“حلّق كالفراشة، إلسع كالنحلة”، تلك كانت كلمات محمد علي الشهيرة، أسطورة الملاكمة الذي غادرنا قبل أسبوع واحد، ليخرج جثمانه البارحة مُشيّعًا على أكتاف مشاهير العالم الذين اجتمعوا تحت مظلة احترام وحب أحد أعظم رجالات القرن العشرين.
حاملو النعش ومن ضمنهم لينوكس لويس والممثل ويل سميث، يحملون نعش علي إلى السيارة استعدادًا لبدء مسيرة التأبين.
كان من المتوقع أن يصطف حوالي 500,000 شخصًا على طول خط شارع لويزفيل بكنتاكي الممتد على طول حوالي 23 ميلًا، ليتم بعدها إقامة جنازة محمد علي أمام 22,000 شخص في مركز ساحة كنتاكي يام في لويزفيل .
أثناء الجنازة، ألقى الرئيس السابق بيل كلينتون كلمته في الفقيد، مما يعني بأن جهاز الخدمة السرية كان مكلفًا بإجراءات الحراسة الأمنية المشددة، فضلًا عن انتشار أجهزة الكشف عن المعادن في كل زاوية من المكان، ومن هذا المنطلق، كان من الصعب ألا نشعر بتعارض المشهد وتناقضه؛ أطواق أمنية، جهاز الخدمة السرية، مركز كنتاكي يام، كل ذلك كان يمثّل طريقة مؤلمة لنقول وداعًا لرجل مشى في الشوارع في ريعان صباه دون حراس شخصيين قائلًا: “أنا هدف سهل، أنا في كل مكان؛ الجميع يعرفني، أمشي في الشوارع يوميًا، ولا أحد يقوم بحراستي، ليس لدي بنادق ولا شرطة، لذا إذا أراد أحدهم استهدافي، فقولوا له أن يأتي وينهي الأمر معي، وذلك إذا كان بإمكانهم تجاوز الله، لأن الله هو الذي يسيطر على الرصاصة”.
لربما سيصيبنا العجب لو عرفنا بأن علي قضى عقدًا من الزمان يخطط لجنازته، ولكن المشهد المهيب الذي خرج به جثمانه بعد ظهر يوم الجمعة قد يروي لنا جزءًا من الحكاية؛ فمن خلال المحبين الذي انتشروا على طول ميل من مسقط رأسه، من ذكرياته المارقة التي اختلطت بسنوات اضطرابات أميركا السياسة، ومن الصلوات التي ارتفعت جامعة مختلف الأديان تحت سقف واحد، يمكننا أن نلمس بعضًا من الإرث العظيم الذي خلّفه الإنسان الرياضي البطل.
تم تأبين علي في ساحة رياضية كبرى، ومن بين آخرين، حضر الجنازة قس، إمام، حاخام، راهب، رئيس سابق للولايات المتحدة، وممثل كوميدي شهير، رثوا جميعهم شخصًا واحدًا، يعد رمزًا لرجل يرى نفسه ليس مواطنًا أمريكًا فحسب وإنما إنسان ينتمي للعالم بأسره.
سافر نعش علي البارحة لمسافة تبلغ الـ20 ميلًا ضمن مسقط رأسه في لويزفيل كنتاكي، حيث استقبله وحياه عشرات الآلاف من الناس الذين ألقوا الزهور على الكفن وهتفوا باسمه.
وفي يوم الخميس، أقيمت جنازة إسلامية تقليدية حضرها كبار رجالات العالم، من ضمنهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والملك الأردني عبد الله الثاني، حيث أشارت الأنباء إلى أن الرئيس التركي غادر أمريكا قبل استكمال مخططه بتشييع علي يوم الجمعة جرّاء خلاف لم يتم الإفصاح عن أسبابه.
مثّل حفل التوديع التاريخي جزءًا من تطلعات علي لتولي مركز الريادة، مرة أخرى، في بث رسائل التسامح والتعاطف الديني، وذلك من خلال حضور المسيحيين واليهود والبوذيين والهنود كمتحدثين ضمن حفل الوادع، في مناسبة عبّرت حقًا عن مبادئ نبذ الطائفية والاجتماع تحت سقف الإنسانية.
“عندما قاربت نهاية محمد قال بأنه يريد استخدام حياته ووفاته باعتبارها لحظة عظة”، قال أرملة علي، لوني، خلال الجنازة، معبّرة عن شكرها العميق للأصدقاء والأحباء الذين دعموا مسيرة زوجها.
أرملة محمد علي، لوني، في حفل التأبين.
على الرغم من اعتباره أعظم رياضي في القرن العشرين، إلا أن علي لم يرتض بتاتًا أن تقتصر سيرة حياته على المنحى الرياضي، وإذا كان هناك عبارة واحدة يمكنها أن تعنون البنط العريض لحياته فيجب أن تكون تلك العبارة التي أطلقها في صباح فوزه بأول لقب في فئة الوزن الثقيل: “ليس عليّ أن أكون ما تريدونني أن أكون عليه، أنا حر في أن أكون كيفما أريد”.
صورة من مركز كنتاكي في لويزفيل حيث جرت مراسم التأبين ليلة الجمعة.
اجتمع حوالي 20.000 شخصًا في ساحة مركز كنتاكي يم لحضور حفل التأبين الذي استمر لأكثر من ثلاث ساعات، حيث ألقى حوالي 13 شخصًا كلماتهم، كما تخلل الحفل صلوات قام بها رجال الدين من مختلف الأديان.
جانب من الشعائر البوذية التي جرت ضمن الجنازة.
الشيخ حمزة عبد الملك يقرأ آيات من القرآن الكريم خلال حفل التأبين.
كان من بين أول المتحدثين القس كيفين كوسبي من كنيسة سانت ستيفن في لويزفيل، والذي قال بأن علي احتل مكانه في التاريخ من خلال رفضه للسرد الأمريكي، الذي رفض منذ بداياته الأولى الاعتراف بالأفارقة الأميركيين كمواطنين وبشر كاملين، وتابع موضحًا بأن مواقف علي كانت مهمة لأن العصر الذي عاشه البطل ساعد على تعريفه تمامًا كما ساعدت الثورة الأمريكية على تعريف جورج واشنطن والكساد العظيم على تعريف فرانكلين روزفلت.
القس كيفين كوسبي متحدثًا في حفل تأبين علي.
“لقد تجرّأ على أن يحب الناس السود في الوقت الذي كان السود يعانون من مشكلة في حب أنفسهم”، قال الدكتور كوسبي، وأضاف: “لقد تجرأ على التأكيد على جمال السود، وتجرأ على التأكيد على قوة وقدرة الأمريكيين من أصل أفريقي، لقد تجرأ على حب العرق الأميركي الأكثر كرهًا”.
من جهة أخرى، لم يحضر الرئيس أوباما حفل التأبين جرّاء انشغاله بحضور حفل تخرج ابنته من المدرسة الثانوية في واشنطن، حيث اكتفى بإرسال رسالة قال فيها بأن علي ألهمه للتفكير بالمدى الذي قد يستطيع أن يصل إليه هو نفسه ذات يوم، وأضاف في رسالة فيديو مصورة قائلًا: “إنها لحالة نادرة للغاية أن تستقطب شخصية مخيلة العالم بأسره، والأمر الأكثر ندرة عندما تقوم هذه الشخصية بذلك من خلال الانفتاح، الضحك، السخاء، والشجاعة، لقد كان علي فريدًا من نوعه، وبتقديري، سيكون دائما الأعظم”.
أوباما يقدم تعازيه بعلي في رسالة فيديو مصورّة.
حضر حفل التأبين كذلك الممثل الكوميدي المخضرم بيلي كريستال، وخلال كلمته التي ألقاها، روى قصته عندما أصبح صديقًا لعلي ودعاه الملاكم ليمارس بالتدريب الصباحي ضمن أحد النوادي، ولكن عندما اكتشف الأخير بأن النادي لا يقبل اليهود، شعر بالغضب وصاح قائلًا: “أنا مسلم أسود، وسمحوا لي بالتدريب هناك”، ومنذ تلك الحادثة لم يقم علي بممارسة التدريب في ذلك النادي مجددًا، وتابع كريستال موضحًا بأنه وعلى الرغم من فقدان علي لقدرته على الكلام خلال سنوات مرضه الأخيرة، إلا أنه ظل يشكل قوة كبيرة ضمن البعثات الإنسانية؛ “في نهاية المطاف، أصبح علي رسولًا صامتًا من أجل السلام، علمنا بأن الحياة تصبح أفضل عند بناء الجسور بين الناس، وليس ببناء الجدران”، قال كريستال.
الممثل الكوميدي بيلي كريستال في حفل التأبين.
أضاف كريستال بأن موقف علي برفضه الخدمة في حرب فيتنام لأن إيمانه لا يتواءم مع قيامته بدور قتالي، يشكّل قدوة للمجتمع، “لقد كان هناك الملايين من الشباب ممن هم في سني، يتم تأهيلهم للدخول في مشروع حرب لم يكونوا يؤمنون بها، علي هو الذي وقف معنا من خلال وقوفه مع نفسه”، قال كريستال، علمًا بأن موقف علي برفض الانضمام إلى الجيش الأمريكي في حرب فيتنام كلّفه حينها خسارة لقب الملاكمة ووضعه في خطر السجن، ذاك الموقف الذي كان يُنظر إليه من خلال عدسة التاريخ بأنه مشين، ولكن أصبح اليوم ينظر إليه على نطاق واسع بأنه موقف مبدأي قائم على الدفاع عن القناعات الإيمانية.
محبو محمد علي يحيون عائلته أثناء مرور الجثمان.
أثناء قطع النعش لمسافة الـ20 ميلًا حتى مقبرة كيف هيك، مرت الجنازة بلوحة جدارية تصور انتصار علي عام 1965 على سوني ليستون.
لقد كان حضور بيل كلينتون لاذعًا؛ فالشخص الذي أقرّ مشروع قانون الجريمة، مهندس العقوبات العراقية التي قتل من خلالها مئات الآلاف من الأطفال، عرّاب إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية، كانت له كلمة وداع في حفل تأبين محمد علي، الذي يعد في أعين الكثيرين رمزًا شاهقًا لمحاربة الإمبريالية والعنصرية ونزعات الحرب، والكثير مما كان يمثله كلينتون أثناء فترة رئاسته.
خلال الكلمة التي ألقاها كلينتون، تحوّلت الأجواء إلى العاطفة مع تذكيره بإضاءة علي للشعلة الأولمبية، حيث وصف الرئيس السابق قيام علي المريض باتخاذ الخطوات الأخيرة لإشعال الشعلة الأولمبية في أتلانتا في عام 1996 موضحًا بأن ذاك الموقف جعله يشعر بالغصة والمرارة التي كان يعيشها علي، وتابع: “عندما رأيت يداه ترتجفان كنت أعرف بأنه سوف يقوم بتلك الخطوات، كنت أعرف بأن الأمر سيحدث، وستُضاء الشعلة”.
“قد لا يكون علي قادرًا على تفادي الضربات ضمن الحلبة بعد الآن، ولكنه أصبح اليوم أكبر من أي زمن، لأنه رجل حر الإيمان، قام بمشاركة الهبات التي نمتلكها نحن جميعًا، وعلينا أن نكرّمه من خلال السماح بتداول تلك الهبات فيما بين دول العالم، بارك الله فيك يا صديقي”، اختتم كلينتون.
من خطاب بيل كلينتون في حفل التأبين.
مع مرور الكفن في شوراع لويزفيل، تصاعدت هتافات الجمهور “علي! علي! علي! “، احتشد المعجبون على طول الطريق ورموا الأزهار على الكفن، وأثناء مرور الموكب، تلاقت أيدي الحشد مع أيادي المشيعين في سيارات الليموزين، بما في ذلك أفراد من عائلة علي، الممثل ويل سميث، ورئيس البلدية جريج فيشر.
اعتاد علي العودة إلى مسقط رأسه في لويزفيل في كثير من الأحيان، حيث تقول السيدة ميلر كوبر، التي تعمل في مجلس إدارة مركز علي محمد في المدينة، بأنه حضر حفلًا للمركز في الخريف الماضي، وكانت زوجته تساعده للوقوف، “لقد كان ضعيفًا جدًا، ولكنه كان موجودًا، ويقوم بتسليط الضوء على مرض الباركنسون” قالت ميلر، وتابعت: “أعتقد بأن ما جعله الأعظم هو أنه استمر بالحياة، ولم يختف”.
في النهاية، وبالنظر إلى حياة علي ووفاته، فإننا لا يمكننا أن نفرح بتجريد رموز المقاومة من سياقاتهم ليتم تحويلهم إلى شيء لم يكونوا عليه، لكن الطريقة التي سارت بها جنازة علي، ومحاولتنا الأخيرة لتكريم البطل، قادتنا إلى رسالة قد تكون من بين الأكثر أهمية في تاريخ محمد علي؛ ففي العام الذي يشهد ترشح رئيس متعصب يهذي مطالبا بحظر المسلمين من دخول الولايات المتحدة، ورئيسة أخرى تعد من صقور الحرب التي دعمت كل تدخل عسكري في الشرق الأوسط، تحيي كنتاكي، الولاية الأكثر دموية في أمريكا، أعظم المسلمين وأكثرهم شهرة في العصر الحديث.
المصادر: نيويورك تايمز، التلغراف، ميرور، عربي21، ذا نيشين