، تقوم القبيلة بالوقوف مع أبنائها بغض النظر عن كونهم ظلمة أو مظلومين، وكلما كانت قبيلتك أقوى وأكثر عدة وعتاداً كلما قلت خلافاتك وكثر من يحترمك ويرجو ودك. والقبيلة هي أيضاً من تدفع الدية في حال قتل أحد أبنائها فرداً من قبيلة أخرى. الأمر الذي يحفظ حياة هذا الفرد ويزيده ولاء للقبيلة وتمادياً في ظلمه وجوره في بعض الأحيان حيث لا رادع.
٢. السياسة: لا مكان للخبرات والشهادات العالية في عالم السياسة الصومالة، القبيلة هي مصدر القوة والنفوذ، والأولوية تكون دائماً لأبناء القبائل الأربعة الكبرى. فإن كان الفرد أستاذاً في السياسة وبارعاً فيها ولكن لم تكن قبيلته ذات قوة وإحترام فلا نصيب له، الأمر الذي فتح البرلمان ومناصب الدولة كلها لأشخاص غير جديرين بها.
٣. الدعم الإقتصادي: تقوم القبيلة بدعم أبنائها حيث تجمع الأموال لهم وتحاول تحسين ظروف معيشتهم، والأولوية تكون دائماً للأفضل والأعلى نسباً. الأمر الذي يزيد ولاء أفراد القبيلة لقبيلتهم لشعورهم بالامتنان لهم فيكونون جاهزين لرد الجميل إذا طُلب منهم ذلك.
٤. فرص العمل: تمكن القبيلة الطامحين من أبنائها من تسلم أعلى المناصب المرموقة وتسهل دراستهم في الخارج بفضل ترابط أعضائها وتواجدهم في مناصب سياسية مهمة في الدولة، الأمر الذي يكون طبقة من الأفراد الذين يحاولون تكوين دولة داخل الدولة يكون ولائها للقبيلة لا للعلم أو للأرض.
وبفضل كل هذه العقبات وغيرها يصبح الشخص غير قادرٍ على طرح أفكار مغايرة لفكر القبيلة بدون خطة واضحة وحلول عملية يمكن تطبيقها على أرض الواقع، فلا يمكن لشخص يخشى على نفسه وأهله وماله أن يتخلى عن قبيلته التي تمثل له الضمان الوحيد لحياة مقبولة في ظل دولة متهالكة غير قادرة على تأمين حياة مواطنيها. لإيجاد هذه الحلول العملية علينا أن ننظر الى غيرنا من الدول لفهم الدروس والعبر التي تمكننا من معالجة هذه المشكلة الإجتماعية.
خلال الثورة الصناعية في أوروبا، عانى الأوروبيون من مشاكل كثيرة مشابهة لما تعانية القارة الإفريقية اليوم، بسبب تسلط أصحاب المصانع الذين إستغلوا عمالهم بدون تقديم أي تأمينات صحية أو مالية لهم إلا ما يتقاضونه من أجور لا تكفي لسد حاجاتهم اليومية. فكانوا يعملون في هذه المصانع كالعبيد وفقاً لرغبات أرباب العمل. كان الأطفال محرومين من التعلم والنساء محرومات من أبسط الأشياء كالتصويت وإمتلاك العقارات. هذا الظلم لم يتوقف حتى سنت هذه الدول قوانين صارمة تنظم العمل وتعطي تأمينات صحية ومالية للمحتاجين إليها، هذه العدالة الإجتماعية مكنت الأوروبيين من التركيز على سبل تطوير حياتهم وتنظيم مجتمعاتهم.
أصبح هناك تأمين للأطفال لكي لا يحتاج الآباء الى منعهم من الدراسة بسبب ضيق العيش. وأصبح هناك تأمين للعمال بحيث تعطيهم الدولة ما يسد حاجتهم حتى يجدوا عملاً مناسباً وبهذا تقل تبعيتهم لأعضاء أسرهم وأقاربهم. أصبح هناك قوانين صارمة وجهاز شرطة قوي وقادر على حماية أرواح المواطنين كي لا يطروا الى أخذ حقوقهم بأيديهم. ولتجنب الخلافات السياسية التي قد تدمر البلاد بأسرها وتشعل نار الحر أقروا نظام الديمقراطية وتغيير الحكومات عبر صناديق الإقتراع بدلاً من تغييرها بالعنف وإسالة الدماء كما كان الحال في العصور الوسطى. بهذا أصبح المواطن جزء من الدولة، له حقوق وعليه واجبات فيحس بولاء أكبر للوطن بدلاً من العشيرة.
رغم أن الوضع مستقر نسبياً في الصومال بالمقارنة بالسنوات الماضية وذلك بعد التوصل لإتفاقيات تحفظ حق القبائل الكبيرة في تقاسم السلطة إلا أن هذه القبائل مستعدة للتخلص من بعضها البعض حين تكون الفرصة سانحة بسبب الحقد وإنعدام الثقة فيما بين هذه القبائل. لذى على الحكومة الحالية أن تضع نصب عينيها أهمية إعادة الصومال الى النظام الحزبي بدلاً من القبلي لتجنب الدولة إنهيارات تكون أعظم مما مر بها حتى الآن، هذه ليسة مهمة سهلة فالأمر يحتاج إلى قيادة حكيمة وعمل دئوب لتحقيقه.
على الحكومة أن تبني دولة قوية تفحفظ حقوق الناس وتجعلهم متساوين أمام القانون وتأمن أرواحهم وممتلكاتهم عبر جهازي شرطة وقضاء نزيهين، وعليها أيضاً أن تمنح فرص عمل كريمة للجميع مواطنيها بدون محاباة أو تمييز، بالإضافة الى رعاية حقوق الطفل والمرأة وكفالة المحتاجين من مواطنيها وتأمين حياتهم. هذه الأمور وغيرها ستخفف من ولاء الأفراد لقبائلهم وتجعلهم يلتفتون إلى بناء وطنهم لكي يزدهر وينافس غيره من بلدان العالم.