تحاول الحكومة المصرية بكل الوسائل والسبل الممكنة ضبط السوق السوداء بفرض عقوبات وإجراءات على التجار الذين يحاولون التلاعب بأسعار الصرف، ومع كل الإجراءات السابقة التي اتخذتها الحكومة المصرية من نشر الوعي والتحذير وخفض سعر الجنيه مقابل الدولار وضخ المزيد من الكميات الدولارية إلا أنها لم تأتي أكلها حتى الآن بدليل عدم تحسن سعر الصرف في السوق والفجوة لا تزال تتسع بين السوق السوداء والسوق الرسمية.
وقد اجهت الشركات والمستثمرين الأجانب في مصر صعوبات كبيرة في الفترة الماضية عند تحويل أرباحهم إلى الخارج بالعملة الأجنبية، بعد انخفاض الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى المركزي إلى النصف تقريبًا حيث وصلت إلى 17.52 مليار دولار حسب آخر البيانات في مايو /أيار الماضي، وحسب آخر عطاءات البنك المركزي فإنه أبقى السعر عند 8.78 جنيهات مقابل الدولار بينما بلغ السعر في السوق السوداء 10.9 جنيهات للدولار.
يأمل المركزي أن يمتلك تلك العصا السحرية! التي من خلالها يستطيع القضاء على السوق السوداء في البلاد، فالقضاء على تلك السوق بات ضروريًا لاستعادة الثقة بالاقتصاد المصري بشكل عام واستعادة ثقة المستثمرين بشكل خاص لتعزيز الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث ينفر المستثمر من العملة التي تتقلب بشكل مستمر وتؤدي لتقليص أرباحه.
مشروع قانون من الحكومة
وافقت الحكومة المصرية يوم الأربعاء الماضي على مشروع قانون يفرض عقوبات بالسجن على من يبيعون العملة الأجنبية خارج القنوات الرسمية في تصعيد لحملة البنك المركزي على السوق السوداء، حيث شن البنك المركزي حملة على مكاتب الصرافة التي تتاجر بالدولار بسعر يتجاوز السوق الرسمية، علمًا أن القانون لا يزال مشروعًا غير قابل للتنفيذ حتى يتم الموافقة عليه من قبل البرلمان المصري.
شمل القانون الجديد عقوبة الحبس لمدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على ثلاث سنوات وغرامة تتراوح بين مليون وخمسة ملايين جنيه لكل من يثبت عليه التلاعب بأسعار الصرف. ويمنح محافظ المركزي سلطة تعليق ترخيص أي شركة صرافة لمدة عام وفرض غرامة في حال مخالفة القواعد التي يفرضها البنك المركزي، وفي حال تكرار المخالفة فإن المركزي يعمد إلى إلغاء ترخيص الشركة.
هل من سبيل للقضاء على السوق السوداء؟
السوق السوداء أو الموازية أو الاقتصاد التحتي كلها تسميات تعبر عن تعاملات تجارية يتم فيها تجنب كل القوانين والتشريعات التجارية والضريبية المفروضة من قبل الدولة، ويختلف حجم هذه التعاملات من بلد لآخر بحسب تطور البلد والحرية الاقتصادية والفساد فيها، حيث يكون حجم السوق السوداء أصغر في الدول التي تملك حرية اقتصادية كبيرة ويزداد حجمها في الدول التي يكون فيها حجم الفساد أكبر وحرية اقتصادية أقل.
المشاركين في السوق السوداء هدفهم التهرب من دفع الضرائب بمختلف أشكالها وغالبًا ما تكون البضائع دخلت الأسواق الوطنية دون تسجيلها لدى المؤسسات الرسمية، وفي حال عدم قدرة الإنتاج الوطني والاستيراد على تغطية الطلب الداخلي تنشأ حالة سوقية يزداد فيها الطلب بشكل كبير على العرض فيقوم العارضون ببيع البضائع بشكل خفي وبأسعار عالية للأشخاص والمؤسسات المستعدين لدفع أسعار مرتفعة على تلك البضائع.
لا يمكن القضاء على هذه السوق بشكل مطلق وحتى في الاقتصاديات المتقدمة توجد أسواق سوداء في مجالات مختلفة حيث تنشأ سوق سوداء في بيع تذاكر المباريات الكبيرة والمهمة.
الحال نفسه في سوق الصرف إذا كان السعر يتم تحديده من قبل المركزي فقط (نظام سعر الصرف الثابت) ففرصة نشوء سوق سوداء تكون أكبر من السوق المرنة. ففي حال عدم وفاء المركزي بمتطلبات السوق واحتياجاته من الدولار سيقود هذا لنشوء سوق صرف موازية (سوداء) تعمد لعرض ما لديها من دولار بأسعار أعلى للشركات والمستثمرين المستعدين لدفع أسعار عالية للحصول على الدولار مستغلة قلة الدولار في السوق.
القضاء على هذه الظاهرة يعني بتر السوق الخاص الذي يتداول بالسوق السوداء من خلال حبس وإغلاق وسحب رخصة كل شركة أو محل أو شخص يثبت عليه التلاعب بسعر الصرف، وغالبا بسبب الفساد المستشري في البلد فإن هذا الإجراء لا يعد ناجعًا وحتى لو حُبس التاجر فإنه يخرج ويعاود العمل، ولا تؤدي هذه الإجراءات سوى لمفاقمة الأزمة لذا يعد نجاح هذا الخيار في ضبط السوق السوداء شبه مستحيل.
والخيار الأخر هو تخلي المركزي عن تثبيت سعر الصرف وجعلها حرة بيد السوق يتحدد وفق العرض والطلب، وفي ذلك الوقت ستقوم السوق بمن فيها من طالبين وعارضين بفرض التوازن على سعر الصرف.
والمركزي المصري من خلال القانون الجديد يعمد إلى مفاقمة ظاهرة السوق السوداء وسيؤدي إلى اتساعها بشكل أكبر لإنها تعطي إشارة للسوق أن المركزي لا يملك دولار واستنفذ كافة الحلول للتعامل مع التجار في السوق وبدأ بسياسة العنف والغرامة وسحب الرخصة. ولا مفر للمكزي من تقليص حجم السوق السوداء بضبط بوصلة سعر الصرف إلا من خلال تلبية طلبات المستثمرين الأجانب للدولار.
تجربة البنك المركزي السوري
وعلى المركزي المصري أن يعتبر من التجارب العديدة المطبقة في البلدان المجاورة فالمركزي السوري من قبله استخدم كافة الإجراءات العنفية للسيطرة على السوق السوداء في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، ولكن هذا لم يوقف تمدد السوق واتساع الفجوة بين السعر الرسمي والسعر الموازي. ولا مناص سوى باتخاذ تدابير جذرية تحل المشكلة وتعيد التوازن لسوق الصرف.
فإن كان يظن المركزي المصري أنه قادر على ضبط السوق فعليه أن يثبت ذلك بكل شفافية ويبين للسوق والشركات والمستثمرين أن خزينة الدولار ممتلئة ولا مشكلة في تلبية كافة طلبات الشركات والمستثمرين الأجانب، وإلا فعليه تغيير آلية تحديد سعر الصرف بآلية أخرى والتخلي عن إدارة سعر الصرف وتركها للسوق الحرة لتحدد هي بطريقتها السعر إذا كان يريد بالفعل القضاء على السوق السوداء.