اقترنت السينما بعالم الخيال العلمي أكثر من غيرها من الفنون، فظهرت أفلام الخيال العلمي منذ التعبيرات السينمائية الأولى، ولعل فيلم رحلة إلى القمر (Voyage à la lune 1902) للفرنسي جورج ميلييه كان أول هذه التعبيرات، ثم تكاثفت الأعمال المؤسَسة على كتابات القرن التاسع عشر (جول فيرن، ماري شيلي…) بالتوازي مع رواج أدب الخيال العلمي خصوصًا بفضل الأديب الإنجليزي اللامع هربرت جورج ولز H. G. Wells وسرعان ما أصبح الخيال العلمي أحد أهم الأصناف السينمائية والفنية، وسرعان ما تكونت تحته فروع كثيرة أخرى تربو على العشرين.
على أنني أعتقد أن الخيال العلمي كصنف فني قد ضاع في هذه الفروع التي لامست عوالم فنية أخرى وخالفت فكرته الأولى، وصار الخلط اليوم طبيعيًا بين الخيال العلمي والفانتازيا، أو بين الخيال العلمي والسريالية أو حتى بين الخيال العلمي والواقعية، فأوبرا الفضاء Space Opera مثلاً، باتت منذ أفلام حرب النجوم Star Wars على وجه الخصوص فرعًا رئيسيا منه، وبات طبيعيًا إدراج أي فيلم تدور أحداثه في الفضاء خارج الأرض في بوتقة الخيال العلمي، ولكن أفلام حرب النجوم في النهاية لا تختلف كثيرًا عن أفلام سيد الخواتم: عوالم خرافية جميلة تهتم أكثر بالمغامرة وبالعجائبي، وبإطلاق العنان للخيال، بأكثر مما تهتم بالجانب العلمي، سيوف الليزر والمقاتلات الفضائية عناصر ثانوية أمام فكرة الصراع بين الخير والشر، و”فضائيةُ المخلوقات” جانب ثانوي في شخصيات العمل مقارنة بطبائعهم المختلفة والمتميزة.
لم يكن جول فيرن وهربرت جورج ويلز أول من كتب في هذا الصنف الأدبي، ولكنهما اعتُبرا أبويْ الخيال العلمي، ومن الطبيعي أن نعود إليهما استقاءً للأهداف الحقيقية لهذا الفن وخصوصياته، لقد بحث كلا الرجلين من خلال كتاباتهما، عن النبش فيما وراء العلوم والحقائق العلمية، وتخيل أبعاد الفكرة التي لم تثبت، والاختراع الذي لم يُنجَز، والاكتشاف الذي لم يوجد، ما يعطي للخرافة (fiction) لونًا منطقيًا وعلميًا ساحرين، لكن النقاد يعتبرون ذلك قسمًا بسيطًا من بحر الخيال العلمي أطلقوا عليه الخيال العلمي الثقيل Hard Science Fiction.
ولأنني أحترم النقاد ولا أقف طويلاً عن آرائي الشخصية، فسأقترح عليكم قائمة من أهم الأعمال التي أعتبرها خيالاً علميًا حقيقيًا، تعالج بشكل عميق وساحر أفكارًا لا يزال العلم والتقنية فيها غير قادرين على قول الكلمة الفصل، تاركين السلطان فيها للفن والفلسفة.
10 ـ برازيل Brazil سنة 1985
يعتبر فيلم برازيل من أجمل أفلام الديستوبيا، ونعني بالدستوبيا Dystopia أدب المدينة الفاسدة (في مقابل المدينة الفاضلة أو اليوتوبيا)، وهو أدب يهتم بتصوير عالم مستقبلي مظلم أو سيء ومحاولة تخيل تفاصيله وعناصره والأسباب التي أدت إليه، وهي عادة أسباب موجودة زمن الكتابة تستعمل الديستوبيا للتحذير منها (السلاح النووي، التلوث، الثورات المؤدلجة الخ).
في هذا الفيلم يبدو وكأن سبب البلية التي تحيق بالبشرية هي البيروقراطية، ذلك الجهاز المعقد الذي يرمز أيضًا للحداثة واللامعنى، أدانه كافكا بطريقة عبقرية في روايته الخالدة “المحاكمة”، فكان عالم “Brazil” كافكاويًا موحشًا ومبهمًا، وكان بطل الفيلم سام لوري (جونثان برايس Jonathan Pryce) شديد الشبه بيوسف ك. بطل “المحاكمة”.
لكن كثيرًا ما يقترن الفيلم بعالم ديستوبي آخر، شيده الروائي البريطاني العبقري جورج أورويل، ونعني به عالم 1984، فقبل “برازيل” بسنة أنجز فيلم مقتبس من رواية أورويل، لكن المخرج Terry Gilliam لم يستسغ الفيلم واعتبر أن تصور أورويل لسنة 1984 لا يجب أن يؤخذ بتفاصيله مثلما تخيله الرجل سنة 1948 (سنة صدور الكتاب)، فكان فيلم “برازيل” بديلاً لهذه الرؤية القاصرة، ولئن اهتم “1984” بدكتاتورية الأخ الأكبر الذي يراقب الجميع، فقد اهتم “برازيل” بتلك الأجهزة التي تتم بها الدكتاتورية: الإدارة، الأمن، اللهو (distraction)، ثقافة الاستهلاك والتقنية متمثلة أساسًا في الأنابيب الكثيرة والمعقدة التي توجد في كل بيت وتضمن تواصل الإدارة بالمواطن وتحكمها في حياته.
ولا تعود تسمية الفيلم إلى البلد الأمريكي المعلوم، وإنما إلى أغنية شهيرة بذات الاسم كان بطل الفيلم يدمن الاستماع إليها والانغماس في أحلام اليقظة، كان سام لوري موظفًا بسيطًا لا يتميز بأي شكل من الطموح، وكانت أمه المنغمسة في عمليات التجميل إلى حد مرضٍ، لا تخفي قلقها من عزوف ابنها عن تسلق درجات الهرم الاجتماعي، إن سام لوري خطر على النظام لأنه رجل حالم.
9- قمر Moon سنة 2009
يعتبر الفيلم من أكثر أفلام الخيال العلمي المغمورة، وربما يعود ذلك إلى افتقاره للطرافة، فالفكرة المحورية مستهلكة نوعًا ما، وكذلك سياق القصة، لكن التوليفة القصصية التي نحتت ملامح الدراما وسط فيض من الغموض والإثارة كانت شديدة البراعة، يمثل الفيلم ذلك الفرع المتميز الذي يمزج بين الخيال العلمي والغموض والإثارة، حيث تخلق فكرة علمية ما لغزًا محيرًا ومخيفًا يدرَك بمجرد إدراك أبعاد الفكرة العلمية، ولأنني لا أريد أن أكشف غموض الفيلم فلن أكشف شيئًا من تفاصيل الفكرة المحورية.
تدور أحداث الفيلم في محطة استكشاف على القمر يديرها ويعيش فيها سام بال Sam Bell وحيدًا، كان سام متحمسًا لقرب نهاية مهمته على القمر، فقريبًا سيلتقي مجددًا بابنه وزوجته اللذين تركهما منذ ثلاث سنوات تقريبًا، في إحدى طلعاته الاستكشافية خالف توصيات المشرفين وأصر على اكتشاف ما بداخل العربة المحطمة التي تشبه عربته، ولقد هاله أن فيها شخصًا لا يزال حيًا، مهلا، ألا يبدو الشخص شبيهًا به… تمامًا؟
8- شبح في نظام شل Ghost in the Shell سنة 1995
تصنف تحفة مامورو أوشيي Mamoru Oshii أساسًا في فرع السايبربنك Cyberpunk حيث يصبح العالم عبارة عن شبكة إنترنت ضخمة للأشياء (Internet of Things)، وحيث يطغى الذكاء الصناعي على كل شيء، وحيث يصبح الروبوت أقرب شيء إلى المواطن البشري العادي، ورغم أن Ghost in the Shell ليس أول فيلم من هذا الصنف، إلا أنه برأيي أهمهم، والأكثر انغماسًا في محاورها والأكثر دقة في تفاصيلها، هذا فضلاً عن نجاحه التجاري الكبير بفضل قيمته الفنية التي جعلت منه أحد أفضل أفلام الأنيمي في التاريخ، وشجعت المنتجين بعد ذلك على إصدار نسخ كثيرة أخرى من عالم Ghost in the Shell.
تدور أحداث الفيلم في مستقبل سايبيري في اليابان، يطغى فيه الذكاء الصناعي حتى بات محور الجرائم الخطيرة، أنشئ القسم التاسع لمواجهة هذا النوع من الجرائم، وكانت الرائد كوساناجي Kusanagi على رأس فريق العمل، وكانت قضية محرك الدمى الغامض هي أكثر ما يؤرق هذا القسم، من هو محرك الدمى هذا؟ وكيف يسيطر بسهولة على الآلات والروبوتات؟ وما الذي يهدف إليه تحديدًا؟
من خلال كائنات الذكاء الصناعي التي تصنع الأحداث في الفيلم، ينبش مامورو أوشيي عميقًا في فكرة الوعي وفي السؤال الأنطولوجي لينتزع من المشاهد حيرة قلقة بخصوص ذاته وحقيقة الكوجيتو الذي قد يعتبره المرء بديهيًا، أنا أفكر هل يعني ذلك وجوبًا أنني موجود؟
7- الحديقة الجوراسية Jurassic Park سنة 1993
إذا ما تحدثنا عن سبيلبرغ والخيال العلمي، فأول اسم يتبادر للذهن هو حتمًا فيلم E.T المخلوق الفضائي، لكن E.T يتميز خصوصًا بمخزون ميلودرامي وسينماتوغرافي هائلين، أما على مستوى الخيال العلمي، فاعتقد أن سبيلبرغ لم يقدم ما هو أفضل من الحديقة الجوراسية.
يمكن تصنيف الفيلم في فرع البيوبنك Biopunk وهو تفريع يشبه كثيرًا الـ Cyberpunk مع اختلاف أن محور الخيال لا يتركز على نظم المعلومات وإنما على الاكتشافات البيولوجية وعلم الأجنة والهندسة الوراثية، وهو فرع يجيد إفراز الوحوش وأدوات الرعب والإثارة.
تقوم قصة الحديقة الجوراسية على تمكن فريق علمي من استنساخ ديناصورات انطلاقًا من جيناتها المحفوظة في دماء بعوض متجمد، وهو ما ينذر بكارثة حقيقية حينما تخرج الأمور عن السيطرة.
لقد أسس فيلم الحديقة الجوراسية عهدًا سينمائيًا جديدًا قائمًا على المعالجة الرقمية للصور CGI، وبعد مرور أكثر من عشرين سنة عليه، لا يزال متعةً بصرية رائقة لأحباء السينما.
6- سولاريس Солярис سنة 1972
يعتبر المخرج الروسي أندري تاركوفسكي Andrei Tarkovski حالة سينمائية خاصة، ويمكن أن نربط أعماله بالفلسفة بأكثر مما يمكن أن نربطها بالتسلية، لكنه في فيلم سولاريس استطاع أن يضمن حدًا أدنى من الدراما الذي يسمح للمشاهد بمتابعة أحداث الفيلم بشيء من الشغف.
نسق الفيلم بطيء قليلاً وذلك من مميزات سينما تاركوفسكي، لكنه يسمح للمشاهد بالانغماس في عالم الفيلم ببطء والتماهي مع كريس Kris الشخصية الرئيسية في ذروة الأحداث، يعيش كريس تجربة مثيرة في كوكب سولاريس الذي يحاول البشر فك شفراته منذ برهة، لم تكن الأخبار عن البعثة الأولى مشجعة، وبدا لكريس أن أفرادها يعانون لسبب ما من هلوسات حادة، لم يكن يتصور ـ وهو الطبيب النفسي ـ أن ما سيواجهه في الكوكب أشد ثقلاً من الهلوسات النفسية.
لم ينجح تاركوفسكي من خلال الفيلم في إثارة تساؤلات وجودية عميقة فحسب، بل إنه تمكن أيضًا من تقديم تصور عبقري ومختلف لشكل الحياة الذي يمكن أن يقابله الإنسان في الفضاء، وهو شكل يختلف كثيرًا عن تلك الصورة النمطية لكائن الفضاء الأخضر الرقيق.
5- Blade Runner سنة 1982
تعتبر تحفة المخرج البريطاني ريدلي سكوت Ridley Scott عند الكثير من النقاد بداية فرع السايبربنك Cyberpunk في سينما الخيال العلمي، في هذا العالم الديستوبي المكتظ الذي يقترحه علينا سكوت، راجت صناعة الأندرويد Android بشكل غير مسبوق، وهي كائنات آلية تتمتع بشكل آدمي، ولقد أطلق عليها “المتاكثرة” Replicant ولقد تمكنت هذه الكائنات في نسخها المتطورة من تحقيق وعي ذاتي جعلها تتمرد على البشر، كانت مهمة بطل الفيلم ريك ديكارد Rick Deckard (هارسون فورد Harrison Ford) تتمثل في القبض على ستة من المتكاثرة الخطرين ولقد قادتنا رحلة بحثه في أرجاء سان فرانسسكو المستقبل، إلى تمثل العالم المخيف الذي يتنبأ به المخرج البريطاني.
يتمتع فيلم Blade Runner بمكانة سينمائية مهمة على المستويين الفني والأدبي، إذ يرى بعض النقاد أنه أعظم فيلم على الإطلاق من ناحية المؤثرات البصرية حيث لم يمنع الافتقار للمؤثرات الرقمية من تحقيق خدع بصرية مميزة تقوم على الإضاءة والصورة ذات الطبقات… إلخ، أما أدبيًا، فقد كانت أفكار الفيلم ملهمة لكل أعمال السايبربنك التي جاءت من بعده، ويمكن أن نخص بالذكر الفيلم المشار إليه سابقًا Ghost in the Shell.
4- فضائي Alien سنة 1979
لم يكتف ريدلي سكوت بإتحافنا بـ Blade Runner، بل سبق ذلك برائعة أخرى يمكنني أن أعتبرها أهم أفلام التواصل مع الكائنات الفضائية، التي تضم أعمالاً جليلة مثل رائعة سبيلبرغ “لقاءات من النوع الثالث” وحرب العوالم لهاسكين و”اليوم الذي تسمر فيه العالم” وغيرها.
في رائعة سكوت، يحدث الكشف العظيم، وتتمكن بعثة استكشافية فضائية من إيجاد آثار لحضارة فضائية في كوكب مجهول، لكن يبدو أن عودتها إلى الأرض لن تكون بتلك البساطة.
يراوح الفيلم بشكل عبقري بين الإثارة والرعب والغموض والخيال العلمي والفلسفة، ويركز على فكرة الانتقاء الطبيعي وتكيف الحياة مع بيئتها، لقد كان الإنسان دومًا مفترسًا، يقبع في أعلى نقطة من هرم الطبيعة على أرضه، فهل يبقى كذلك خارج الكوكب؟
3- متروبوليس Metropolis سنة 1927
يعتبر النقاد فيلم متروبوليس أول فيلم روائي طويل للخيال العلمي، ولقد وفر له مخرجه الألماني فريتز لانغ Fritz Lang كل العناصر اللازمة ليظل الفيلم مرجعيًا رغم مرور سنوات طويلة جدًا عليه، وافتقاره لأبسط التقنيات السينمائية المعاصرة، لقد كان ميتروبوليس فيلمًا صامتًا، حاول تبليغ الكثير من المفاهيم المعقدة في ذلك الزمن بواسطة الصورة وبعض اللوحات النصية.
تعتبر مدينة ميتروبوليس التي يتمحور حولها الفيلم، أولى المدن الفاسدة (ديستوبيا) التي تبتكرها السينما، ولقد استوحت الكثير من عناصرها من رواية هربرت ويلز الشهيرة “آلة الزمن”، حيث إن المدينة المستقبلية تشهد حضارة عمرانية مبهرة، ويعيش فيها الناس بشكل مترف كأنهم في الجنان، وتحت تلك الصورة الزائفة، في أعماق المدينة، تقبع طبقة أخرى من البشر، هي طبقة العمال، أولئك الكادحون الذين لا يعرفون الشمس، ولا ما تغدقه ميتروبوليس على طبقة المترفين.
يعمل هؤلاء على استمرارية عمل الآلات الضخمة والكثيرة تحت الأرض، حتى بدوا عبيدًا لها، وفي المساء يجتمعون حول ماريا تلك الفتاة الملائكية، وهي تبشرهم بالخلاص القريب، وبين هذين العالمين، تنطلق رحلة فريدر Freder من أجل اكتشاف الحقيقة وتغيير العالم وتحقيق النبؤة، هل هي نسخة جديدة من أمثولة الكهف الأفلاطونية؟ هل هي نسخة جديدة من رواية آلة الزمن؟ هل كان الرجل الآليُ نسخة جديدة من مسخ فرانكنشتاين؟ أم تراه الشكل الأول للأندرويد الذي سيغزو قسمًا كبيرًا من سينما الخيال العلمي؟ هل نحن أمام صورة فنية أخرى لصراع الطبقات، أم أن فريتز لانغ يتحسس بداية الطريق الوعرة تجاه صراع البشر والآلة؟ ربما يمثل ميتروبوليس كل ذلك معًا!
2ـ الماتركس The Matrix سنة 1999
فيلم الماتركس غني عن التعريف للمشاهد العادي، لقد أثار صدوره ضجة أكبر من أن تحجبها السنوات السبع عشرة التي مرت على ذلك، ولا يزال الفيلم إلى اليوم يثير الدهشة بمشاهد الحركة ومؤثراته البصرية المثيرة، لكن الماتركس أكثر بكثير من فيلم حركة، بل إن جانب الأكشن في رائعة الأختين فاشفسكي (بلى صارا اليوم أختين) هامشي للغاية وسط فيضان الأفكار والإحالات الأدبية والفلسفية التي يعج بها العمل.
يندرج الماتركس هو الآخر ضمن سينما السايبربنك، حيث يغرق الشخصيات في عالم افتراضي (الماتركس) تتحكم فيه آلات ذكية تستخدمه لتوهم البشر بأنهم أحرار ويحيون حياة طبيعية، ولأن العالم افتراضي، فإن أولئك الذين تحرروا من الماتركس، كانوا قادرين على تجاوز القواعد الطبيعية لهذا العالم، والإتيان بكل تلك الأعمال الخارقة التي نسميها معجزات، ليس غريبًا إذًا أن يشبه بطل الفيلم نيو Neo بالنبي المخلص The one.
لم يأت الماتركس بأفكار جديدة وهو بذلك يختلف عن سولاريس مثلاً، أو ميتروبوليس، ولكنه استنزف الأفكار الموجودة إلى حدودها القصوى، وأخرج أجمل ما فيها، كما أنه من المستحيل تقريبًا على فيلم من ساعتين ونيف، أن يحشر كل ذلك العدد من المقاربات والأطروحات الفلسفية والتساؤلات والتشبيهات دون ينتقص ذلك من تناسقه وجماليته، ولقد حقق الماتركس المستحيل بأفضل طريقة ممكنة.
1- أوديسا الفضاء 2001: A Space odyssey سنة 1968
بشيء من المبالغة يمكن اختصار الخيال العلمي في هذا الفيلم الفذ، فهو يمتد بأفكارنا العلمية إلى ما قبل التاريخ، وإلى ما بعد الحاضر المعاصر، ويمتد بتصوراتنا في المكان إلى خارج كوكب الأرض، حيث الفضاء الشاسع، ويمتد بتصورنا عن الآلة من بقايا العظام التي استعملها الإنسان الأول ليضرب أعداءه، إلى HAL ذلك الكمبيوتر الذكي الذي اكتسب وعيًا يؤهله ليسيء فهم حقيقة وجوده، تمامًا مثل صانعه.
أوديسا الفضاء هو رحلة الإنسان الملحمية منذ فجر التاريخ، لأن يصبح إنسانًا، وأن يتحول فيما بعد لما أطلق عليه نيتشه “ما فوق الإنسان” Übermensch، ولقد أخذنا في هذه الرحلة الشيقة والممتعة، أحد أهم السينمائيين في القرن العشرين أو لعله أهمهم فعلاً، العبقري ستانلي كيوبرك Stanley Kubrick، وكان الفيلم ثورة حقيقية في عالم الخيال العلمي، وفي عالم السينما أيضًا، فانتقل الخيال العلمي من بعده من مساحة للعبث الخرافي الذي لا يبعد كثيرًا عن الفانتازيا، إلى موضوع بحث جدي في علاقة العلم والتكنولوجيا بالأسئلة الجدية التي تؤرق الإنسان منذ فجر التاريخ، وتلك قيمة الخيال العلمي.
حاولت من خلال هذه القائمة أن أنوع قليلاً في محاور الأفلام المنتقاة، ولكن لسبب ما غلبت عليها الديستوبيا والسايبربنك بينما اختفى فرع مهم من فروع الخيال العلمي، هو السفر في الزمن، ولعل أشهر الأعمال السينمائية التي خاضت في هذه الفكرة، هي الثلاثية الكوميدية “العودة إلى المستقبل” Back to the future لروبرت زيمكيس، لكن معالجتها للفكرة كانت أقرب إلى الفانتازيا من الخيال العلمي، ولقد حاول كريستوفر نولان أن يكون أكثر جدية في تناول الموضوع، وذلك من خلال فيلم Interstellar أو بين النجوم، حيث استعان بالفيزيائيين للالتزام بنظريات أينشتاين عن الزمن والجاذبية، ولقد وفق في ذلك إلى حد كبير لولا أنه أهمل الجانب الدرامي للفيلم إلى حد الإسفاف.
إن الخيال العلمي مختلف عن الفانتازيا، فالثاني قد يستعين بالعلم ليزيد من رقعة الخيال، بينما يهدف الأول إلى الاستعانة بالخيال ليزيد من رقعة العلم، ولئن لم يمنعه ذلك من أن يحقق عالمًا ممتعًا وفريدًا.