بهذه الكلمات اختصر الصحفي الألماني ذائع الصيت (يورغين تودن هوفر) حديثه ردّاً على سؤالي الذي اعتبره البعض محرجاً للصحفي، وخارج إطار موضوع السهرة التي جمعتنا في يوم له ذكرى خاصة في نفوس السوريين والعرب عموماً، في الخامس من حزيران الجاري، ذكرى نكسة السوريين حسب تقويم أرباب الممانعة والمقاومة.
ففي إحدى أهم دور العرض السينمائية في مدينة (إيسن) التابعة لمقاطعة (نورد راين فستفاليا) افتتح تودن هوفر عرض فيلمه الوثائقي المعنون بـ (Inside Is) أي (من داخل الدولة الإسلامية).
لم يكن الحضور عادياً، فالصحفي يُعد من أهم الصحفيين الألمان والأوربيين بشكل عام؛ يُعدّ من أبرز السياسيين المدافعين عن حقوق الإنسان، والمنحازين أخلاقياً إلى قضايا المهاجرين، كما اشتهر بمنافحته عن المسلمين داخل وخارج ألمانيا.
قد لا يساور المرء كثيراً من الشكوك والأفكار حول تاريخ عرض الفيلم، الموافق لغرة شهر رمضان، وما يمكن أن يحمله العنوان من مدلولات لها بالغ الأهمية في نظر الجمهور الغربي الذي يتعطش لمعرفة كل ما هو مفيد، أو يمتّ بصلة إلى الإسلام والمجتمع الإسلامي داخل بلاد المسلمين وخارجها، وهم بذلك لا يدفعهم الفضول إلى التعرف على عوالم مجهولة، بقدر ما هي الرغبة المحمومة بالتعرف على عدو بعيد وقريب في آنٍ معاً؛ حسب ما يتم ترويجه في الإعلام الغربي تحديداً.
بالعودة إلى موضوع الفيلم، وما صحبه من صخب إعلامي للترويج لمثل هذه الزيارة التي وصفت بأنها الأخطر في التاريخ الحديث، يُفاخر الصحفي الألماني أقرانه من الصحفيين والباحثين عن الحقيقة بتلك الزيارة التي رافقه فيها ابنه البكر، حيث خاضا مغامرة من نوع آخر، قد لا يجرؤ غيرهما من الصحفيين على مجرد التفكير بخوضها؛ حيث نجح في قضاء عشرة أيام في كنف ولاة الأمر ممن يأتمرون بأمر الخليفة البغدادي، سُمح له من خلالها بالتجول مع طاقمه داخل أراضي تلك الدولة المزعومة، وإجراء مقابلات مع أمراء ومسؤولين داخل هذا التنظيم الغامض، ناهيك عن لقاءات أخرى مع رعية الخليفة من المدنيين داخل الموصل والرقة. أولئك القابضون على الجمر، والذي صرّح تودن هوفر على لسان أحد ولاة الأمر هناك “إنّ المدنيين هنا لا يحبوننا”!
وقد لا يسمح المقام ها هنا بالحديث مُفصّلاً عن مجريات الفيلم، إلا أنّ قلّة من أولئك الحاضرين استطاع تكوين فكرة حقيقية عمّا يجري هناك، في تلك الروابي البعيدة آلاف الكيلومترات عن مكان عرض الفيلم؛ إذ إنّ الفيلم حاول تسليط الضوء بشكل كبير على تعاليم الإسلام التي ينتهجها أفراد هذا التنظيم، ناهيك عن الأفكار الظلامية التي يحملها أعضاء التنظيم، مع التركيز في طبيعة الأحوال، على المسلمين الأجانب، ومنهم( أبو قتادة) وهو شاب مسلم من أصول ألمانية، حيث كانت معظم الحوارات تُجرى معه، وباللغة الألمانية، وهذا أيضاً له دلالات كثيرة لدى جمهور تودن هوفر الألمان تحديداً. ومن ثمّ يتمّ إقحام أحداث تفجيرات باريس، وما نتجت عنه من آثار سياسية واقتصادية على المجتمع الأوربي تحديداً، لينتهي الفيلم بحوار حول أفكار هذا التنظيم بين الصحفي المخضرم وبين داعية مسلم يقيم في أمريكا!
حاول الجمهور، ومنهم كاتب هذه السطور، استيضاح عدد لا بأس به من النقاط التي لو تحدث عنها الفيلم، لربما كان قد حقق النجاح المرجو له.
إلا أنّ الصحفي المخضرم، استطاع وببراعةٍ تامة، تجنّب تلك الأسئلة، وإدارة دفّة الحوار لمصلحته في كل مرّة؛ حيث لم يُفصح الكاتب والسياسي المخضرم عن فحوى علاقته بهذا التنظيم، وكيف يمكن أن يأمن على حياته داخل أراضي التنظيم الذي يمنع كل وسائل التواصل عن رعاياه؛ هذا التنظيم الذي قام في غير مرّة بتصفية صحفيين محليين وأجانب وبطريقة تكاد تكون أشبه بأفلام هوليود؟!
فقد كنّا نتوقع من الصحفي المخضرم أن يُعرّج ولو تلميحاً عن مدى تلك الحظوة التي ميّزته عن غيره من الصحفيين، ليسمح له الخليفة البغدادي بالتجول داخل أراضي خلافته المزعومة دون أن يجرؤ أحدٌ على المساس بشخصه، بينما يقوم داعش بخطف (الأب باولو دالوليو) الذي دخل الرقة في خريف 2013 بصفته وسيطاً لدى أمراء داعش بغية تحرير المخطوفين والمعتقلين من نشطاء الحراك المدني والسياسي، ولا يزال مصيره غامضاً بعد أن ضمّه التنظيم إلى قائمة المخطوفين لديه!
إذاً بماذا يفضل تودن هوفر الأب باولو كي يحظى هو بمباركة الخليفة وتصريحه له بالعمل، في حين يقوم التنظيم باختطاف الأب باولو ؟!
حينذاك لم أجد بُدّاً من مبادرته بالسؤال_ دون الانتظار لأخذ الإذن بذلك_ إذ بات واضحاً أنّ اللجنة المنظمة للحوار ضاقت ذرعاً بالأسئلة التي ربما قد تفسد عليهم مشروعهم هذا:
سيد تودن هوفر، حين زرت حضرتك في العام 2012 بشار الأسد لم تكن داعش قد وُجدت، كما أنّ معظم الفصائل الأخرى بما فيها النصرة لم يكن لها وجود باستثناء بعض الفصائل التي تشكّلت وسُميت بالجيش السوري الحر، هل يمكن لك أن تشرح لنا، وللجمهور رؤيتك حول أسباب تشكل داعش، وفيما لو كان الأسد له يدٌ في ذلك أم لا؟ وهل يمكنك أن تعدّ ما يجري في سورية حرب أهلية ذات طابع طائفي، أم أنها ثورة شعبٍ ضدّ دكتاتور قاتل؟!
هنا، أسقط في يد السيد تودن هوفر، فردّ باقتضاب موجزاً القضية برمتها قائلاً:
لا أحد يهتم يا صديقي
بمعنى إنّ العالم غير منشغل بما يقوم به أفراد الشعب السوري، وما سُمي بداية بالجيش السوري الحر، كما أنّ العالم المتحضر هذا ذاته لا يريد أن يسمع عن مقاتلي حزب الله اللبناني أو عصائب أهل الحق، أو الحرس الثوري الإيراني بقيادة قاسم سليماني؛ هذا العالم المتحضر يريد أن يسمع تماماً ما أراد له تودن هوفر وغيره من الإعلاميين أن يسمع.
فما يجري في سورية_ حسب ما أراد الفلم قوله_ هي حربٌ بين تنظيمٍ إرهابي بلغ إجرامه حدّاً يفوق التصور، وبين رئيس شاب يحمل شهادة طبّ العيون، ويلبس ربطة العنق، ويتحدث اللغات الأجنبية؛ وبالتالي حتى لو كان مُستبداً أو دكتاتوراً فهذا لا يهم، المهم بالنسبة لهم ألا يصل أبو قتادة الألماني ورفاقه إليهم.