اشتعل لهيب الثورة العربية، أو ما يُسمى بالربيع العربي، في السابع عشر من ديسمبر 2010 بتونس، ولم يلبث حتى أخذت به رياح الغضب العاتية إلى مصر ومنها إلى اليمن لتمر بليبيا فالمغرب وبعض الدول العربية الأخرى التي ما زال بعضها حتى يومنا هذا يحيي الثورة بكافة جوانبها.
بداية حركة الإصلاح في المغرب
كان للشعب المغربي المُستبَد سياسيًا والمقهور اقتصاديًا واجتماعيًا نصيبه في استنشاق دخان الثورة الغاضبة والمتمردة على الواقع المرير، حيث نظم الشعب نفسه بكافة أطيافه عبر وسائل التواصل الاجتماعي وانطلق قبل العشرين من فبراير بعض أفراد الشعب بمظاهرات بسيطة وبفيديوهات وصور تدعو إلى التظاهر، ولم يلبثوا أن كللوا تحركاتهم بالنجاح، حيث حولوا احتجاجتهم مترامية الأطراف إلى ثورة ضخمة وافق تاريخ انطلاقها العشرين من فبراير.
اخترقت الثورة العارمة حاجز الصمت الأليم وهزت مضاجع مؤسسات الدولة الهرئة التي لطالما عملت لخدمة نفسها ومُديراها على حساب المواطنين، فأمست عبئًا على الشعب الذي كان يرغب في رؤيتها مُعينة له في حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أُطلق على ثورة الشعب المغربي اسم “ثورة 20 فبراير الشعبية”، لانطلاقها من بين ظهراني الشعب المغربي نفسه وبدون توجيه من قبل أي إطار سياسي أو مؤسساتي، حيث انطلقت بجهود فردية، ولكن سرعان ما تحولت إلى مظاهرات سياسية وتنظيمية انضم إليها عدد من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وهيئات الحقوق الرسمية وأطر الشباب المنظمة.
هذا وقد تركّزت مطالب ثورة فبراير على الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأساسية التي بات يمتلكها معظم شعوب العالم في وقتنا المعاصر، استمرت الثورة بالخروج في مظاهرات ضخمة حتى تاريخ 23 مايو 2011، مما اضطر السلطات المغربية على إثرها إلى إجراء بعض الإصلاحات السياسية والإدارية، ومن الممكن سرد أبرز الإصلاحات التي شكلت نتيجة لثورة 20 فبراير على النحو الآتي:
ـ تشكيل لجنة حقوق إنسان للدفاع عن حقوق المواطن المغربي وضمانها.
ـ تشكيل لجنة لتعديل الدستور وإفساح المجال بشكل أكبر لكافة أطياف الشعب للمشاركة في العملية السياسية.
ـ تخفيف بعض صلاحيات الملك السياسية والإدارية لصالح الحكومة البرلمانية.
ـ إجراء انتخابات ديمقراطية جادة برقابة صارمة تحمي مصدقيتها.
ـ اعتلاء عبد الإله بنكيران لسدة الحكم.
اعتلى عبد الإله بنكيران سدة الحكم في المغرب بتاريخ 29 نوفمبر 2011، عقب فوز حزبه، حزب العدالة والتنمية المغربي، بالانتخابات البرلمانية التي جرت بتاريخ 25 نوفمبر 2011، وتمكن حزبه من الفوز مرة أخرى في الانتخابات التي جرت بتاريخ 4 سبتمبر 2015، وما زال إلى يومنا هذا يمارس مهامه كرئيس للوزراء.
ومن أهم نقاط الإصلاح التي أشار إليها بنكيران خلال برنامجه الانتخابي:
ـ بناء مجتمع متضامن ومتوازن ومستقر ومزدهر.
ـ تحقيق العيش الكريم لجميع المواطنين وتحرير الطاقات والمبادرات.
ـ إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والجهاز القضائي وكافة مؤسسات الدولة للقضاء على الفساد الموجود بها ولإرساء نظام يراعي التضامن والعدالة الاجتماعية.
ـ محاربة اقتصاد الريع الذي يعتمد على مصدر دخل واحد، والاتجاه نحو بناء اقتصاد وطني تنافسي متعدد قنوات الدخل.
ـ تعزيز الفعالية الخارجية وتنصيب المغرب موقع فعال على صعيد السياسة الخارجية.
طرح بنكيران برنامجه الانتخابي الإصلاحي وتولى الحكم منذ عام 2011 وحتى يومنا هذا، ولكن عند النظر إلى مؤشرات الفساد البيروقراطي، نرى أن المغرب ما زال يحتل المرتبة الـ 88 من حيث معدل الفساد العالمي مقارنة بالدول الأخرى، وما زالت المؤشرات الاقتصادية أيضًا تُشير إلى نتائج سلبية، إذ إن معدل النمو الاقتصادي السنوي ما زال أقل من 5% وهو معدل سلبي إذ يجب أن يكون 5% فما فوق، وارتفع معدل البطالة من 9.5% إلى 10% وما زال هناك عجز تجاري وغيرها من المؤشرات الاقتصادية السلبية التي تؤثر بدورها على الوضع الاجتماعي.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: ما المعوقات التي تحول دون إحراز الإصلاحات المنشودة في المغرب؟
ليس دفاعًا شخصيًا عن بنكيران ولكن كافة المؤشرات المحلية والدولية تُشير إلى انعدام الفساد داخل كيانه الحكومي، إذًا في ضوء ذلك ما المعوقات التي تقف أمام تحقيقه للإصلاحات المطلوبة؟
ـ الدولة العميقة: الدولة العميقة هي النخر الذي يعاني منه كافة دول ثورات الربيع العربي، والجميع يعلم مدى قوتها التأثيرية على تحركات الدول، فقد لعبت دورًا مهمًا في قلب نظام الحكم في مصر، واليوم تعمل على إعاقة عملية الإصلاح بكل ما أوتيت من قوة في المغرب، فالأجهزة الأمنية والجهاز القضائي وغيرها من مؤسسات الدولة محاطة بعناصر بيروقراطية تسيطر بشكل كبير على أنشطة وتحركات تلك المؤسسات.
مؤسسات الدولة هي العنصر الأساسي الذي تتكئ عليه الحكومة لتحقيق مشاريعها الإصلاحية، ولكن إن كانت هذه المؤسسات غير معنية بعملية الإصلاح؛ تجد الحكومة صعوبات عالية في تحقيق ما تهدف إليه.
يُقدم الفيلسوف الإيطالي “انطونيو غرامشي” حلًا مثاليًا لهذه المشكلة، ألا وهو “الثورة الصامتة”، أي تغيير عمل وأنشطة المؤسسات اجتماعيًا وثقافيًا ومنها إداريًا بشكل تدريجي ومتأنٍ، بمعنى سيعمل بنكيران على غرس برنامجه الإصلاحي في عقول ثلة واعية من المجتمع وسيعمل على توطين هذه الثلة داخل أروقة مؤسسات الدولة بشكل تدريجي حتى تصل هذه الثلة إلى مراكز قيادية تدرأ عناصر الدولة العميقة وتساند بنكيران في برنامجه الإصلاحي.
ـ التناحر في الصلاحيات بين الحكومة والملك وإعاقة الأخير للكثير من عمليات الإصلاح: بدا واضحًا تناحر رأسي السلطة على إدارة البلاد إبان الانقلاب المصري، حيث اعتبرت الحكومة ذلك انقلابًا، بينما اعتبرها الملك ثورة، وقد استمرت القناة المغربية الرسمية بالاعتراف به كانقلاب لبضع ساعات حيث أمر الملك بإلغاء الاعتراف به كانقلاب وتحولت القناة لداعمة له كثورة، وكما ظهرت أوجه الاختلاف واضحة عندما اتجه بنكيران لتعريب نظام التعليم في المغرب، ولكنه فوجئ بعدم تطبيق الوزير لما تم الاتفاق عليه، وعندما استعلم عن الأمر علم أن الوزير لم يخالف ذلك من لدن رغبته الشخصية، بل جراء ضغوط القصر الملكي عليه.
هذا المثالان وغيرهما يوضحان مدى إعاقة القصر والملك لمسار حكومة بنكيران، فبينما تحاول تنفيذ برنامجها بجعل المغرب دولة ذات نفوذ دبلوماسي فعال في المنطقة وتحاول إصلاح نظام التعليم ومنه الأنظمة الأخرى، يقف الملك أمامها مخالفًا للدستور ومعارضًا للتحركات التي تقوم بها.
ـ وسائل الإعلام المضادة: إذا كان هناك دولة عميقة لا بد من وجود وسائل إعلام مضادة للحكومة تعمل لصالح الدولة العميقة وتشيطن الحكومة وكافة ما تقوم به، وقد كانت التجربة المصرية خير مثال على دور وسائل الإعلام في قلب الرأي العام على الحكومة الإصلاحية وتصوير كل ما تقوم به من محاولات إصلاحية بالتحركات العدائية التي تعادي وطنية الدولة وتخدم مصالح الدول الأخرى، الإعلام هو السلطة الرابعة ولا يمكن إنكار حجم تأثيره على تحرك الحكومة التي عادة ما تتجه لبذل طاقتها في الدفاع عن نفسها أمام اتهامات وسائل الإعلام المغرضة.
ـ انطفاء نيران ثورات الربيع العربي: اتجهت بعض الدول الملكية نحو الاعتراف ببعض الحقوق السياسية والاجتماعية للبرلمان والشعب إبان اشتعال لهب ثورات الربيع العربي، ولكن عندما انطفأت صيرورة هذه الثورات اتجهت هذه الدول لسحب الصلاحيات التي قدمتها للحكومات البرلمانية والشعب لامتصاص غضبه ليس إلا، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الأردن والمغرب، ولا جدال في حجم تأثير ذلك على مساعي الحكومات البرلمانية الإصلاحية، إذ باتت تواجه الكثير من اعتراضات البلاط الملكي على الإصلاحات التي تسعى للقيام بها.
ـ الخلاف الفكري داخل حزب العدالة والتنمية: ينتقد الكثير من رواد ومناصري حزب العدالة والتنمية بنكيران فيما يتعلق بموقفه المتساهل مع الدولة، إذ يرى بنكيران أنه لا بد من الإخلاص للملك وحاشيته بصورة كاملة لكونه بمقام أمير المؤمنين، وهذا ما يعترض عليه الكثير من عناصر حزب العدالة الذين يتهمون الملك بالتهاون مع الفاسدين وإبقائه على باطنة من المتملقين غير الكفؤين لإدارة الدولة.
هناك الكثير من الأسباب التي تعيق تحقيق بنكيران لما يرغب به من إصلاحات، ولكن يبقى حرص الملك وحاشيته على إبقاء السلطة بيدهم للإبقاء على الحكم الكاريزمي الممجد للملك والبعيد عن العمل المؤسسي هو السبب الرئيس في تعطيل حركة الإصلاح.