كتب الصحفيان المعروفان بيتر أوبورن وديفيد هيرست مقالا في موقع “ميدل إيست آي”، عن التحولات التي تمر بها حركة النهضة التونسية، وإصلاحات زعيمها راشد الغنوشي، وهذا نص المقال:
خارج بوابة فندقنا في وسط تونس كان هناك احتفال، لإعادة الحبيب بورقيبة، الذي ينظر إليه على أنه مؤسس للأمة، ويراه آخرون ديكتاتورا سيئ السمعة، إلى سابق مجده على شكل تمثال برونزي، ويذكر أن بورقيبة، الذي يتسيد المكان في ساحة الأليزيه، كان واحدا من آخر أعماله بصفته رئيسا قبل الإطاحة به منذ ثلاثين عاما، هو إصدار أمر بإعادة محاكمة معارض بارز، فلم يكن راضيا عن حكم السجن المؤبد الذي صدر بحقه، بل كان يريد حكم الإعدام له.
كان ذلك الرجل الذي واجه الموت هو راشد الغنوشي، الزعيم الروحي للربيع العربي، الذي يحتفي به الكثيرون بصفته المؤسس لتونس ما بعد الثورة.
وكان تمثال بورقيبة وحصانه قد نزعا بناء على أمر زين العابدين بن علي، الديكتاتور الذي تبعه، وعندما سألنا الشيخ الغنوشي عن رأيه بالاحتفال، أجاب: “بورقيبة شخصية عظيمة، ولا يمكنك محوه من التاريخ، فقد قاد الحركة الوطنية، التي حررت تونس، ولا يمكن إلغاء هذا الأمر، فهو حقيقة، ولست مع هذا الثمثال، لكن لا مشكلة لي معه”.
وقام كل من بورقيبة وابن علي بسجن وتعذيب الإسلاميين وإجبار عشرات الآلاف منهم على الخروج إلى المنفى.
كما أنه لا مشكلة لحزب الغنوشي من دعم حركة أقلية في البرلمان، وهي “حركة نداء تونس”، التي كان وجودها أصلا للإطاحة بالإسلاميين، وإعادة الحكم العلماني، ولم تكن هناك مشكلة في تشكيل حكومة معهم، ولا دعم الرئيس الحالي الباجي قايد السبسي، الذي عمل وزيرا في حكومة بورقيبة.
وقالت مصادر داخل حزب نداء تونس لـ”ميدل إيست آي” إن الإماراتيين عرضوا ما بين 5 إلى 10 مليارات دولار، في حال قبل السبسي بإلغاء اتفاق الشراكة بالسلطة مع النهضة، لكنه رفض، وقال الغنوشي: “لدي ثقة كافية برئيسنا، ولدي ثقة بوطنيته، وقد انتخبه المواطنون التونسيون، وسلطته لا تعتمد على دعم من هم في الخارج”.
وينبع تأكيد الغنوشي على المصالحة مباشرة من كتاب قواعد نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، إلا أن الزعيم التونسي يبني حساباته على السياسة الصعبة، ولهذا السبب يعتقد أنه يستطيع إبقاء السبسي على الطريق الصحيح، ويقول: “إنه يعرف أن قطاعا كبيرا من التونسيين انتخبوا النهضة، وهو بحاجة إليها لتقوية حكومته، ونحن بحاجة لحكومته لتحقيق التوازن، ولبناء قاعدة قوية لدولتنا وحكومتنا، سلطة تقوم على توازن القوى، وموازنة القوى في تونس تحتاج إلى التعاون بين الرئيس وحزبه وحزبنا، وتعكس معظم الاستطلاعات أن نسبة 70% من التونسيين ترغب بالحفاظ على الديمقراطية، ولهذا فإنه من الصعب في هذه المرحلة القيام بانقلاب ضد رغبة الغالبية منهم”.
ولا تعد المصالحة هي الميراث الوحيد للزعيم التونسي، فالثانية قد تكون مهمة “مثل الأولى”، حيث إن الخطوة الكبيرة والأكثر خطورة التي اتخذها الغنوشي هي التي أعلن عنها في المؤتمر العاشر لحزبه الشهر الماضي، فالرجل الذي ظلت حياته مرادفة للإسلام السياسي، أعلن أن الأخير لم يعد له مكان في بلده، وفي الوقت الذي ستحافظ فيه حركته على شخصيتها الإسلامية، فإنها ستصبح حزبا سياسيا صرفا، وستقطع علاقتها مع الدعوة والمسجد.
وقال الغنوشي: “بعض الدعاة هم أعضاء في حزبنا، وعندما يتم انتخابهم في البرلمان فإن عليهم الاختيار بين البرلمان، والتوقف عن العمل بصفتهم أئمة، أو البقاء في عملهم أئمة وعدم الذهاب إلى البرلمان”، حيث أكد أن هذا القرار ينطبق عليه نفسه، فهو داعية معروف، مثلما ينطبق على أي ناشط في الحزب.
وتساءلنا هل هذه هي لحظة المادة الرابعة، القرار المهم الذي اتخذه توني بلير عام 1994 في بلاكبول، عندما دفع باتجاه إلغاء المادة التي ألزمت الحزب بفكرة ملكية الدولة، بصفتها وسيلة للإنتاج، وأعلن عن ولادة حزب العمال الجدد؟
ووافق الغنوشي قائلا: “نعم، فنحن نريد تقديم النهضة الجديدة؛ من أجل إعادة تجديد حزبنا، ووضعه في المجال السياسي، بعيدا عن الانخراط في الدين، فقبل الثورة كنا نختبئ في المساجد واتحادات العمال والجمعيات الخيرية؛ لأن النشاط السياسي الحقيقي كان ممنوعا، والآن نستطيع أن نكون لاعبين سياسيين بشكل مفتوح، فلماذا نمارس السياسة في المسجد؟ ويجب أن نمارس السياسة بشكل مفتوح في الحزب”.
ورفض زعيم النهضة مزاعم تخليه عن الإسلام، قائلا: “لقد تبنينا فكرة حزب مدني، وعليه فإننا نستطيع التفريق بين ما هو مقدس في الإسلام، وما يمكن تفسيره بحرية، فالمجال السياسي ليس مقدسا ولا هو ثابت، إنه مدني وإنساني ومفتوح على الاجتهاد أو التفكير العقلاني المستقل، وهناك الكثير من المسلمين يخلطون ما بين النصين، ويعدون النصوص مقدسة كلها، ولا يمكن المساس بها، ولا تحمل إلا معنى واحدا، فالنص الإسلامي المتعلق بالسياسة مفتوح، وهو الحقل الذي نعمل فيه الآن”، لكنه يتخلى عن الإسلام السياسي، الذي يظل مفهوما غربيا، ويخلطه التونسيون الآن بتنظيم الدولة المعروف بـ”داعش”.
ويقول الغنوشي: “واحد من الأسباب التي تدفعني لعدم الانتماء للإسلام السياسي، هو أن تنظيم الدولة جزء من الإسلام السياسي، وهو جزء من العناصر داخل الإسلام السياسي، ولهذا أود تمييز نفسي عن تنظيم الدولة، أنا مسلم ديمقراطي وهم ضد الديمقراطية، حيث يرى تنظيم الدولة الديمقراطية حراما، وهناك الكثير من الفروقات العميقة بيننا وبين تنظيم الدولة، وهم مسلمون ولا يمكنني وصفهم بغير ذلك، لكنهم مجرمون وديكتاتوريون، وتنظيم الدولة هو الوجه الآخر للديكتاتورية، ثورثتنا ديمقراطية، والقيم الإسلامية متوافقة مع الديمقراطية”.
ويحاول الغنوشي الدفع بتغيير أساسي في السياسة بمرحلة ما بعد الثورة في تونس، والتخلي عن سياسة الهوية، والعودة إلى قضايا الخبز والزيت، ويعتقد أن هذا هو الطريق الذي يمكن من خلاله حماية تونس من الفوضى التي تشهدها المنطقة المحيطة بها.
إلا أن التحول الذي يحاول الغنوشي عمله يترك حزبه، وبشكل محتمل، عرضة للتقلبات على الجبهة الوطنية والدولية، فلماذا على قاعدة النهضة الاجتماعية التصويت له؟ وما هي تداعيات قرار النهضة على الإسلاميين في مصر واليمن وسوريا، ممن لا توجد دولة تحميهم؟
فعلى الجبهة الداخلية لا يظهر الغنوشي اهتماما، فقد يترك البعض الحزب، كما يقول، لكنه يتوقع انضمام أعداد جديدة له، والغنوشي أكثر حذرا في رده على التداعيات الدولية للقرار الذي اتخذه ولسبب واضح؛ فقد يتهم بأنه ترك جنوده وسط المعركة، لكنه أكد أن قرار النهضة هو قرار تونسي في النهاية، وقد ينجح الإسلام السياسي بصفته نموذجا ثوريا في الدول التي لا يزال فيها الإسلام يتعرض للاضطهاد، لكنه لم يعد في تونس.
نصيحة لإخوان مصر
وقدم الغنوشي تحذيرات للإخوان المسلمين في مصر، قائلا: “لقد نصحنا الإسلاميين كلهم في المنطقة بأن ينفتحوا للعمل مع الآخرين، والبحث عن الإجماع؛ لأنه دون وحدة وطنية ودون مقاومة ضد الديكتاتورية فلن تتحقق الديمقراطية، وهناك حاجة لتحقيق مصالحة حقيقية بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين المسلمين وغير المسلمين، حيث إن الديكتاتورية تتغذى من المواجهة بين الأطراف كلها”.
ولكن العلاقات التنظيمية بينه وبين الإخوان المسلمين قطعت؛ النهضة ليست عضوا في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، لكن الشيخ سيحتفظ بعضويته في الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين والمجلس الأوروبي للفتوى، وهما مؤسستان غير سياسيتين، وكلاهما يترأسهما أبرز علماء الإخوان المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي.
وحظي قرار الغنوشي قطع علاقاته مع الإسلام السياسي بترحيب غربي؛ كونه خطوة مهمة نحو الحداثة، لكنه استقبل برعب في أجزاء من العالم العربي، وكان هناك شعور بالفزع من أن أكثر الأصوات احتراما، والداعية للزواج بين الإسلام والديمقراطية، يدير ظهره على ما يبدو للحركة التي ارتبط بها طوال حياته.
وأكثر من هذا، فإن هناك مخاوف واضحة من أن يؤدي تغيير الغنوشي لموقفه إلى انكماش الفضاء العام في الديكتاتوريات العربية، التي لا يوجد فيها خيار إلا بين الديكتاتورية والسلفية الراديكالية.
ويقول المقربون من الغنوشي إن هذه التجربة تنطبق على تونس فقط، ومن الباكر لأوانه الحكم عليها، وكتبت ابنته، المعلقة الصحافية سمية الغنوشي قائلة: “التجربة التي نحن منخرطون بها محلية، ولا تناسب سوى الظروف التونسية، ولا تنطبق بالضرورة على التجارب الأخرى في المنطقة، فكل بلد له ظروفه الخاصة ومشكلاته، وفي النهاية سيحكم الزمن وحده على هذه التجربة، وسيظهر كم كانت صحيحة، وعليه فلا تسارعوا في الحكم عليها سلبا أم إيجابا”.
والنهضة الجديدة تعني حتى تغيير الاسم، وقد يطلق عليها الحزب المحافظ، ولم يستبعد الغنوشي الإشاعات، وإمكانية ترشيح نفسه للرئاسة، وسئل عن الظروف التي يمكن أن يرشح فيها نفسه للرئاسة، فأجاب: “ليست على برنامجي في الوقت الحالي”.
كانت تونس مهد الربيع العربي وهي تقوم مرة ثانية بقيادة العالم العربي نحو مسار جديد، فهل ستنجح؟ فالديمقراطية التونسية لا تزال هشة، كما كشف بوضوح هجوم استلهمه منفذه من تنظيم الدولة، على السياح البريطانيين بمنتجع سوسة.
وقد تم الترحيب بقرار الغنوشي، وبشكل جيد، في العاصمة تونس، أما في بقية البلاد، فإن المواقف كانت مختلطة، كما اكتشفنا عندما قمنا برحلة 200 كيلومترا إلى الجنوب إلى مدينة سيدي بوزيد، المدينة الواقعة وسط تونس، التي بدأ فيها بائع الفواكه محمد بوعزيزي الربيع العربي، عندما حرق نفسه يأسا قبل خمس سنوات.
كنا في وضع أفضل قبل الثورة
في مقهى لا يبعد سوى 100 متر عن المكان الذي توفي فيه بوعزيزي، تحدثنا مع أربعة شبان كانوا يتناولون القهوة، اثنان منهم يعملون، وقال لنا حاتم، الذي يعمل في صناعة النفط: “لا توجد تحسينات، ولم يتغير شيء”، وأخبرنا حاتم أنه يعرف عن شبان سافروا للانخراط في صفوف مقاتلي تنظيم الدولة في كل من سوريا والعراق، وآخرين هاجروا، وكان مقصدهم قطع البحر المتوسط إلى الشمال.
وأمام المقهى، قال بائع الأحذية عبد القادر، إن الحياة كانت أفضل قبل الثورة، وأضاف: “كانت الحياة أقل غلاء من اليوم”، وقال عبد القادر إنه يعاني من أجل توفير أجرة غرفة يعيش فيها مع زوجته وأولاده التسعة. ووجدنا علي، وهو مثل محمد بوعزيزي، تاجر يببع فواكه من عربة دون رخصة، بطيخ وتين وليمون، وسألناه عما إذا تغيرت الحياة للأفضل، فأجاب: “ما جدوى الكلام، فلا أحد يستمع”، وقال لنا إنه وزملاؤه التجار ينامون في عرباتهم، وإن الحياة كانت أفضل قبل الثورة.
واعترف النائب المستقل عن سيدي بوزيد نوفل الجمالي بأن هناك مشكلات كبيرة فيما يتعلق بالبطالة بين الشباب، قائلا: “نحن نتحدث عن هذه المشكلات منذ خمس سنوات، ولم يحدث شيء، ولا يزال الناس ينتظرون الحكومة لتقديم الحلم، ولا توجد فرص للشباب، ولا يأملون شيئا من المستقبل، وهناك نزعة للتحول إلى الإرهاب”.
حقق السياسيون تقدما في كل من المصالحة والتحول عن أحزاب الهوية، ومع ذلك يظل المستقبل الاقتصادي غير واضح، ويجود الغرب بسخاء في الثناء على قادة، مثل الغنوشي والسبسي، لكن الكلام رخيص، ولم يتم تقديم المال بعد، ويقول الغنوشي: “أعتقد أن الغرب قدم الدعم للديمقراطية في أوروبا الشرقية أكثر من تونس، مع أنها مثل القلعة تحمي أوروبا من تنظيم الدولة، ولو سيطر الأخير على تونس، فإن أوروبا ستكون عرضة لتهديد حقيقي، كما نشاهد في أجزاء من ليبيا”.
ولم يترك هذا المنطق أي انطباع على الحكومات الغربية، التي تنتظر سقوط الدول، بدلا من دعم دول مثل تونس، التي يظهر قادتها أنهم يعثرون على الحلول لمشكلاتهم.
المصدر: ميدل إيست آي / ترجمة: عربي 21
يمكنكم الاطلاع على حوار ديفيد هيرست مع الشيخ راشد الغنوشي هنا – حوار مع راشد الغنوشي: آراء حول الإسلام الديمقراطي