“ابحث عن ذاتك” … “حب نفسك كما هي بمميزاتها وعيوبها” … “إن لم تحب نفسك فكيف سيحبك الآخرون؟” … “تقبّل ذاتك كما هي ولا تعبأ بمن لا يقبلك على حالك” … “اكتشف ذاتك تعرف الحقيقة” … “الحقيقة بداخلك”
كل تلك المقولات ومثيلاتها تملأ صفحات الآلاف من الكتب حول العالم، والملايين من المواقع على الإنترنت، أملًا في رفع الروح المعنوية لقرائها أولًا، وحثهم ثانيًا على اكتشاف طريق جديد لحياة أكثر سعادة في عالم يزداد تعقيدًا، وتتضاعف فيه أسباب القلق والتخبّط، وتتعدد فيه الخيارات بشكل جنوني يدفع معظمنا للشعور بالحيرة أكثر من الحرية، والحل الرئيسي وفق معظم منتجات ذلك الخطاب المتمركز حول الذات هو أن تبحث عن ذاتك وتحبها كما هي وتسير حيث تكمن هواياتك ومكامن قوتك ومهاراتك، وأن تعبر بشكل كامل عن ذاتك الحقيقية ضاربًا عرض الحائط أية قيود محيطة بك.
يبدو خطابًا جذابًا في الحقيقة، ولكن أستاذًا أمريكيًا للتاريخ الصيني بجامعة هارفرد يعتقد بأنه خطاب خطير ومُضلل، وأن الخطاب الغربي المتمركز حول الذات تقابله على الناحية الأخرى حِكم ألفي عام من الفلسفة الصينية، والتي تميل إلى اعتبار ذواتنا كأشخاص جزءًا من المشكلة الواجب تجاوزها لاكتشاف العالم والتماس الطريق نحو “الحقيقة،” وأن خطاب “حب ذاتك” يؤدي في النهاية، ليس إلى تحرير نفسك من القيود المحيطة بك، بل إلى العكس تمامًا: تقييد حياتك وإمكانياتك بمجموعة معتقدات عن “ذاتك” تحجبك عن مواكبة التحولات المحيطة بك.
“الطريق: ماذا يمكن أن يعلمنا الفلاسفة الصينيون عن الحياة الجيدة،” هو عنوان الكتاب الذي نشره مايكل بويت مؤخرًا بالتعاون مع الكاتبة كريستين جروس لو، الحاصلة على الدكتوراه من جامعة هارفرد في تاريخ شرق آسيا، والتي تشارك بمقالاتها عن التاريخ والتعليم والتربية في صحف ومواقع وول ستريت جورنال وذه أطلانتك والجارديان، وهو كتاب يحوي خلاصة ما قد نحتاجه في العالم المعاصر من حِكم الفلسفة الصينية القديمة لاكتشاف العالم والاشتباك به، وهو كتاب يعارض بطبيعة الحال النظرة الفردانية السائدة في الغرب بشكل خاص عن النجاح والسعادة وغير ذلك.
الوعي بالذات أم بالعالم؟
كونفوشيوس، وهو أشهر الفلاسفة الصينيين، لا يعتقد بأن تنقيبك عن “ذاتك” ذو قيمة حقيقية لسبب بسيط، وهو عدم اعترافه بوجود ذات لدى البشر قابلة للتعريف من الأساس وفصلها عن محيطها بشكل يكفي لبداية الطريق منها، فالإنسان بالنسبة له كائن متعدد الجوانب ويعج بالمشاعر والأفكار والإمكانيات والمعتقدات والتحيزات التي تشكل نسيجًا متصلًا بالعالم المحيط به ليس أكثر، وإن كان تجمُّعها بأشكال مختلفة في كل شخص يعطيه طابعه الفريد، لكن الأصل يظل هو نسيج العالم المحيط بالإنسان وليس الذات، والذي لولاه لما أمكن للذات الوجود من الأساس.
تباعًا، فإن ما تقوم بتعريفه كذاتك هو ليس سوى لقطة لوجودك المركّب جدًا في لحظة معيّنة وفق ظروفها، وهو وجود سيتغيّر غدًا بشكل حتمي في ظل عالم متغيّر، وبالتالي فإن التعلق بتلك اللقطة باعتبارها ذاتك بالفعل يؤدي بشكل غير واعٍ إلى استمرارها لفترة أطول من اللازم، ومن ثم حبس الإمكانيات المتعددة لوجودك غدًا في تصوّرك عن نفسك اليوم، ولذا فإن النصيحة الصينية المتكررة والغريبة ربما علينا اليوم هي ألا تكُن مهووسًا بتعريف نفسك واكتشاف ذاتك والإجابة على سؤال “من أنا؟” وما إلى ذلك من سبُل نعتقد أنها تساعد في تحريرنا، بل الاعتراف بتركيبية تجربتك وحياتك، وتعلّم كيفية مواكبة التحولات الجارية في العالم بتواضع يتيح توسيع أفقك ومعرفتك بمحيطك.
“متحاولش تبقى أي حد تاني غير نفسك” هي كلمات كان ليرفضها كونفوشيوس تمامًا، والأمر بالطبع لا يعني محاولة تقليد الآخرين والانسلاخ من حياتك، ولكن مرة أخرى تنحية الهوس بالذات وإجبارها على التواضع من ناحية وتنويع خبراتها من ناحية أخرى، وإجبارها بين الحين والآخر على النظر للعالم من منظور الآخرين؛ من تحبهم ومن تكرههم على السواء، فبدلًا من الاستسلام مثلًا لـ”طباعك” كشخص لا يقبل أبدًا المشاركة في أعمال المطبخ، أو يتشاجر باستمرار مع أخيه، يمكنك أن “تجرّب” بين الحين والآخر أن تطبخ بالفعل، أو أن تجرّب تغيير شكل علاقتك بأخيك رويدًا بالتنازل تارة والعزوف عن الشجار أصلًا تارة، وهي “تجارب” ستكسر طباعك أولًا، وستتيح لك اكتشاف سُبلًا جديدة للحياة لعلك لم تكن لتجدها من قبل لو استسلمت لـ”ذاتك.”
هي نصائح صعبة بالتأكيد نظرًا لطبيعة العالم الذي نعيش فيه اليوم، والذي يغرس فينا في الواقع حب الطباع الثابتة والبحث عن مواهب وميول محددة والانغلاق عليها، وأبرز ما فيه الجامعات الحديثة التي تتمحور حول خلق خارطة طريق للطلاب للحصول على مسار وظيفي ناجح وثابت بعد التخرّج، والخطط الثابتة هي أبعد ما يكون عن رؤية الفلسفة الصينية للعالم، ولنأخذ عن على سبيل منشيوس وهو أحد أبرز الفلاسفة الصينيين، والذي اعتقد أن العمل الدؤوب لا يؤدي بالضرورة للرفاهة، وأن الحياة لا يجب أن تكون عبارة عن سلسلة من القرارات المتصلة للوصول لهدف واحد، بقدر ما هي مجموعة من المسارات المختلفة المتوازية والمتغيّرة باستمرار في حياة الفرد.
في هذه الحالة فإن فكرة الخطة الواضحة والثابتة تكون فاشلة على الأرجح لأنها مجردة نوعًا ما، وتتمركز حول تعريفك لذاتك في نقطة معيّنة، وتنصب حول تعزيز فُرصَك ونجاحاتك ومصالحك في خط واحد، في حين أن المطلوب هو خلق خريطة أكثر تعقيدًا ومرونة ترتكز بالأساس للعالم من حولك لا لتعريفك لنفسك، وتعزز بالأساس من تجاربك في تلك المسارات المختلفة، والوظيفة التقليدية في نظرة كهذه ليست بلا أي قيمة كما قد يظن البعض، ولكنها لا تحتل سوى مسارًا واحدًا باعتبارها تجربة من تجاربك، فالفلسفة الصينية ليست مهووسة بتحقيق قائمة من الأهداف الثابتة، بل بصقل تجاربك كهدف أسمى ووحيد.
بين المنهج والفوضى: التلقائية المهذّبة
لنضرب عرض الحائط وظائفنا المعتادة وحياتنا الروتينية وطقوسنا ونتجه لفعل ما نريد لتوسيع تجاربنا أليس كذلك؟ في الحقيقة يحاول كثيرون بالفعل في وقتنا الحالي الترويج لتلك الفلسفة، وهي الخروج بالكامل عن النسق، ولكن المفارقة هي أنهم يستخدمون نفس الخطاب القائم على اكتشاف الذات، باعتبار أن الذات الحقيقية لن تؤدي إلى نجاح تقليدي في مسار واحد، ولكن إلى تحرير طاقاتك كلها من الروتين، لكن فلاسفة الصين كانوا ليعترضوا أشد الاعتراض على كسر الطقوس وترك الوظيفة التقليدية هكذا بين ليلة وضحاها، والأسباب تنبع من نفس فلسفتهم المركبة عن العالم.
العالم ليس خارطة صلبة مكوّنة من ذوات منفصلة، ولكنه في نفس الوقت ليس خريطة سائلة بلا معالم، والفيلسوف الصيني جوانغزي كان حريصًا على تأكيد تلك الفكرة، أن الخروج عن قيود المسارات الصلبة لا يعني الحياة العشوائية، ولا يعني أن تصبح حياتك متمحورة حول فعل ما تريد وقتما تريد وإطلاق العنان لـ”ذاتك” كما تذهب بعض الخطابات الموجودة على الساحة الآن، فذلك في نظر جوانغزي لا يعدو كونه إطلاق للرغبات بلا قيمة لا يعزز سوى غرقك في ذاتك أكثر، وهو على العكس مما يدعو له: التلقائية المهذّبة.
الحياة مركبة، ولكنها في نفس الوقت ليست عشوائية، مما يعني أن صقل تجاربك في مسارات عدة يحتاج إلى التهذيب ليُكسِب حياتك معنى وقيمة، فالمسار الوظيفي الذي توجد فيها حاليًا ربما هو واحد منها، لكن مسارات أخرى تسير معه بالتوازي أمر مهم، أولًا لتوسيع أفقك، وثانيًا لتسهيل وتنظيم عملية انتقال تركيزك الأكبر (وربما وظيفتك) من مسار لآخر، فالقرار الصحيح في عالم مركّب بالنسبة لجوانغزي ليس “لقد تركت وظيفتي لألف العالم لمدة عامين” بدون أية ترتيبات أو اعتبارات مسبقة أو مسارات لتجارب بديلة حقيقية لوظيفتك، ولكنه قرار مثل “لقد حصلت على إجازة ستة أشهر للتركيز أكثر على كتابة الشعر، ومن ثم سأعودة للعمل ستة أشهر أخرى قبل أن أقرر ما إن كان يمكنني التحوّل بالفعل ناحية الشعر بالكامل وترك وظيفتي الأصلية للأبد.”
ينبع هذا القرار الأخير ليس من نزعة ذاتية مفاجئة، ولكن من حاجة إلى تعزيز مسار على حساب آخر لوقت وجيز، كما أنه ليس قرارًا كبيرًا كالقرار الأول، ولكنه قرار صغير يترك الباب مفتوحًا أمام خيارات واسعة مع توسيعه لأفقك الحالي باتجاه الشعر في كل الأحوال، وهو أمر يروق كثيرًا لمنشيوس الذي يعتقد بضرورة تجنّبك للقرارات الكبرى في حياتك، بل ويرى أن الحياة المرنة الأمثل هي مجموعة متنوعة ومترابطة من القرارات الصغيرة في مسارات مختلفة، وأن القرارات الكبرى قيد كبير، إما لعدم قدرة الجميع على اتخاذها، ومن ثم بقائهم حبيسي نمط حياتهم التقليدي، وإما لقدرة صاحبها على اتخاذها بالفعل بما يشمله ذلك من التأثير على فترة طويلة من مستقبل لا يعرف عن ملامحه شيء.
الفيلسوف الصيني لن يسألك إذن “هل أنت سعيد في وظيفتك؟” أو “هل تفكر في تركها؟” ولكن سيسألك “ما رأيك بالالتحاق بمجموعة لتعليم العزف على آلتك الموسيقية المفضلة مرة أسبوعيًا؟” أو “لماذا لا تجرب الانضمام إلى المنتدى الثقافي الذي شاركت فيه قبل عامين؟” هي أسئلة تأخذ في الاعتبار ماضيك أولًا، وتدفعك لخيارات صغيرة ثانيًا، ولا تقوم على محاولة قتل مسار معيّن بقدر ما تحاول تأسيس مسارات جديدة، وهي مسارات يمكن لاحقًا أن تتيح لك بالفعل ترك وظيفتك أو تخفيفها مثلًا في مقابل اتجاهك بشكل احترافي أكبر بمسار آخر.
***
“الداو” Dao أو الطريق هي كلمة محورية في الفلسفة الصينية، وتشير عادة إلى الطريق الذي ينبغي اتباعه في الحياة، وعلى العكس مما يبدو للوهلة الأولى فإن معنى الكلمة أبعد ما يكون عن مفهوم الطريق الواحد، وهي الكلمة التي يفتتح بها مايكل بويت في الحقيقة كتابه الأخير، والمقتبسة من كتاب الفلسفة الصيني الشهير “داو دي جينغ” (Dao De Jing): “الطريق الذي يمكن رسم ملامحه بشكل واضح ليس طريقًا قابلًا للاستمرار.”
المعنى هنا هو أن تركيبية الحياة لا يمكن معها رسم معالم طريق سهل وواضح للسير فيه، ولكنه مواكبة الحياة بشكل يتجاوز فكرة المنهج المحدد في التعاطي معها، وعدم التعلق بثوابت إلا إن كانت روحانية أو قيمية تتيح لك تجاوز ذاتك كما يقول كونفوشيوس، والذي يؤكد في الواقع على ضرورة القيام بطقوس أيًا كانت نظرًا لأهميتها في كسر طباعك وذاتك، وبالتالي تطويعها لتكون أكثر مرونة وتواضعًا بما يمكّنها من مواكبة تركيبية العالم بشكل أفضل، وتوسيع أفق تجاربك.
لا تكتشف نفسك ولا تقبلها على حالها إذن هي نصيحة فلاسفة الصين، ولا تكون مهووسًا بسؤال ترك وظيفتك من عدمه، بل هذّب نفسك واكسر طباعك لتفتح مسارات جديدة، وابتعد عن القرارات الكبرى التي تبدو ثورية للوهلة الأولى لكنها تقيّدك في الحقيقة، وصب تركيزك ليس على تحرير “ذاتك” ولكن على تحرير تجاربك من التمركز حول ذاتك، والبحث عن تجارب صغيرة جديدة لإثراء حياتك واكتشاف العالم.
*المصادر وول ستريت جورنال، الجارديان