في جولة جديدة من الصراع الدبلوماسي بين الدولتين والمستمر منذ عقود طويلة، هاهي كوريا الجنوبية تسعى وبكل قوة للبحث عن موطئ قدم لها داخل القارة الإفريقية في محاولة لسحب البساط من تحت غريمتها الشمالية والتي نجحت خلال السنوات الاخيرة في توطيد علاقاتها مع العديد من دول القارة لاسيما التي بها نزاعات سياسية وعسكرية.
“كيم جونغ أون” زعيم كوريا الشمالية رأي في القارة العجوز سوقا جيدا لترويج انتاجه من الاسلحة لاسيما في ظل الحظر المفروض عليه دوليا بسبب برنامجه النووي، وهو مادفعه لإقامة علاقات قوية مع أبناء القارة السوداء لاسيما بعدما باتوا المصدر الاساسي لتمويل منظومته النووية .
وفي المقابل لم تجد “بارك كون هيه” رئيسة كوريا الجنوبية بد من طرق أبواب بعض الدول الافريقية في محاولة للتضييق على الجارة المشاكسة من جانب والبحث عن فرص استثمارية جديدة لاسيما في شمال إفريقيا، حيث العلاقات المميزة التي تربطها بمصر والمغرب.
نستعرض من خلال هذه التحليل أبعاد التواجد الكوري في القارة الافريقية، وأسلحة كل دولة في مواجهة الاخرى، والأهداف الحقيقية وراء هذا التواجد، مع الوقوف على إحتمالات بسط نفوذ أي منهما على القارة، ومدى نجاح كل من سول وبيونج يانج في ترجمة سياستها الخارجية تجاه القارة إلى واقع عملي.
سول والبحث عن سوق استثماري جديد
بعد الإدانات التي وجهتها بعض الدول الإفريقية للبرنامج النووي لكوريا الشمالية، والذي ساهم في الإسراع بقرار الأمم المتحدة تجاه بيونج يانج، ما كان أمام سول إلا أن تبادر برد الجميل والعرفان بما قامت به دول القارة العجوز، وهو ما عبرت عنه ” بارك كون هيه” رئيسة كوريا الجنوبية بتصريحاتها التي جاء فيها : أن أهم ما في العلاقات الكورية الجنوبية تجاه إفريقيا أن الحكومة الكورية لا تعتبر إفريقيا سوقًا، بل شريكًا لابد أن يتوطد معه التعاون الاقتصادي على المدى المتوسط والمدى الطويل..، وذلك خلال زيارتها لمقر الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا الشهر الماضي.
هيه قدمت خلال لقائها برئيسة مفوضية الاتحاد الإفريقي دلاميني زوما حزمة من التعهدات الخاصة بمساعدة الدول الإفريقية في محاولة للنهوض بمستواها وتعويضها عن الدعم المقدم من كوريا الشمالية، في مقابل الالتزام بالموقف المناهض للبرنامج النووي لبيونج يانج، والتصدي له وتفعيل قرار الحظر.
تمحورت معظم التعهدات الكورية تجاه إفريقيا في الارتقاء بمستوى العنصر البشري من خلال دورات تدريبية مكثفة متبادلة بين الجانبين، كما تعهدت أيضا بتوفير فرص عمل لـ 10 آلاف من الشباب في أفريقيا، خلال السنوات الـ 5 القادمة؛ 6 ألاف منهم سيتلقون التدريبات في كل من كوريا وأفريقيا، إضافة إلى إرسال 4 آلاف متطوع لنقل الخبرات الكورية إلى أفريقيا .
الرئيسة الكورية كشفت عن انعقاد منتدى للتعاون الكوري الإفريقي في أديس أبابا خلال العام الجاري، والذي سيكون نقطة انطلاقة جديدة لتفعيل آفاق التعاون الاقتصادي بين الجانبين، مؤكدة التزام بلادها ببناء شراكة تعاونية اقتصادية شاملة مع أفريقيا بساهمتها بخبراتها التنموية في القارة الأفريقية، إضافة إلى محاولة إدخال التكنولوجيا المتطورة الحديثة للقارة السمراء من خلال إنشاء مركز أفريقي للابتكار التكنولوجي، لتعزيز علوم التكنولوجيا في القارة؛ وبناء القدرات في مجالي الصحة ومحاربة الأمراض.
جدير بالذكر أن زيارة رئيسة كوريا الجنوبية لإفريقيا تأتي كفرصة لتقديم رؤية كوريا لكسب الثقة بها كشريك في التنمية، خاصة بعد أن كانت العلاقات قد انخفضت في الفترة الماضية، فوفقًا لبيانات الحكومة شكلت شحنات كوريا الجنوبية إلى إفريقيا 1.4 % فقط من إجمالي صادراتها عام 2015، مما جعلها تعيد حساباتها لتوسيع التعاون في مختلف القطاعات، بما في ذلك تطوير البنية التحتية والعلوم والتكنولوجيا.
أما فيما يتعلق بجهود محاربة الإرهاب في محاولة لسحب البساط من تحت أقدام العدو الكوري الشمالي، فقد أكدت سول أنها ستكثف جهود التعاون مع إفريقيا في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف والقرصنة، كما دعت إلى ضرورة وجود رد عالمي موحد لمحاربة الإرهاب، فضلا عن استعدادها لتعزيز نشر قوات حفظ السلام في إفريقيا.
بدوره برر وزير خارجية كوريا الجنوبية يون بيونغ سي مساعي بلاده في تحويل قبلتها ناحية إفريقيا، بأنها برزت كلاعب اقتصادي كبير يمكن أن تصبح الشريك الأمثل لإفريقيا؛ لمساعدتها في طريقها للتنمية.
وزير الخارجية الكوري الذي رافق رئيسة الدولة خلال جولتها الإفريقية التي شملت ثلاثة دول إفريقية، كشف عن أن أكثر ما تهتم به سول في إفريقيا هو الاستثمار للمسئولين الحكوميين ورجال الأعمال من الجانبين، حسبما أشار موقع كوريا تايمز ، الذي أشار أيضا إلى سعي سول لتعزيز علاقاتها الدبلوماسية مع إفريقيا ومشاركة القارة الغنية بالموارد الطبيعية في النمو وتحقيق الاستقرار السياسي، من خلال حكومات منتخبة ديمقراطيًّا.
بيونغ سي خطب ود الأفارقة في أكثر من موقف في محاولة لخلق الأعذار حيال تجاهل سول لإفريقيا طيلة السنوات الماضية، ففي خطابه الأخير أمام العشرات من السفراء الأفارقة لكوريا الجنوبية وممثلي قطاع الأعمال الكوريين قال نصا “كوريا الجنوبية مثل إفريقيا، شهدت العديد من الصعوبات في الماضي، لكنها تغلبت عليها، ومضت في طريق النمو والتقدم، مما يجعلها الشريك الأمثل لإفريقيا في عملية التنمية”.
وعلى الفور قوبلت تحركات سول تجاه إفريقيا بترحاب شديد، وهو ما عبرت عنه رئيسة مفوضية الاتحاد الإفريقي “دلاميني زوما” بوصفها زيارة الرئيسة الكورية لمقر الاتحاد الإفريقي بأنها زيارة تاريخية تؤكد متانة علاقات التعاون بين كوريا الجنوبية وإفريقيا، مضيفة أن القارة الإفريقية ستستفيد من تجربة كوريا في مجال التنمية ووصفتها بالناجحة.
زوما أكدت أنها تتطلع إلى تبادل الخبرات مع كوريا الجنوبية في تنفيذ الخطة العشرية الأولى من أجندة أعمال الاتحاد الإفريقي للعام 2063 مؤكدة على أهمية الشراكة مع كوريا، باعتبارها الشريك الاستراتيجي الذي يعمل على ضمان قارة متكاملة تنعم بالاستقرار والأمن والازدهار.
رئيسة كوريا الجنوبية ورئيسة مفوضية الإتحاد الإفريقي
مصر والمغرب وجنوب إفريقيا أبرز الأسواق
لم تجد كوريا الجنوبية أفضل من منطقة شمال إفريقيا لاسيما المغرب ومصر فضلا عن جنوب إفريقيا لتكون النقاط الرئيسية للانطلاق نحو التواجد الإفريقي لاسيما في ظل ما يتمتعان به من مكانة اقتصادية هائلة كسوق مفتوح للمنتجات الكورية حسبما أشار نائب وزير الاقتصاد والمعرفة بكوريا الجنوبية، والذي أعلن أن بلاده ستوقع على مذكرة تفاهم مع المغرب ومصر بشأن رفع درجة التعاون الاقتصادي والتجاري والمالي وتنمية الاستثمارات الكورية بالدولتين لاسيما في قطاعات الإلكترونيك والنسيج وصناعة السيارات والطاقة الشمسية والريحية والتكنولوجيا الجديدة والبناء فضلا عن الصناعة التقليدية.
نائب وزير الاقتصاد الكوري كشف عن أسباب اختيار هذه الدول خصيصا لتكون نقطة الانطلاق نحو الأفاق الإفريقية، كان في مقدمتها، الموقع الجغرافي المتميز واتفاقيات الشراكة التي وقعتها مع بلدان مهمة، كالولايات المتحدة وأوروبا، فضلا عن علاقاتها التجارية والاقتصادية مع بلدان إفريقيا والشرق الأوسط.
أمّا فيما يتعلق بأسباب اختيار جنوب إفريقيا، فالموقع الجغرافي الذي يمثل ” رمانة ميزان ” القارة العجوز، فضلا عن المؤشرات الايجابية عن مستقبلها الاقتصادي، وتحسن العلاقات السياسية والدبلوماسية معها، كان أبرز دوافع سول لتكثيف حضورها الاستثماري في جنوب إفريقيا، وهو ما تجسد في حزمة من المشروعات التي نفذتها كوريا داخل الدولة الإفريقية.
وحسب تقرير صادر عن الاتحاد الكوري للتجارة الدولية، فكوريا الجنوبية تحتاج إلى التوقيع على اتفاقيات تبادل حر إضافية مع عدة دول للحفاظ على نمو تجارتها، والتي في الغالب ستكون مع الأسواق الناشئة الجديدة على وجه الخصوص في أفريقيا وأمريكيا الجنوبية.
بيونج يانج وتمويل برنامجها النووي
تعاني كوريا الشمالية منذ قرار الأمم المتحدة الحظر علي أسحلتها العسكرية 2009م من ضغوط شديدة تعرقل تنفيذ برنامجها النووي الذي كلفها المليارات ودفعت في سبيل الانتهاء منه ثمنا غاليا.
قبيل الحظر كان العائد من بيع الأسلحة هو المصدر الأساسي لتمويل البرنامج النووي لبيونج يانج، حيث تحتاج سنويا ما يقرب من 1.1بليون دولار للإنفاق على هذا المشروع واستيراد بعض قطع الغيار من الخارج، وهو ما تعرض في الآونة الأخيرة لهزة عنيفة بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليها.
كيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية وجد نفسه في مأزق حقيقي بسبب تراجع تصدير الأسلحة للدول المستوردة وفي مقدمتها ليبيا وباكستان والإمارات العربية المتحدة، والتي استجابت بفضل الضغوط الأمريكية لتنفيذ قرار الأمم المتحدة وتخفيض منسوب التعاون مع بيونج يانج، ومن ثم لم يجد الزعيم الكوري غير الشريك الإفريقي منقذا له ولبرنامجه النووي، لاسيما دول الشرق والجنوب الإفريقي التي أعلنت استعدادها لشراء السلاح الكوري وخرق قرار الحظر الدولي.
خرق القرار الأممي من قبل بعض دول الشرق الإفريقي فضلا عن دول جنوب الصحراء الكبرى لا يعد نوعا من التقارب السياسي أو الفكري بينها وبين نظام كيم أون، لكن البراجماتيكية التي تعيد رسم خارطة العلاقات هي من تتحكم في قبلة الدول وتوجهاتها الخارجية، فرغبة هذه الدول الإفريقية في شراء أسلحة غير مكلفة، والاستفادة من قدرة كوريا الشمالية لإصلاح وتجديد الشيخوخة في أنظمة الأسلحة العسكرية كان الدافع الحقيقي لخرق قرار الحظر.
بيونج يانج تعلن مواصلتها بناء برنامجها النووي رغم العقوبات الدولية
موقع ” دويتشه فيله” الألماني أشار إلى أن شراء بعض الدول الإفريقية للسلاح الكوري الشمالي ساهم بشكل كبير في استمرار تدفق العملة الصعبة لبيونج يانج، والذي بدوره ساعد نظام “كيم جونغ أون” على مواصلة بناء برنامجه النووي مقللا من تأثير العقوبات الدولية المفروضة عليه، مما دفعه للدخول في تحالفات سياسية وعسكرية مع بعض القادة الأفارقة بما يسمح له تسويق إنتاجه من الأسلحة والخدمات العسكرية، وهو ما يفسر مساندة الرئيس الأوغندي الرئيس يوري موسيفيني، لكوريا الشمالية مقابل تدريب جيشه على يد ضباط من كوريا الشمالية، وكذلك تدريب قوات الشرطة الأوغندية الخاصة.
الموقع الألماني استعرض بعض آفاق التعاون بين كوريا الشمالية وبعض الدول الإفريقية في المجال العسكري والتكنولوجي بما يسمح بخلق أسواق جديدة للسلاح الكوري، ففي 1980 كانت كوريا الشمالية تقوم بتدريب وحدة الرئيس موجابي (النخبة القتالية)، أما نيجيريا فلا تزال ترسل أفراد جيشها لحضور دورات في حماية القيادة بكوريا الشمالية، كما أن القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية تتلقى كثيرا من التدريبات في كوريا الشمالية، بما في ذلك لواء الحرس الجمهوري.
وفي عام 2014 تم تدريب 700 من ضباط الشرطة الأوغندية من قبل كوريا الشمالية، وبالرغم من صدور تقرير أممي يفيد بعدم قانونية هذه العمليات إلا أن التدريب لازال مستمرا، كما أن لدى بيونج يانج العديد من الوسائل القادرة على إغراء بعض الدول الإفريقية وكسبها لصفها ، منها امتلاكها لنظم كاملة جاهزة لاستخدام الأسلحة وقطع الغيار لأنظمة البنية التحتية، وتصميم الأسلحة والتكنولوجيا، وخطوط لإنتاج الأسلحة ، وإصلاح وصيانة ورفع مستوى الخدمات، وكذلك التدريب العسكري، فضلا عن امتلاكها لـ 54 مصنعا لإنتاج للأسلحة التقليدية، وهو ما أكسب نظام ” كيم جونغ أون” شعبية وثقة لدى بعض الدول الإفريقية، الأمر الذي أقلق السلطة في سول.
مما سبق يتضح أن الصراع بين الكوريتين لم يقتصر فقط على حدود الجوار بين البلدين، بل انتقل لساحة جديدة ذات مواصفات خاصة وعبر آليات ووسائل مختلفة، فهل ستصبح القارة العجوز خلال الفترة المقبلة ساحة للصراع السياسي الدبلوماسي بين بيونج يانج وسول؟ وهل يصب ذلك في صالح الشعوب الإفريقية؟