كانت الأمور تسير بشكل طبيعي في الضفة الغربية وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة، قبل أن تتناثر عدة إشاعات عن سقوط الرئيس الفلسطيني محمود عباس “أبو مازن” مغشيًا عليه ونقله سريعًا إلى المستشفى، وهي الأنباء التي سارعت السلطة الفلسطينية لنفيها، على الرغم من انتشارها بمعظم وسائل التواصل حينها.
إشاعة أو حقيقة مرض عباس، لم تكن هي المسببة لقلق الفلسطينيين، لكن ما أثار مخاوف الجميع أن السؤال الذي يجب طرحه هو، ماذا سيحدث إن كانت الإشاعة حقيقة وكان عباس يعاني من علة ما؟
ماذا بعد
عباس سيتم بنهاية العام الجاري عامه الثاني عشر في الحكم، وربيعه الثاني والثمانون، وخليفته القانوني وفقًا للدستور في حال حدث مكروه، هو رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، المسؤول بحركة حماس عزيز الدويك، ولن تكون هناك فرصة للرئيس البرلماني المنتمي لحركة حماس لتولي مقاليد الحكم في السلطة الفلسطينية.
إذن من سيخلف عباس في حال الوفاة أو الاستقالة أو الدعوة لانتخابات رئاسية؟ وما هي العوامل التي قد تدفعه لأي من الأمرين الأخيرين؟ وهل ستنهار برحيله السلطة؟
أسئلة كثيرة مطروحة الآن بالساحة السياسية الفلسطينية والإسرائيلية والإقليمية والعالمية بنفس الدرجة، ولا يبدو أن هناك مؤشرات على الساحة الفلسطينية، تشي بإمكانية الدعوة إلى انتخابات رئاسية جديدة، تنهي خلافة الرجل الذي تجاوز الثمانين من عمره، والذي كان قد أجرى تعديلات قانونية، وجدد لنفسه عام 2009، إلى حين إجراء الانتخابات مع نهاية فترة المجلس الوطني الفلسطيني، الذي لم يجتمع منذ العام 1996.
تطورات دراماتيكية
يرى البعض أن حلحلة الوضع في الضفة لن يأتي بالتراضي ولن يقبل عباس بالدعوة لانتخابات رئاسية، لكنها قد تتولد عن حدوث تطورات دراماتيكية، مثل مجزرة إرهابية إسرائيلية، أو تغيير جوهري في وضع ومكانة الأقصى الشريف، أو عملية استشهادية تؤدي إلى عدد كبير من القتلى في صفوف الإسرائيليين، وبالتالي الرد بعنف من الجانب الإسرائيلي ما يستدعي انتفاضة جديدة بالضفة كلها، وليس جنوبها فقط، مثلما حدث في انتفاضة السكين الأخيرة، لكن في المقابل إن استمر الوضع على ما هو عليه ورفض عباس الدعوة لانتخاب رئيس جديد في عهده، ورحل بالوفاة أو بالإقالة نتيجة ضغوط ما، فهذا ليس له إلا نتيجة واحدة وهي انهيار السلطة بالضفة الغربية، ووقتها لن يكون السؤال هل ستنهار السلطة؟ بل سيكون متى ستنهار؟!
تفريغ للقيادات
واقعيًا، قاد عباس السلطة الفلسطينية لمدة اثني عشر عامًا تقريبًا، وهي فترة تقارب فترة حكم الزعيم الراحل ياسر عرفات، لكن خلال فترة عرفات، وبنهاية حياته كان معلومًا من يخلفه، وتركزت الخيارات بين عباس وأحمد قريع، كوريثين شرعيين للحركة، بيد أن الآن وخلال فترة 12 عامًا من حكم عباس، عمل على ضمانة عدم صعود أي قادة جدد إلى الواجهة كورثاء حقيقيين، ربما لذلك أثر سياسي جيد على الصعيد المحلي، حيث مكنه من تعزيز السيطرة على نظام سياسي منقسم بشكل محتمل، ولكن كاستراتيجية وطنية، قد يكون ذلك مدمرًا بالنسبة إلى الفلسطينيين ككل، فلا تستطيع السلطة الفلسطينية تحمل أزمة قيادة، إن غادر عباس منصبه، وستجد نفسها منقسمة بين غزة والضفة الغربية، ومتعثّرة بفعل عملية سلام محتضرة، ومواجهة لسخط متصاعد في الشوارع ومخيمات اللاجئين، فهل ستلتف فتح حول “وريث توافقي” في اليوم الذي يلي رحيل أبو مازن، لمواجهة تحدياتها الداخلية مع مواطنيها، والخارجية المتمثلة في مواجهة الاحتلال، ورغبة حماس في الحكم، أم أنها ستقع مرة أخرى في أخطاء سابقة، كتلك التي وقعت فيها الحركة في قطاع غزة؟
سيناريوهات محتملة
نحاول هنا وضع السيناريوهات المحتملة لخليفة أبومازن وكيف يمكن تفادي أزمة انهيار السلطة، وغياب القيادة لأكثر من مليوني ونصف المليون فلسطين في الضفة، حيث يرى المحللون أن خلافة عباس ستشهد صراعًا بين عدد من السياسيين، بل إن البعض يرى أن هذا الصراع بدأ الآن بالفعل، خصوصًا وأن السلطة باتت قناة لتوزيع الأموال للمسؤولين وأصحاب المناصب، وهي “جهة الاتصال” بين الدول المانحة والمواطن الفلسطيني، وبين إسرائيل والمواطن الفلسطيني، وازداد الصراع على خلافة أبومازن مؤخرًا، بسبب عدم وجود آلية واضحة لتوريث السلطة، خصوصًا وأن تطبيق ما ينص عليه القانون أمر غير ممكن، كونه يفرض تسليم السلطة إلى رئيس المجلس التشريعي، وكما قلنا إنه من حركة حماس، كما أن عباس والمجلس التشريعي كلاهما تجاوزا المدة القانونية منذ سنوات.
قيادة جماعية
السيناريو الأول لخلافة عباس يقول بأن خلافته لن تكون قيادة فردية، بل قيادة جماعية ربما بإشراف ناصر القدوة، ابن شقيق الرئيس الراحل ياسر عرفات ووزير الخارجية السابق، وممثل منظمة التحرير الفلسطينية لدى الأمم المتحدة، إلى جانب ماجد فرج رئيس المخابرات الحالي المقبول أمريكيًا وإسرائيليًا، وتعتبرأنه شريك سري وجدير بالثقة، حتى إن قواته أحبطت في الفترة الأخيرة ما لا يقل عن 200 هجوم ضد إسرائيل، وسلام فياض رئيس الوزراء السابق ووزير المالية، والمغضوب عليه من أبومازن، والذي لم ينضم قط إلى حركة فتح، ويحظى باحترام إسرائيل والغرب، ولكن أبعده أبومازن لأنه كان يرى فيه تهديدًا محتملاً لحكمه.
وثمة أسماء خلفاء محتملين آخرين يجري تداولهم، بما في ذلك جبريل الرجوب قائد الأمن الفلسطيني السابق الذي يقال إنه مدعوم من قطر، بينما يبرز دائمًا اسم محمد دحلان على السطح، وقد طُرد من من حركة فتح في عام 2011 بعد أن اتُهم بالمساعدة على قتل الزعيم الراحل ياسر عرفات، وتطارده تهم الفساد وسمعته السيئة، لكنه ممول تمويلاً جيدًا من مصر والإمارات خصوصًا، ويتحدث العبرية والإنجليزية، ويُعتقد أنه يضخ الأموال في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، والجناح العسكري لحركة فتح، التنظيم، الذي اختلف كثيرًا مع قوات الأمن، لكنه غريب عن الضفة الغربية، أو بمعنى آخر من قطاع غزة، ومن غير الممكن أن يتسلم السلطة بشكل منفرد.
وتبرز شخصية هامة أخرى هي شخصية مروان البرغوثي (56 عامًا)، والذي يُطلق عليه أحيانًا “مانديلا الفلسطيني” لطول فترة اعتقاله في سجن إسرائيلي، وجهوده للتقريب مع حماس، ويعتبر هو الزعيم الوحيد في فتح الذي ينافس قائد حركة حماس في غزة، إسماعيل هنية، في استطلاعات رأي الفلسطينيين حول خليفة عباس أبو مازن.
ما يدعم هذا السيناريو للانتقال السلس للسلطة هو العامل الاقتصادي، فالسلطة الفلسطينية ومؤسساتها تنفق ما يقارب الـ 3.4 مليار سنويا، وهذا رقم ضخم، وسيكون هناك ضغط من الشارع، للحفاظ على هذه السلطة، التي تمول رواتب حوالي 160.000 من المواطنين الذين يعملون في القطاع العام، فهذه الشريحة الواسعة من الشارع الفلسطيني ستتمسك باستمرار بقاء السلطة، كما أنه بدون الإسهام الاقتصادي لمؤسسات السلطة، ستكون هناك كارثة اقتصادية.
مخاوف الانقسام والحكم الثلاثي
أما السيناريو الثاني فهو سيناريو انقسام السيطرة بين شمال الضفة وجنوبها، بحيث تسيطر حركة فتح وما يتبقى من الهيكل الأمني الفلسطيني على مناطق وسط وشمال الضفة الغربية، وبالمقابل تسيطر حركة حماس على جنوب الضفة الغربية، وبشكل خاص منطقة الخليل، ليس على شاكلة الحكم في قطاع غزة، وإنما بصورة غير مباشرة، بحيث تدعم بشكل خفي “حكمًا قائمًا على العائلات الكبيرة” في تلك المنطقة.
سيناريو ثالث يتحدث عن إقامة حكم ثلاثي بعد رحيل عباس، يتضمن رئيسًا للسلطة وآخر لفتح وثالث للمنظمة، لكن السؤال المطروح، هل يمكن لهذه القيادات أن تعمل معًا بسلام؟ وكم من الوقت ستصمد هذه القيادة الثلاثية؟ وماذا سيمنع حدوث تصادم بينهم؟
الخلاصة
إن قيادات السلطة ستواجه صعوبة كبيرة في توحيد صفوفها، في مرحلة ما بعد أبو مازن، فالمتصارعون على الحكم بعد عباس ليس هناك ما يدفعهم إلى توحيد صفوفهم ضد خطر وخصم مشترك، وبعضهم ميال بدرجة أو بأخرى لإسرائيل، فالأمور اليوم تختلف عما كان عليه الوضع في العام 2004، حيث كان هناك بقايا لقيادة تاريخية “المؤسسين”، لكن اليوم القيادات التاريخية غير موجودة في حرب وراثة عباس، ومن بين العوامل التي تمنع تحقق التفاف وتوحد بين قيادات السلطة، حقيقة الانقسام الذي يعاني منه العالم العربي، حيث هناك العديد من الأطراف والدول المتورطة فيما يجري داخل الساحة الفلسطينية، وتختلف تلك الأطراف فيما بينها على من سيخلف عباس في المرحلة القادمة، وهذا يعني أن غياب الإجماع العربي سينعكس سلبًا على أية جهود قد تبذل لتحقيق انتقال سلس للسلطة في مرحلة ما بعد عباس، مع استبعاد أية إمكانية لأن تكون هناك مصالحة بين فتح وحماس، أو تنازل حمساوي عن الحكم في القطاع، ولن يكون هناك حكم فلسطيني موحد وصوت فلسطيني واحد، على الأقل للعشر سنوات القادمة.