لقد مرت آلاف السنين ليتطور الإنسان ويصل إلى ما هو عليه اليوم من تحضر ورقي، فقد كرس كل العوامل لمصلحته وأصبح متسيدًا على الكون لا بل هو محوره، هذا التغير على المستوى المعيشي من الطبيعي أن يرافقه تطورًا على مستوى التصرفات لتكتمل الصورة ونحصل على إنسان متكامل متحضر هو إنسان القرن الـ 21.
لكن الحقيقة – التي يعريها فيلم “المتوحشون الجدد” – أمر مختلف تمامًا، فمجموعة الحكايات التي تتوالى الواحدة تلو الأخرى تكشف عن توحش وعنف الإنسان رغم ارتدائه وتنكره بزي الحضارة، يرجع الإنسان إلى أصله المتوحش في مختلف الحالات والوضعيات، فالشخصيات في الفيلم متعددة ومختلفة وكذلك مصائرها لكن المتفرج يستنتج وجود خيط رابط بين هؤلاء ومن أول دقيقة في الفيلم تبدأ الصورة الحقيقية في التشكل في ذهنه.
البداية
يضعنا المخرج منذ بداية الفيلم دون مقدمات مع مجموعة من الشخصيات الذين تجمعهم نقطة مشتركة: لقد كانوا سببًا في تدمير حياة شخص ما يتبين فيما بعد أنه هو من يتولى قيادة طاقم الطائرة، سيكون انتحارًا جماعيًا وعقابًا لكل من تسبب في فشله وإذلاله، يُفْتَتَحُ الفيلم بمشهد سقوط الطائرة الذي يمهد ويحذر المشاهد لما ينتظره من عنف عند ولوجه إلى عالم المتوحشين الجدد.
عندما يفقد الإنسان إنسانيته
الحياة اليومية حياة شاقة وصعبة ينهمك فيها الفرد بكل طاقته ساعيًا لتحقيق الرخاء والسعادة، يسعى المخرج – من خلال قصة المهندس – إلى وضع نمط هذه الحياة محل تساؤل، يرصد أدق خصائص كواليس الشخصية وأتفه الأشياء التي لا نعيرها أي اهتمام ولكنها يمكن أن تكون سببًا في انهيارنا ويمكن أن نعتبرها أيضًا بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس في حياة المهندس، كيف يتعامل المواطن مع ظلم أجهزة الدولة؟ كيف يمكن أَنْ يتسبب خلاف بسيط في كارثة تهز البلاد؟ كلها أسئلة نطرحها على أنفسنا وعلى الآخرين بعد مشاهدة مصير المهندس.
ففي خضم الحياة اليومية والسرعة الجنونية – التي يسير بها العالم الذي تحول إلى قرية صغيرة بفضل العولمة – تنقلب المفاهيم ويتحول العالم المليء بشعارات الحرية الرنانة إلى سجن كبير يحرمنا من تحقيق كينونتنا عبر التواصل مع الآخر (حرمان الأب من عائلته كان حدثًا فادحًا تسبب في العديد من المشاكل) كل هذا يؤدي إلى حالة من الانعزال الذي يعري حقيقة الإنسان وينمي داخله حقدًا سرعان ما يتحول إلى عنف: إنها العودة والحنين إلى التوحش.
“الإنسان ذئب للإنسان” توماس هوبز
يصبح الإنسان مجردًا من كل شعور ويكون الانتقام هدفه الوحيد، شخصية المهندس نتتبعها ونُرْغَمُ على التعاطف معها فقد حقق داخل السجن (اللقاء مع عائلته) ما عجز عنه عندما كان متمتعًا بحريته، وفي نفس السياق، يمكن أن نضع حكاية السياسي وصاحبة المطعم، وهي وصف لرغبة الإنسان الدفينة ونزوعه نحو العنف فنلاحظ أن صاحبة المطعم مقتنعة بأن السجن هو المكان الأنسب للعيش بعيدًا عن قهر وظلم أصحاب السلطة، ههنا تبدأ ملامح الفيلم بالظهور، فبعد المشاهدة يجد المتفرج نفسه مجبرًا على فك رموز كل حكاية وعلى الكشف عن الخيط الرابط بين كل هذه الحكايات والشخصيات: إنه عالم المتوحشين الجدد، فالمخرج يصور إنسانًا بدائيًا بأقنعة حداثية زائفة سرعان ما تزول ليظهر الوجه الحقيقي المفزع.
طبيعة العلاقات بين الأفراد
من خلال الحكايات المتتالية في الفيلم، يمكن أن نستنتج طبيعة العلاقات بين البشر في القرن الـ 21، وهي علاقات قائمة على المصلحة والازدراء والمظاهر، فصاحب السيارة الفخمة بمجرد شتمه للطرف المقابل (صاحب سيارة قديمة) تتطور الأمور بسرعة – وهي ميزة في السيناريو – لتتحول إلى معركة بين طبقتين مختلفتين تنتهي بمعركة تؤدي إلى انتحار جماعي.
إن فيلم “المتوحشون الجدد” يشف لنا عن هشاشة نفسية الفرد وسرعة انفعاله لأتفه الأمور وهو ما يؤدي إلى تغييب كلي للعقل، عندها فقط تتحول الشخصيات إلى آلات جامدة تعمل لتحقيق هدف محدد، فالأب الثري لا يفكر إلا في تخليص ابنه من الجريمة التي ارتكبها ولا يتوانى في شراء ذمة الخادم لتحقيق ذلك، إنها حرب الكل ضد الكل بعبارة توماس هوبز، فكل يطمح لحماية مصالحه ولو على حساب الآخرين.
أما آخر حكايات الفيلم فهي نقطة مضيئة وسط ظلام مجتمع ساد فيه التوحش ورغم الحوادث التي أدت إلى إفساد الحفل (الخيانة، العنف… ) يبقى الحب الصادق هو مفتاح الخروج من سجن المجتمع وهو السبيل للتخلص من جحيم التوحش.