شهدت العلاقات الأردنية الإيرانية موجات من المد والجذب بين القطيعة والدبلوماسية الحذرة، منذ سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي، ووصول الثورة الإسلامية إلى الحكم في العام 1979، وزاد توتر العلاقات بعد مساندة الأردن للعراق في حربه مع إيران (1980-1988)، قبل أن تعود إلى طبيعتها من جديد بعد وفاة زعيم الثورة آية الله الخميني عام 1989، وبادر الأردن وقتها بإغلاق مكاتب حركة مجاهدي خلق المعارضة لإيران في عمان، قبل أن تشهد انهيارًا جديدًا بعد تأييد عمّان لأبو ظبي في أزمة الجزر الإماراتية الثلاث المتنازع عليها بين الإمارات وإيران، ثم تعقدت أكثر إثر غزو العراق 2003 واندلاع ثورات الربيع العربي 2011، واستغلال إيران لها لفرض إيديولوجيتها بالمنطقة.
عداء تاريخي
خلال السنوات الـ 40 الماضية، وتحديدًا منذ العام 79، والأردن هدف ثمين في المشروع الإيراني للتوسع بالمنطقة، وقد حاولت إيران كثيرًا إدخاله في هيمنتها تارة بالدبلوماسية، وأخرى بالقوة الناعمة وثالثة بالطائفية، حينما طلبت من الحكومة الأردنية أكثر من مرة فتح باب السياحة الدينية للإيرانيين بشكل منظم، إلا أن الأردن رفض، وعرضت على الأردن تحويل منطقة المزار الجنوبي في مدينة الكرك إلى حوزة على غرار حي السيدة زينب في دمشق، وإنشاء مطار خاص لنقل نصف مليون زائر سنويًا إلى هناك، وهو الطلب الذي قوبل أيضًا بالرفض، بيد أن بوادر التقارب بين اليسار الأردني وإيران مؤخرًا تشي بالعكس، وربما تمهد لاختراق إيراني جديد وقوي للداخل الأردني قريبًا، وبدأت تظهر في الأفق محاولات إيرانية، ترتكز على بناء لوبي إيراني في الأردن قوامه اليسار.
انتهازية ومكيافيلية
الغريب في هذا التقارب بين الولي الفقيه في إيران وعلمانيي الأردن، هو البعد الإيديولوجي التام للطرفين أحدهما عن الآخر، حيث يمثل قيادة اليسار الأردني الداعي للتقارب مع إيران قياديان ماركسيان كبيران بالأردن، أحدهما هو الكاتب ناهض حتر، والآخر هو رئيس رابطة الكتاب الأردنيين السابق موفق محادين، ما يعني أن انتهازية فكرية ومادية تقود هذا التقارب، لكن اتجاهها غير محدد، هل هي انتهازية علمانيي الأردن الماديين في توجههم للتحالف مع الفكر الثيوقراطي للولي الفقيه بطهران، أم أن الولي الفقيه أفلس ولم يعد له من حليف إلا من لا يؤمن بالأئمة المعصومين أصلاً؟!
عمامة الخامنئي
الأغرب أن الدولة الإيرانية تمثل وبكل وضوح الكثير من الأفكار والسياسات التي يعاديها اليساريون والقوميون، ما يدفع بسؤال هام هو لماذا قرر اليساريون أن يلبسوا عمامة الخامنئي”؟
الإجابة عن هذا التساؤل ليست بالأمر الصعب، ففيما يخص الهيمنة التي تسعى إيران إليها فهي تتلخص في فرض سيطرتها على الخليج العربي، أو ما تطلق عليه الخليج الفارسي، لتهيئة أنسب الظروف لفرض مصالحها الحيوية، ويلعب النفط الايراني دورًا مركزيًا في المخطط الهادف إلى فرض الزعامة الشيعية على باقي دول الجوار الجغرافي، لضمان الزعامة الرئيسية للحكم الإيراني، أما عن توجهها لليساريين في العالم العربي خاصة الأردن ومصر، فهذا يعني أن إيران استطاعت أن تنتقي هدفها جيدًا وبحرفية، حيث يعاني اليساريون بالدولتين خصوصًا الأردن تهميشًا كبيرًا، وفقدوا الكثير من الدعم الشعبي لصالح الإسلاميين، أي أن توافق المصالح وعزلة اليسار وظهور الإسلام السياسي، هي الأسباب الأولى والرئيسة لهذا التوجه.
العصا والجزرة
المتابع لآليات السياسة الإيرانية يفهم تمامًا مخططاتها بالمنطقة، ويعلم جيدًا أنها تنتهج الاستراتيجيات الغربية بالخلط بين القوة الصلبة والناعمة، فبعد أن أكملت إيران بناء ترسانة حزب الله في بيروت، دفعت به إلى العمل السياسي، وأصبح يشكل خليطًا من المقاومة والميليشيا والحزب السياسي، وفعلت ذلك في العراق والبحرين واليمن والكويت، وتحاول الآن في الأردن، لكنها عكست الأمر حيث بدأت بالواجهة السياسية قبل اللجوء للعمل العكسري، بسبب عدم وجود تجمع شيعي في عمان من المواطنين يساعد في إعادة النموذجين اللبناني والعراقي تحديدًا، لكنها بالقطع تسعى لتكرار التجربة الإفريقية مثلما حدث في نيجيريا والكاميرون حيث تم استقطاب فئة من المواطنين في كلا البلدين عبر دعاة التشيع وتحويلهم إلى شيعة، ومن ثم فصلهم عن محيطهم المسلم السني، مع التركيز على جذب بعض أبناء الأمراء والسلاطين المحليين، وتهيئة كوادر سياسية وإعلامية لتعبر عن هذه الفئة المتشيعة الجديدة، ومن ثم تأسيس عمل عسكري ميليشياوي لهم، وفعلًا أوقفت السلطات في الكاميرون ونيجيريا وغيرهما من دول إفريقيا شحنات أسلحة تهرب للمجموعات الشيعية المحلية.
التجربة الإفريقية
ما يتم في الأردن الآن هو ذاته ما تم في إفريقيا سابقًا، حيث تدعم الحركة العلمانية “اليساريون” إنشاء جمعية إيرانية للصداقة مع الشعب الأردني، تنظم البعثات العلمية والتبادل الثقافي والتجاري وتخدم الإعلاميين والمثقفين ورجال الأعمال، جنبًا إلى جنب مع العمل على تحسين العلاقات الرسمية بين البلدين في مجالات عديدة، لا تتطلب بالضرورة التوافق السياسي.
مدخل الإسلاميين
قبل توجهها لليسار الأردني حاولت إيران استغلال توتر العلاقات بين الحركة الإسلامية – خاصة تيار الإخوان المسلمين – والدولة، فعلى خلاف العلاقة المتوترة بين الحكومة الأردنية وإيران منذ اللحظة الأولى لقيام جمهورية الخميني، كان موقف الحركة الإسلامية في الأردن مرحبًا ومؤيدًا له، حيث شارك المراقب العام لجماعة الإخوان في الأردن وفد جماعة الإخوان العالمي بزيارة الخميني، وتهنئته بالحكم والجمهورية الجديدة، كما تم إقامة احتفال كبير لنجاح الثورة الإيرانية في المسجد الحسيني، وهو أهم مساجد العاصمة عمان، وبقي موقف الحركة الإسلامية مؤيدًا لإيران في حربها مع العراق.
ومع تحسن العلاقات السياسية بين البلدين بعد وفاة الخميني، أصبحت الحركة الإسلامية ضيفًا مركزيًا على احتفالات السفارة الإيرانية بعمان في مناسبات مثل أسبوع القدس، وقد ترافق هذا مع تصاعد علاقة حركة حماس بإيران، ساهم في ذلك تلاعب إيران بورقة القضية الفلسطينية من خلال الشعارات البراقة ومناسبة يوم القدس في رمضان، وجاء تقارب حماس مع إيران – عقب إخراجها من الأردن – ليقوى الصلة بإيران، وذلك أن حماس كانت جزءًا من الحركة الإسلامية الأردنية ثم استقلت تنظيميًا.
هذه العلاقة الوطيدة بين الإخوان وإيران هي ما دعت الحكومة لاتهام الحركة الإسلامية وإيران بالتعاون في تأجيج الشارع الأردني مطلع الربيع العربي، خاصة مع تصريحات القيادة الإيرانية العليا بأن إيران هي ملهمة الربيع العربي، بالإضافة إلى تصريحات قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في ندوة بطهران مطلع العام 2015 عن قدرة إيران على تحريك الشارع الأردني ضد الحكومة والنظام، وهو ما نفته السفارة الإيرانية بعمان، قبل أن تنهار هذه العلاقة بين الحركة الإسلامية وطهران مع اندلاع الثورة السورية، وانحياز الإخوان وحماس لصالح الثورة والشعب، ضد الموقف الإيراني الذي دعم إجرام بشار.
حلم الهلال الشيعي
تدرك الدولة الفارسية أهمية نفوذها في الأردن والهيمنة عليه إذا تمكنت، فهذا يفتت محور الاعتدال العربي، المنافس الحقيقي للأطماع الإيرانية، كما أن نفوذ إيران في الأردن يزيد من تلاعبها بالقضية الفلسطينية، وهذا يزيد من شعبيتها في أوساط العرب والمسلمين، وبذلك تتمكن من تحقيق حلم الهلال الشيعي، لذلك فهي تحاول بجانب لوبي اليساريين اختراق الأردن بالمشاريع الاقتصادية، فعرضت إقامة مشروع نقل مياه حوض الديسي للعاصمة عمان، وهو ما رحّب به الأردن وطلب من الإيرانيين دخول المناقصة الخاصة، ولكنهم اشترطوا إحضار العمالة الخاصة بالمشروع من إيران، وهنا رفض الطلب لأن السلطات أدركت نوعية العمال التي ستحضر وأنها مرتبطة بالحرس الثوري الذي يسيطر على كثير من الشركات في إيران.
الخلاصة
ستحاول إيران وبشتى الطرق تطبيق وفرض أيديولوجيتها، متبعة سياسة النفس الطويل لتحقيق غايتها بالنفوذ والهيمنة على الأردن، خصوصًا وأن عمان تفتقد لأي مقومات ذاتية رسمية وشعبية قادرة على الصمود طويل المدى في وجه المخططات الإيرانية، وما لم يتم دعم الأردن خليجيًا وخاصة من المملكة العربية السعودية، في تجاوز العقبات المالية من جهة، وتأسيس وعي راسخ بالخطر الإيراني لدى السلطة والشارع من جهة ثانية، فالمستقبل مليء بالمفاجآت!