مفاجأة دبلوماسية تلك التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد عام 2004 حين قرر القيام بزيارة إلى العاصمة التركية أنقرة، كأول زعيم سوري يزور تركيا منذ سقوط الخلافة العثمانية، حيث شهد البلدان العديد من التوترات على خلفية ملفات عدة كلواء الإسكندرونة ودعم دمشق لحزب العمال الكردستاني وبناء تركيا لمجموعة سدود قُرب منابع نهر الفرات على أراضيها هددت حصة السوريين من مياه النهر، لكن كل تلك الخلافات تراجعت لتغيّر بسيط في الموقف التركي أنذاك، وهو التباعد بينه وبين الموقف الأمريكي على عكس الحال أثناء الحرب الباردة، وهو تباعد وصل لأقصى درجة حين قررت واشنطن غزو العراق وغض الطرف عن كافة نشاطات الأكراد في شمال العراق، وهي تحركات أقلقت الأتراك والسوريين على السواء.
اتجه أردوغان والأسد إلى تدشين انفتاح سياسي واقتصادي وثقافي غير مسبوق، في محاولة من الأول لحشد أكبر عدد من الحلفاء الإقليميين بوجه السياسة الأمريكية الجديدة الأقل اهتمامًا باعتبارات الأمن القومي التركي، ومحاولة من الثاني لتنويع تحالفاته المقتصرة بالأساس على إيران، والتي كانت الخلافات بينها وبينه ولا تزال موجودة بالنظر لكونها نظامًا دينيًا وكون نظام البعث السوري علمانيًا، وقد شهدت تلك الفترة دخول الاستثمار التركي بقوة في سوريا، وحضور سوريا في مساحات مشتركة مع الإستراتيجية التركية لأول مرة، لا سيما فيما يخص جمهورية شمال قبرص التركية التي لا يعترف بها أحد سوى الأتراك وتعاني عُزلة كبيرة عن العالم، حيث قام نظام الأسد أنذاك بفتح قنوات دبلوماسية مع الجمهورية الصغيرة، وإطلاق حملة لإرسال الطلبة السوريين إلى جامعاتها التركية، مع تشغيل خط للنقل البحري بين اللاذقية ومدينة فاماغوستا الساحلية التابعة لشمال قبرص.
شهر عسل طويل استمر حتى اشتعال الثورة السورية عام 2011، والتي حاول الأتراك في الواقع إقناع الأسد في بداياتها بإدخال بعض الإصلاحات لتجنّب مصير مبارك والقذافي وبن علي، لكن المواجهات المباشرة مع المتظاهرين بالرصاص الحي، ثم اندلاع الحرب مع انشقاق بعض قيادات الجيش السوري وتشكيلها للجيش الحر، دفع بمسار الثورة السورية نحو الحرب، وبالموقف التركي باتجاه دعم الثورة وتسليحها، وهي معادلة كان الأتراك على ثقة من نجاحها نظرًا لتعامدها أنذاك مع الموقف الأمريكي الرافض لاستمرار نظام الأسد، وقناعة الأتراك بأن وقوف الغرب والخليج معًا ضد الأسد سيتيح لها هامشًا واسعًا من المناورة لخلق منطقة نفوذ خاصة بها في شمال سوريا الذي يعنيها بشكل رئيسي.
كان قرار التخلي عن الأسد في الحقيقة مدفوعًا بعوامل أخرى، منها أولًا اختلاف النظرة التركية تمامًا لحكومة كردستان العراق، والتي صارت اليوم حليفًا من حلفاء تركيا بعد الرهان عليها بدلًا من معاداتها، علاوة على اختلاف نهج التعامل مع حزب العمال الكردستاني والذي أطلقت الحكومة التركية “عملية السلام” معه (قبل أن تتوقف لاحقًا الصيف الماضي،) وهي تحولات جعلت التقارب مع الأسد يفقد قيمته نوعًا ما لصالح دعم الثورة مع المعسكرين الغربي والخليجي، بيد أن مسار الحرب السورية في العامين الماضيين قد انقلب بشكل غير متوقع لإعادة ترتيب كل تلك الأوراق من جديد، بما فيها الأوراق التي فرضت يومًا ما تقارب نفس الرجلين.
كيف تخلّى الأتراك عن الأسد؟
توقفت عملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني الصيف الماضي لأسباب كثيرة، وكان متوقعًا في الحقيقة بعد أن ارتفع سقف حزب العمال بشكل واضح جراء نجاحاته في شمال سوريا، واقتراب الولايات المتحدة منه في محاولة من واشنطن للرهان على طرف قوي بسوريا بعيدًا عن المعارضة السورية الهشة، وفي محاولة أيضًا للاعتماد على قوة عسكرية قوية بوجه زحف الدولة الإسلامية بالعراق والشام (داعش)، والتي أدى ظهورها لقلب كافة الموازين والأولوليات الغربية، واتجاهها ناحية تأجيل مسألة بقاء الأسد من عدمه والتركيز على مواجهة الدولة الوليدة التي ضربت عرض الحائط حدود سايكس بيكو، وهو ما أدى لفشل الحسابات التركية المبكرة.
كان غض الطرف عن داعش هو أول سياسة جرّبتها تركيا لإحداث توازن مع القوات الكردية واحتوائها نوعًا ما، لكنها أثبتت صعوبة الاستمرار فيها بالنظر لكون تركيا عضوًا بحلف الناتو ولا تتمتع بهامش حرية واسع في اختيار تحالفاتها على غرار دول بعيدة تمامًا عن الغرب مثل إيران، علاوة على أنها كانت سياسة مرحلية غير قابلة للاستدامة نتيجة استحالة اعتماد أنقرة على داعش كبديل للمعارضة السورية المفككة وممثل للعرب السنة في سياق الخط الدموي الذي اختارته داعش ومُعاداة الجميع لها، وهو ما دفع تركيا ناحية سياسة جديدة هي البحث عمّا يميل بالكفة لصالح المعارضة بشمال سوريا (منطقة الحظر الجوي،) مما قد يعينها مستقبلًا في إعادة ترتيب صفوفها بشكل أفضل وإعادة تجربة كردستان العراق.
كان هناك فرق كبير في الحقيقة بين التجربتين، أبرزها وجود قوة عسكرية متجانسة بشكل كبير في شمال العراق يُعتمد عليها للاستفادة من الحظر الجوي، بالإضافة إلى رغبة الولايات المتحدة نفسها، بعد أن ضربت العراق في التسعينيات ثم غزته عام 2003 بنفسها، في إحداث ذلك التغيير داخل البيت العراقي، أما شمال سوريا فلا تمتلك حتى الآن قوة متجانسة قابلة للاستمرار لتمثيل العرب السنة، والطرف الوحيد الذي أراد فرض حظر جوي فيها (وهو تركيا) لم يملك القدرة الكافية لدفع الثمن العسكري لتحقيق هدفه بنفسه بالدخول برًا لأسباب عديدة تتعلق بأولويات الجيش التركي وعقيدته، ومن ثم فشل الرهان على منطقة آمنة في شمال سوريا.
أخيرًا، أتى التدخل العسكري الروسي ليُنهي تمامًا إمكانية الاعتماد على المعارضة السورية كظهير قوي للإستراتيجية التركية في سوريا، مُضافًا لبعض المساعدات التي قدمتها روسيا هي الأخرى لحزب العمال الكردستاني بعد إسقاط طائرتها من جانب تركيا في محاولة للضغط أكثر على أنقرة لإقناعها بتنحية عداوتها مع الأسد في إطار جهود التوصل لتسوية شاملة للملف السوري فيما بعد، وهي سياسة لم تعارضها الولايات المتحدة على الأرجح، ولم تبالي بها إيران التي تمتلك أقلية كردية أيضًا ولكن غير متصلة جغرافيًا بحزب العمال.
هل يتكرر منعطف 2004؟
الرئيس السوري بشار الأسد وزوجته مع وزير الخارجية التركي أنذاك عبد الله غُل أثناء زيارته عام 2004 إلى أنقرة
طوال تلك الفترة لم تفكر تركيا أبدًا في إعادة النظر بإمكانية التنسيق مع الأسد، والأسباب تتراوح من استثمارها الضخم في المعارضة السورية والحرب الطويلة التي خاضتها ضده، إلى تنسيق الأسد نفسه مع حزب العمال الكردستاني لفترة طويلة في تكرار لسياسات الثمانينيات حين دعم نظام حافظ الأسد الحزب كورقة ضغط على تركيا، بيد أن المنعطف الذي دفع بالبلدين للتقارب قبل حوالي عقد أو أكثر يبدو في طريقه للتكرار جزئيًا، لا سيما فيما يخص الملف الكردي، فقوات سوريا الديمقراطية الكُردية التي يراهن عليها الغرب ويستحوذ على دعمها يومًا بعد يوم، باتت قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على كامل الشريط الحدودي الشمالي بين سوريا وتركيا، وصارت تطرح خططًا صلبة عن طموحاتها بأن تكون سوريا الجديدة محكومة بنظام فيدرالي.
هي تحركات تقلق الأتراك بشدة بالطبع، ولكنها تُقلق نظام الأسد أيضًا، والذي لم يدعم حزب العمال يومًا كهدف بحد ذاته ولكن بغية مناورة تركيا لا أكثر، علاوة على أن تحوّل أكراد سوريا إلى ظهير أمريكي على غرار ما جرى بشمال العراق لن يريح الأسد، الأمر الذي يذكره بمصير العراق الضعيف حاليًا والمنقسم وفق خطوط طائفية، وهي خطوط لا تزعج إيران كثيرًا ما دامت تتمتع بالخط الواصل من نفوذها بجنوب العراق إلى حزب الله بجنوب لبنان، في حين تمثل إزعاجًا لطرفين؛ نظام الأسد الطامح للخروج بأكثر تماسك ممكن بعد انتصاراته الأخيرة، وروسيا التي لن تميل إلى نظام مفكك يعجز عن السيطرة على “سوريا المفيدة” المكونة من المدن الكبرى والساحلية ويستمر في تشكيل المتاعب بتصدير المتطرفين من ناحية، وربما تهديد قواعدها العسكرية الوحيدة في البحر المتوسط من ناحية.
على الرُغم من التنسيق الواضح بين الأسد والقوات الكردية حتى اللحظة بشكل عام، فإن بوادر اصطدامهما قد لاحت في الأفق أواخر أبريل المنصرم حين وقعت معارك بينهما بمدينة القامشلي الخاضعة لسيطرة الأكراد، إذ حاولت القوات الكردية ترسيخ سيطرتها على المدينة بالاستحواذ على إحدى السجون، مما دفعها لقتل خمسة من جنود النظام وأسر 67 منهم، ومن ثم قامت قوات النظام بشن هجمات مدفعية على المدينة، “لقد سمعنا منذ أيام عن محاولة جزائرية لفتح قناة اتصال بين تركيا والحكومة السورية، وقوات حماية الشعب الكردية غاضبة لذلك وتحاول السيطرة على كافة المناطق الكردية،” هكذا صرحت ماجدة دليل العضوة الكردية بوفد المعارضة السورية في جنيف.
على غرار ما جرى في 2004 حين أدى غزو العراق ودعم الأمريكيين للأكراد بشمال العراق إلى التباعد بين واشنطن وأنقرة، تؤدي سياسات الولايات المتحدة المشابهة اليوم في سوريا بدعم حزب العمال ضد داعش إلى تباعد ربما أكبر بين البلدين، وهو تباعد سيؤدي تلقائيًا لبحث أنقرة عن أصدقاء جدد لتوسيع مجال حركتها في سوريا، والمتضائل حاليًا نتيجة التوتر مع معظم الأطراف، ومن ثم تحقيق هدفها الرئيسي الآن المتمثل باحتواء حزب العمال، وهو هدف سيجعلها أقرب مع الوقت لمحور روسيا والأسد الذي سيجد في القوات الكردية رويدًا الند الأساسي لرؤية سوريا المفيدة الروسية، ويحاول تقليص مكاسبها قدر الإمكان، خاصة إذا ما تزامن ذلك مع تراجع خطر المعارضة السورية على نظام الأسد بشكل أكبر.
***
بالنظر لكون تركيا المفتاح الرئيسي لدعم المعارضة السورية، فإن أي تقارب بينها وبين محور روسيا والأسد (وإيران) هذه الأيام سيؤدي لتراجع كهذا بالفعل، ولعل ذلك هو موقف البعض في صفوف صناع القرار الأتراك ممن يعتقدون باستحالة توحيد صفوف المعارضة السورية بأي شكل والخروج بقوة عربية سنية تضاهي داعش وتستثني جبهة النصرة، وأن الحل الأمثل هو الرهان على عملية تسوية كبرى بالتنسيق مع روسيا وإيران تشمل التخلي عن دعم المعارضة مقابل إعادة هيكلة كبرى لنظام الأسد (بشخص الأسد أو بدونه،) وتركيز رُعاة ذلك الاتفاق على تماسك النظام الجديد عسكريًا واقتصاديًا للاستمرار في طرد داعش ناحية الشرق بعيدًا عن سوريا المفيدة، ثم احتواء حزب العمال وضرب ما تبقى من الجماعات المسلحة التي ستتضاءل قوتها كثيرًا حال تخلت عنها تركيا.
هو تقارب منطقي في الحقيقة وإن بدا صعبًا وعصيبًا على أنقرة، لكن عجزها عن القيام بما يجب عسكريًا لتحقيق أهدافها تامة، على العكس من الأمريكيين والروس، يعني حتمية كونها الطرف الأكثر تقديمًا للتنازلات لحماية مصالحه، بما يشمله ذلك من الحل البراغماتي بالتخلي عن دعم الثورة السورية كهدف رئيسي والتركيز على محاربة حزب العمال، عدا ذلك فإن الحلول الوحيدة المتاحة هي اتخاذ قرار بالعودة لطاولة المفاوضات مع حزب العمال والقبول بمكتسباته بشمال سوريا، وهو قرار شبه مستحيل حاليًا مقارنة بالتقارب مع محور روسيا والأسد، تمامًا كما كان القبول بالحديث مع مقاتلي حزب العمال شبه مستحيل عام 2004، في حين كان يمكن القبول بالانفتاح على الغريم القديم في دمشق ورُعاته في موسكو وطهران.