مر الموقف الأمريكي من الثورة السورية بعدة تقلبات وتغيرات متوالية يرجع ذلك بالأساس للنظرة الأمريكية العامة لدورها في الإقليم خاصة بعد أحداث الربيع العربي وما تلاها، وقد لعبت المتغيرات على الساحة السورية دورًا هامًا أيضًا في تشكيل الموقف الأمريكي مما يحدث في سوريا، والذي وصفه البعض بـ “المتخبط والمضطرب”.
وإذا استطعنا القول بأن هذا الموقف الأمريكي الحالي بغض النظر عن تقييمه يعود إلى عدة تفاعلات بين الداخل الأمريكي والخارج في إقليم الشرق الأوسط لا يمكن أن نغفل في هذا السياق التفاعلات الداخلية الأمريكية بين المؤسسات التي أنتجت هذا الموقف الموصوف بالمضطرب أو الهش.
توجهان للولايات المتحدة في سوريا
وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” ترى أن الأولوية الآن في الأزمة السورية ليست للحل الشامل للقضية، وإنما بالحسم العسكري أمام داعش سواء بالتحالف مع روسيا والأسد أو الاكتفاء بحليف كالأكراد في الشمال السوري.
وفي نفس الوقت يستبعد البنتاجون أن يتحالف مع جماعات المعارضة المسلحة المحاصرة في العديد من المدن السورية، تحت ذريعة تحالفها مع تنظيم “جبهة النصرة” فرع القاعدة في سوريا.
وعليه فإن الولايات المتحدة لم تأخذ أي موقف جدي من القصف الروسي المميت على حلب والمناطق المحيطة بها، فيما ظهر وكأنه تصديق للرواية الروسية المدعومة براوية نظام الأسد التي تقول أن كافة هذه المناطق هي بؤر إرهاب يجب تطهيرها عسكريًا، رغم علم الولايات المتحدة وبالتحديد وزارة الدفاع أن القصف الروسي عشوائي يستهدف المدنيين بغية تركيع هذه المدن المناوئة للأسد.
لكن التحالف الضمني غير المعلن بين البنتاجون وروسيا يقتضي الصمت عن هذه المجازر، للتركيز على المعركة مع داعش بالتعاون مع وحدات حماية الشعب الكردية التي تدعمها روسيا أيضًا.
تردد دوائر داخل البنتاجون أن المعارضة السورية الموصوفة بالمعتدلة في وجهة نظر بعض صناع القرار في أمريكا متحالفة مع جبهة النصرة في مناطق سيطرتها، لذا لا يمكن الاعتماد عليها مطلقًا في مسألة قتال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، بهذا حصر البنتاجون أهداف الولايات المتحدة في هذا التوقيت في حصار داعش، وتراجعت على أساس هذا الرغبة في الحل السياسي الناجز سواء برحيل الأسد أو غيره.
أما وجهة النظر الأخرى التي تصدر عن دوائر صناعة القرار الأمريكي في هذه المرحلة فمغايرة لهذه الاستراتيجية المسيطرة على عقلية البنتاجون، حيث تقود وكالة المخابرات الأمريكية المركزية “سي آي أيه” قضية دعم المعارضة السورية المسلحة التي تطلق عليها وصف “المعتدلة”.
المخابرات الأمريكية تقول أن هزيمة “داعش” مستحيلة في ظل وجود الأسد على رأس السلطة، مؤكدين أن أحد أهم أسباب ظهور تنظيم الدولة على هذا النحو هو بشار الأسد نفسه ونظامه، وأن أي قضاء ظاهري على داعش في ظل وجود الأسد لن يحقق ما تأمله الولايات المتحدة من استئصال للتنظيم تمامًا، بل ستظل عوامل ظهوره موجودة ببقاء الأسد.
وعلى هذه النظرة تدعم الاستخبارات الأمريكية بالتعاون مع بعض القوى الإقليمية مجموعات مسلحة مختلفة بالتدريب والسلاح، معتبرين أن استراتيجية إسقاط الأسد وقيام حكم علماني في سوريا كفيل بنزع الغطاء الطائفي الذي تقوم على أساسه داعش، وستكون مرحلة القضاء على داعش أسهل طبقًا لنظريتهم.
وفي الرسائل الإعلامية المتبادلة في هذا الصراع الأمريكي – الأمريكي على الأراضي السورية ترد الاستخبارات الأمريكية على ادعاءات البنتاجون بشأن تحالف المعارضة في حلب مع جبهة النصرة عسكريًا، بأنه وضع طبيعي في ظل الهجمات الشرسة على المدن السورية بفعل روسيا والأسد.
أي أن الاستخبارات الأمريكية تنظر إلى التعاون بين جبهة النصرة وبعض فصائل المعارضة السورية على أنه في الإطار العسكري فقط، بمعنى أنه تحالف الحاجة بشكل تكتيكي بفعل الضغط على جبهات القتال، وكون جبهة النصرة أحد أكبر وأقوى الفصائل العسكرية على الأراضي السورية، وبراجماتيًا يمكن النظر إلى هذا التحالف الذي يتحدث عنه البنتاجون وليس بصورة عقائدية، كما ترى الاستخبارات الأمريكية أنه في حال تدعيم هذه المعارضة بما يكفي ستتخلى عن هذا التحالف التكتيكي مع جبهة النصرة.
هذه الرؤية عبر عنها ما نقلته صحيفة “دايلي بيست” عن مسؤول استخباراتي أميركي قوله: “يتسم وضع المعارضة بالمرونة في وجه الهجمات الشرسة التي تشنها القوات السورية والروسية”.
مضيفًا: “وتعد هزيمة الأسد شرطًا أساسيا للقضاء على داعش. فطالما هناك قائد مخفق في دمشق ودولة مخفقة في سوريا، سوف يظل تنظيم داعش يجد الإقليم الذي يستطيع العمل من خلاله”.
هل هناك صراع بين الرؤيتين؟
لا يمكن الجزم بوجود صراع بالمعنى الحرفي للكلمة في هذا الصدد، لكن يمكن اقتباس ما قالته جنيفر كفاريلا، المحللة السورية بمعهد دراسة الحروب بواشنطن أن للولايات المتحدة برنامجان مستقلان يدعم كل منهما الآخر ويتعارض في بعض الأحيان معه.
في الوقت الذي ظهرت فيه أصوات داخل واشنطن تنادي بضرورة تدخل البيت الأبيض في هذا الصراع المؤسساتي الأمريكي الذي أظهر الولايات المتحدة تارة بصورة الضعيف، وتارة بصورة المتحالف مع روسيا، إلا أن مراقبين يؤكدون أن البيت الأبيض في أضعف حالاته في هذه الأيام ولن يستطيع وضع حد لهذا الصراع أو على الأقل توجيهه لقرار مصيري، بسبب استعدادت الرئيس الأمريكي باراك أوباما للرحيل من البيت الأبيض، بعد أن أوشكت رحلته على النهاية.
إرهاصات سابقة لهذا الصراع
كانت وسائل إعلام أمريكية قد نشرت من قبل أن المسلحين الذين تدعمهم وكالة المخابرات الأمريكية “سي آي إيه” دخلوا في اشتباكات مع المسلحين الذين يدعمهم البنتاجون، وبالتحديد ما كتبه ريك موران في موقع “أمريكان ثانكر” عن هذه الاشتباكات التي وقعت بالقرب من حلب والحدود السورية التركية.
حيث أشار إلى أن شهر فبراير الماضي شهد اشتعالًا في القتال بين جماعة فرسان الحق المدعومة من “سي آي أيه” في مدينة ماري التي تبعد 20 ميلًا عن شمال حلب، بسبب هجوم قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من البنتاجون.
وكان الموقع قد نقل عن السيناتور الديمقراطي أدم شيف العضو بلجنة المخابرات بمجلس النواب إن هذه الصراعات بين الجماعات التي تدعمها الولايات المتحدة ظاهرة جديدة، ووصفها بأنها لعبة شطرنج ثلاثية الأبعاد في أرض المعركة بسوريا.
وعليه فإن أطراف داخل الإدارة الأمريكية ترى هذا الصراع على نحو أن هذه الحرب معقدة بين أطراف متعددة حيث الخيارات محدودة للغاية، وكذلك هم بحاجة ماسة إلى شريك قتالي فعال على الأرض كي يستطيعوا القضاء على داعش، لذلك رأوا الاستمرار مع محاولة صياغة هذه العلاقات المتنافرة.