نشرت صحيفة “الجورنال” في عددها الـ (119)، خبرًا صغيرًا في الصفحة الثالثة، أثار فضولي، لأنه يدق ناقوس الخطر على محاور عديدة، ويقول الخبر إن محكمة جنايات محافظة بابل، أصدرت حكمًا بالسجن سبع سنوات، وغرامة 15 مليون دينار، وفق المادة 6/ ثانيًا، من قانون الإتجار بالبشر، بحق امرأة مدانة بتهمة الإتجار بالبشر.
حيث صرح ضمن الخبر رئيس الهيئة الثانية في جنايات بابل، القاضي حبيب إبراهيم في بيان “أن المحكمة نظرت في دعوى امرأة قامت باستدراج إحدى النساء المطلقات، بحجة تزويجها من ثري خارج البلاد، لقاء مبلغ ثلاثة آلاف دولار أمريكي”، وأضاف إبراهيم أن المرأة كانت قد أبرمت عقدًا لبيعها بعشرة آلاف دولار أمريكي إلى أشخاص آخرين، بهدف استغلالها جنسيًا في دولة الإمارات المتحدة، مبينًا أن القضية معززة بالشهود وكافة الأدلة التي تدين المتهمة، مع ضبط مبلغ بيع الفتاة من خلال كمين نصبته الشرطة للمتهمة.
إنه خبر مفزع، يثير تساؤلات كثيرة عما يحصل في الخفاء في عراقنا العجيب، فما كان نسميه خيالاً، الآن هو واقع يتحقق في العراق، إن الخبر يدفعنا للدخول في عدة محاور، في محاولة لفهم ما يحصل:
تجارة الجنس وعمليات بيع النساء
الخبر يقودنا إلى حقيقة مؤلمة، وهو وجود تجارة لها سوق وزبائن وطرق تمويل وسماسرة وموزعين وأساتذة وطلاب، حلقة متكاملة من الدورة التجارية، فالسوق هو دبي بالتحديد، وباقي إمارات الخليج ذات الطابع السياحي التجاري، هذا السوق يطلب النساء للعمل في تجارة الجنس، فيحرك الطلب تجار الأسواق نحو سماسرة في العراق، بغرض تجميع البضاعة (النساء) ثم الشحن.
هنا يأتي دور السماسرة في تجنيد بعض النساء والرجال، للإيقاع بالضحية، لأنه من النادر جدًا أن ترغب امرأة للعمل في هكذا قذارة، فيكون الكذب والإغراء هو وسيلتهم، وهو هنا عبر وهم تزويج من الخارج، والنساء بطبيعتهن يحلمن بالزواج، فكيف إذا كان الخاطب خليجيًا، أو الكذب عن طريق وهم التوظيف في الخليج، وهم يستهدفون الطبقة البسيطة والفقيرة، أو الأرامل والمطلقات، كي تتقبلن العرض، والوقع أن قصصًا كثيرة مؤلمة تحصل من النادر أن يتم الكشف عنها أو الإيقاع بالجاني، وبحسب الخبر يجب على القوات الأمنية، أن تعرف من الجاني وخيوط العصابة، ومن هو المستفيد في دبي، كي تتم ملاحقتهم قضائيًا، وكي لا تقع ضحية أخرى لهذه الشبكة القذرة.
قضية الإتجار بالأطفال
من خلال الخبر يمكن الربط مع أخبار أخرى، تتحدث عن عمليات خطف الأطفال أو شرائهم من أهلهم، وعندها نتوصل إلى أن الإتجار بالبشر لا يشمل النساء فقط، بل يشمل الأطفال من كلا الجنسين، فعصابات الخطف تنشط في المناطق الفقيرة والمحافظات الجنوبية، لقربها من موانئ البصرة، كي يسرع الإبحار بالغنيمة.
نعم الكثير من عمليات الخطف تكون مقابل الحصول على فدية، لكن بعضها تذهب إلى سماسرة الإتجار بالجنس، حيث يعتبرون الأطفال خير وقود لنخاستهم، تجارة تنشط في الخفاء، ولها نظامها الخاص، من الممكن أن يحصل أي شيء قذر، في بلد الفوضى.
الفقر هو السبب
السؤال الأهم كيف يقبل بعض الناس المخاطرة بحياتهم والرحيل نحو المجهول، مقابل وعود ومبلغ من المال؟ إنه الفقر، هو الدافع الأكبر كي تدفع المرأة نفسها نحو المجهول، وهو من يدفع بعض الناس لبيع أطفالهم، كنا نحلم أن يكون العهد الجديد مختلفًا، حيث نصبح مثل دول الخليج نعيش في رغد من العيش، لكن من جاء للحكم أفسد علينا أحلامنا، وها هو الفقر يتضاعف بمعدلات غير مسبوقة، مع أن العراق مر بعشر سنوات وفرة في الأموال، لكنها لم توضع في برنامج عملي حقيقي، ينتشل المجتمع من واقعه، بل ذهبت مع الريح، في جيوب فئة قليلة، وسيستمر الوضع المأساوي، إلى حين قدوم رجل شريف يقضي على الفقر في العراق.
دليل الانحطاط الخلقي
إن قبول البعض للقيام بهذه الأدوار القذرة، من سمسرة وشراء للبشر، أو القيام باختطافهم ثم ترحيلهم للخارج مقابل الأموال، هو دليل على الانحطاط الأخلاقي الشديد، حيث تكون الضمائر ميتة تمامًا، بحيث لا يهتم أن يبيع امرأة إلى بيت مومسات وهي لا تعلم بمصيرها، أو أن يبيع طفل لرجل خليجي شاذ، أو أن يسفر أطفال لغرض أن يتم انتزاع أجزاء من جسدهم، بغرض بيعها للمحتاجين من الأثرياء، فتصور معي كم هؤلاء مجرمون وقتلة، بحيث يحققون الثراء على حساب مصير الآخرين.
تقصير في الثلاثي (التعليم والمنبر والإعلام)
نتوقف هنا ونؤشر إلى خلل فاضح في المنظومة التعليمية وفي المنبر وفي الإعلام، فهذه الكيانات لم تستطع أن تربي المجتمع تربية صالحة، بل ها هو جزء من المجتمع ينهش بلحم الجزء الأضعف، اعتقد أن هذا الثلاثي عندما يكون فعالاً ويعمل بشكل إيجابي، فإنه سيمنع ظهور الإتجار بالبشر، ولأصبح المجتمع أقوى، لكن الحال المزرية الحالية، شريك فيها هؤلاء الثلاثي بسبب ضعف دورهم، مما سمح للبعض أن يسرح ويمرح، ويدمر أعراض الناس من دون رادع.
السبب هو ضعف الدولة
الدولة القوية هي التي يكون القانون فيها مطبقًا على الأرض، وتكون الدولة دومًا لجانب المواطن، توفر له ما يحتاجه وتحفظ كرامته وتحميه من الأخطار، وكل هذا نفتقده لأننا نعيش في دولة ضعيفة، ففي الدولة الضعيفة تنشط كل أنواع الجريمة، وهو ما حصل اليوم، حيث إن خلافات الساسة وأنانيتهم، مع غياب الرؤية، وصعود من لا يستحق إلى كرسي القرار، أوجد لنا كيانًا سياسيًا هشًا، مما جعل العراق من أكثر دول العالم فسادًا، وهكذا وجدت الجريمة بيئة مناسبة لها في العراق لتنشط، بالمقابل حصل ارتفاع شديد في معدلات الفقر، إذًا من صنع جريمة الإتجار بالبشر هو النظام السياسي الضعيف في العراق، وهم يتحملون تبعات كل جريمة تحدث لكل مواطن بسيط، هذا الأمر يجب أن يستشعره الساسة ويجعلهم يفهمون دورهم الكبير، في عملية توفير المناخ المناسب للجريمة.
الحل أين؟
كل مشكلة يمكن حلها لكن بشرط، وهو أن تتوفر إرادة حقيقية لحلها، وهنا الإرادة يجب أن تكون من قبل النخبة الحاكمة، لأن الحل بيدهم، وهنا نجد أهم مسارات الحل تكمن في:
أولاً: تفعيل قانون مكافحة الإتجار بالبشر، الصادر في عام 2012، والذي لو فعل بكل بنوده لتم تجفيف روافد هذه التجارة، فهو يضمن حفظ حقوق العراقيين، وملاحقة عصابات الخطف الإجرامية، وسماسرة الإتجار بالبشر.
ثانيًا: على الحكومة الإسراع بوضع برنامج فعلي لخفض معدلات الفقر، لأن الفقر هو سبب وقوع البعض ضحية سهلة بيد سماسرة وعصابات الإتجار بالبشر، مثل دعم بطاقة تموينية وبطاقة صحية خاصة بالفقراء، مع توفير فرص عمل للفقراء، مع أهمية توفير فرق اجتماعية نفسية تتواصل معهم، كي تساعدهم في حل مشاكلهم.
ثالثًا: دعوة الإعلام خصوصًا الفضائيات، لتسليط الضوء بشكل كبير على قضية الإتجار بالبشر، كي يكون وعي للناس ليتشكل حائط صد معرفي، ضد الوقوع في شرك الأكاذيب التي يعتمد عليها السماسرة للإيقاع بالنساء.
رابعًا: تفعيل دور منابر الأماكن الدينية، بما له من قدسية عند المجتمع، حيث من الممكن أن تشير عبر برنامج متواصل، إلى خطر هذه الحالة، وتوضيح رأي الدين منها، وأهمية تكاتف المجتمع لحماية الفقراء والبسطاء، من شر هؤلاء السماسرة والعصابات الإجرامية.