هل يعاني الفنانون من المرض النفسي أو العقلي أكثر من الناس الطبيعين، وهل هناك علاقة تربط بين الإبداعية والمرض النفسي؟ أثبت التاريخ أن هناك علاقة وطيدة بين الإبداع والجنون، أو هكذا ما كانوا يسمونه قديمًا، قبل أن يتم شرح لفظ الجنون ذلك إلى أمراض نفسية كانفصام الشخصية، مرض القلق، وملازمة اضطراب ثنائي القطب، وهي كلها أعراض للاضطرابات النفسية، عانى منها العديد من فناني الكتابة والموسيقى والرسم.
لا يلزم المرء أن يكون مريضًا نفسيًا إذا أراد أن يكون مبدعًا، فكذلك هناك العديد من الدراسات المضادة التي لا تجد علاقة كبيرة بين الإبداعية والمرض العقلي أو النفسي، إلا أن هناك أمثلة من التاريخ تثبت أن العديد من مبدعي فن الكتابة أو الرسم أو العزف، كانوا في الأصل مرضى نفسيين.
بدأت تلك العلاقة بين الإبداعية في الفن والمرض النفسي تظهر للعلم من خلال الأدب في السبعينات من القرن الماضي، إلا أنها في الأصل قديمة جدًا، يمتد أصلها إلى عصر الآلهة الإغريقية، أما عن الآن، فقد أكدت دراسات طبية حديثة تم إجراؤها على أكثر من مليون مريض، وجود المرض النفسي بكثرة عند كل من يمتلك موهبة فنية، فتم إيجاد مرض متلازمة اضطراب ثنائي القطب – هو أحد الأمراض العقلية – بكثرة بين الراقصين والمصورين والكُتاب، كما وجد العلماء أن يميل الكُتّاب إلى أمراض نفسية مثل الاكتئاب أو القلق وانفصام الشخصية، كما يميلون أيضًا بنسبة 50% إلى الانتحار.
بيتهوفن
عانى المؤلف الموسيقي بيتهوفن من الاكتئاب ومتلازمة اضطراب ثنائي القطب، بالإضافة إلى إصابته بإدمان الكحول، الأمر الذي أدى إلى وفاته بسبب تليّف حاد في الكبد، تم شرح تحول بيتهوفن من الشخص النشط المتفائل إلى شخص حاد الاكتئاب ذي ميول انتحارية، في كتاب “تشخيص العبقري”، والذي تحدث عن حياة بيتهوفن من الميلاد وحتى الممات، وهو ما أكد إصابته بمرض اضطراب ثنائي القطب فيما بعد.
“إدوارد مونش” صاحب لوحة الصرخة
إدوارد مونش هو أحد الفنانين الذي أثر مرضه النفسي على أعماله الفنية، فتأتي لوحة الصرخة الموجودة أعلاه كدليل على ذلك، عاني إدوارد مونش من الاكتئاب والخوف المرضي من الأماكن المزدحمة أو الأماكن المغلقة، كما عانى من الهلاوس والهذيان، وهو الأمر الذي دفعه إلى رسم لوحة الصرخة، والتي تعبر عن شخص مضطرب يعاني من الهلاوس المستمرة، كما أكد الفنان النرويجي ذلك بنفسه، حيث قال حينما سُئل عن مرضه النفسي وعلاقته بلوحاته بأن خوفه من الحياة هو أمر مهم بالنسبة له، وأن هناك علاقة وطيدة بين معاناته النفسية وروحه وفنه، كما كتب مرة في إحدى الصحف بأن جنون المرض والخوف من الموت كانا بمثابة ملائكة تحيطه وترعاه طوال حياته.
فان جوخ
تم تشخيص فان جوخ في التاريخ بأنه مريض بالهوس والاكتئاب، بالإضافة إلى اضطراب ثنائي القطب، كما عاني من الهلوسة والصرع، وفي النهاية انتحر فان جوخ عام 1890 وهو في عمر السابعة والثلاثين، وأرجع الأطباء سبب موته إلى إدمانه لشراب أفسنتين، وهو شراب معروف عند الأدباء بالجنة الخضراء، إلا أنه أحد المشروبات التي تحتوي على نسبية عالية جدًا من الكحول الخالص، كما أن الرأي الآخر في سبب موته يرجح بأن سبب انتحار فان جوخ يعود لتناوله بعد العقاقير التي تحفز عضلة القلب على العمل، وهو أحد العقاقير الذي يجعل كل من يتناوله بجرعات كبيرة ومتواصلة أن يرى بقعًا صفراء في مركز هالات طوال الوقت، وهو ما يفسر لوحة ” ليلة النجوم” لفان جوخ.
لوحة ” ليلة النجوم”
جويا، والرجل الذي يلتهم ابنه
عاني فرانسيسكو جويا من مرض نفسي غريب تضاعف إلى أعراض جسدية أدت إلى فقدانه السمع والوزن وأدت إلى إصابته بعدم الاتزان وضعف في الرؤية، كما بدأ بعدها في الدخول في مرحلة الاكتئاب والهلاوس، كل ذلك أثر بشدة على أعمال جويا التي اتسمت بالغرابة الشديدة، منها لوحة رجل يلتهم ابنه.
لوحة رجل يلتهم ابنه
بيكاسو
تم تشخيص بيكاسو بمعاناته من الاكتئاب الحاد خلال حياته، كما هناك ادعاءات بإصابته بالنرجسية، حيث حاول تعظيم نفسه على مدار التاريخ، ولديه جملته المشهورة وهي ” قالت لي أمي إذا كنت جنديًا ستصبح قائد فرقة، وإن كنت قسيسًا ستصبح رئيس القساوسة، ولكنني كنت فنان، لذا صرت بيكاسو”.
إدجار آلان بو
اتسم الكاتب والناقد الأدبي الأمريكي، الذي اشتهر بموهبته في الشعر والقصة القصيرة أيضًا في التاريخ، بأنه ضمن قائمة الفنانين المرضى النفسيين، حيث اتسمت أعماله بصفة الدراما السوداء، تم اتهامه بإدمان الكحوليات، كما لازلت ظروف موته غامضة حتى الآن.
لا عجب أن من قال “الفن لا ينبع فقط من السعادة” كان صادقًا، فالفنان يرسم جزءًا من معاناته الأصلية بين كلماته أو بين خطوط لوحاته، أو يتغنى بها في ألحانه أو في كلمات شعره، فتجد معظم الفنانين العظماء قد عانوا في حياتهم بشكل أو بآخر، سواء فترة اعتقال، أو معاناة الحروب، أو فقدان أحباءهم، إلا أنه لا ننسي أن الفن يمكن أيضًا، أن ينبع من المرض النفسي، أو أحيانًا من جنون العظمة.