بالرغم من عدم إيمان البعض بنظرية المؤامرة إلا أن المنصف من المحللين والسياسيين لا ينكرها على الإطلاق، بل يضعها في إطارها الصحيح دون تهويل أو مبالغة، وما يحدث في بعض المدن العربية من مخططات إبادة وتدمير وقتل ما هو إلا ترجمة عملية لبعض هذه المخططات، وتنفيذ حقيقي لبنود المؤامرة التي تحاك ضد الأمن القومي العربي.
والمتابع للمحور الثلاثي (تعز – الفلوجة – حلب) يجد أنه بات يمثل الشوكة الوحيدة في ظهر التحالف (الإيراني – الأمريكي – الروسي) كون تلك المدن الاستراتيجية هي السلاح الأول على خط المقاومة المناهض لتمرير المشروع الصفوي الذي يهدد بلا شك منظومة الأمن القومي الخليجي بصورة خاصة.
والمدقق في هذه المدن المحورية الثلاث يجد أن هناك خيط واحد يجمعها يتمثل في مقاومة الاحتلال الأمريكي الروسي الإيراني، وتدفع لأجل هذا عشرات الشهداء يوميًا، دون أي مدد خليجي أو دعم يذكر، بالرغم من كونها حائط الصد الذي لو سقط لتعرت معه النظم السياسية في دول الخليج، وباتت على مرمى البصر من الفتك حال تثبيت الدولة الصفوية أركانها في اليمن والعراق وسوريا.
“تعز” حائط الصد ضد الحوثيين
تتميز مدينة “تعز” اليمنية بالعديد من الخصائص الجغرافية والتاريخية جعلتها في قائمة المدن المحورية ذات الأهمية الاستراتيجية في دولة اليمن، فهي العاصمة الثقافية للبلاد، وتقع في سفح جبل صبر الذي يبلغ ارتفاعه نحو 3000 متر، تبعد عن العاصمة صنعاء 256 كم، وهي مركز محافظة تعز أكبر محافظات اليمن سكانًا، وتعد ثالث مدينة يمنية من حيث عدد السكان حيث يبلغ عدد بلغ عدد سكانها حوالي 615.222 نسمة، كما وصفت بأنها دمشق اليمن في الثمار والأزهار والأنهار والنزهة.
لم تكتسب تعز أهميتها بصفتها العاصمة الثقافية لليمن فحسب، بل لعبت دورًا محوريًا عبر محطات اليمن التاريخية المختلفة في المراحل القديمة والمعاصرة، وبلغت أوج مجدها عندما كانت عاصمة للدولة الرسولية (1229 – 1454م)، لذا باتت مطمعًا للعديد من القوى الداخلية والخارجية، إلا أنها أثبتت صمودها الأسطوري وتحديها لكل عوامل التعرية التاريخية.
منذ الإطاحة بنظام علي عبد الله صالح، سطّرت تعز وشعبها بأحرف من نور العديد من التضحيات الخالدة في سجلات البطولة والشجاعة اليمنية، حيث تصدت لجماعة الحوثي وبقايا الموالين للرئيس المخلوع صالح، وقد دفعت المدينة الصامدة الثمن غاليًا، وقدمت للوطن المئات من الشهداء دفاعًا عن ترابها الطاهر، حتى باتت بمفردها في مواجهة المد الصفوي الشيعي المدعوم من إيران وروسيا في غفلة عن أعين المتابعين في الداخل والخارج.
في مقال له بعنوان “معركة تعز والمشروع الإيراني” بصحيفة العربي الجديد، نشر بتاريخ 7 يونيو، كشف الكاتب والباحث اليمني نبيل البكيري، عن حجم التضحيات التي تقدمها تعز وحجم المخاطر التي تواجهها، بقوله “لم يعد خافيًا على أحد هول (وحجم) التضحيات الكبيرة التي قدمتها مدينة تعز، منذ بداية الحرب، من خيرة أبنائها وشبابها، وحجم الدمار الكبير الذي تعرّضت له المدينة وطرقها ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها ومساكنها، إلى درجةٍ بات يذهب بعضهم في تشبيه ما يجري في تعز بما جرى لمدينة ستالينغراد الروسية في الحرب العالمية الثانية من الجيش الألماني”.
البكيري وضع المشهد في تعز في مكانه الصحيح حين أشار إلى أن الحالة التي تعيشها المدينة من انتهاكات وهجوم متواصل ما هي إلا خطوة نحو تفعيل المشروع الإيراني الصفوي، معتبرًا أن “حالة الخذلان والحصار المفروض على هذه المدينة لا تخدم سوى مشروع واحد متربص بالمنطقة كلها، وهو المشروع الإيراني الذي انكسر في هذه المدينة حتى الآن ولكنه يتغذى من حالة الفراغ الاستراتيجي الكبير الذي تعيشه المنطقة، والذي لم تتمكن فكرة التحالف العربي من ملئه نتيجة تناقضات الرؤى وتضارب الأجندات بين شركاء هذه التحالف الذي حتى اللحظة لم تتبلور رؤيته وتصوراته لما يجب أن يكون عليه الوضع في يمن ما بعد التحرير، عدا عن رؤيته للمنطقة كلها من بغداد حتى صنعاء”.
الباحث اليمني اختتم مقاله بوضع الدول العربية لاسيما الخليجية أمام مسؤوليتها الحقيقية، محذرًا من أن استمرار الوضع على ما هو عليه من التخاذل والتخلي عن هذه المدينة الصامدة وتركها فريسة للتحالف الإيراني – الروسي – الأمريكي قد يحمل بين طياته تهديد للكيانات الخليجية دون استثناء، قائلاً: “إن تعز، اليوم، على مفترق طرق، قد يفضي باليمن إلى دولةٍ وطنيةٍ اتحاديةٍ ديمقراطية، أو دويلاتٍ متقاتلةٍ ومتصارعة، ومصدر شر على المنطقة والعالم، لموقع اليمن الاستراتيجي على طرق الملاحة الدولية، وقربها من مناطق النفط وخزانتها الدولية في الخليج العربي، الذي من مصلحة ممالكه ودويلاته وحدة اليمن وأمنها واستقرارها باعتبارها مفتاحًا لأمن المنطقة واستقرارها، تعز هي المعركة الاستراتيجية الموازية في الأهمية لمعركة تحرير صنعاء، إن لم تتفوق عليها”.
المقاومة في تعز في مواجهة جماعة الحوثي
“الفلوجة” قاهرة الأمريكان
الفلوجة أو قاهرة الأمريكان كما يطلقون عليها، إحدى مدن محافظة الأنبار، تقع على بعد 60 كيلومترًا شمال غرب العاصمة بغداد، ويبلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة تقريبًا معظمهم يدين بالإسلام، وتعد الشرارة الأولى لنمو نبتة المقاومة بعد سقوط بغداد 2003.
خرجت الفلوجة من صراع السلب والنهب الذي أصاب أغلب المدن العراقية عقب سقوط بغداد، بل كانت المدينة الأكثر هدوءًا واستقرارًا في المناطق المحيطة بالعاصمة، وهو ما دفع الأمريكان لاتخاذها مقرًا لهم عقب الإطاحة بنظام صدام حسين، حيث اتخذوا من مباني المدارس وبعض مباني الدوائر الرسمية الأخرى ومقرات حزب البعث أماكن ارتكاز لهم وثكنات لجنودهم.
ولكن المدينة الهادئة ليست كما كان يتخيل القابعون في واشنطن، ففي 28 أبريل 2003م، قام 200 شخص من سكان المدينة بتظاهرة احتجاجية على تصرفات الجنود الأمريكيين من اعتقالات ومداهمات، أمام إحدى المدارس التي استخدمها الجيش الأمريكي كمواقع عسكرية، أسفرت حينها عن استشهاد 17 من المتظاهرين، وإصابة 30 آخرين، ومن هنا كانت الشرارة الأولى لنشوب عمليات المقاومة ضد جيش الاحتلال الأمريكي.
وفي 2 أكتوبر 2003 أسقط مسلحون عراقيون مروحية شينوك أمريكية في الفلوجة – ضاحية الكرمة مما أدى إلى مقتل 16 جنديًا أمريكيًا وجرح 26 آخرين، وفي 31 مارس 2004 تم استهداف أربعة من حراس وموظفي شركة بلاك وتر الأمريكية في المدينة وتم سحل جثثهم في الشوارع وحرقها وعلقت الجثث فيما بعد على جسر في أطراف المدينة يطل على نهر الفرات، مما دفع القوات الأمريكية لشن حملة من الهجوم المسلح والمداهمات في محاولة لإحكام السيطرة على المدينة لكنها باءت جميعها بالفشل أمام التصدي الأسطوري لأهالي الفلوجة.
ومنذ ذلك الحين والمدينة الباسلة تقدم كل يوم عشرات الشهداء فداءً لترابها المدنس من قبل الأمريكيين ومن عاونهم في الداخل أو الخارج، في الوقت الذي يقف فيه الخليج موقف المتفرج دون أن يحرك ساكنًا.
الكاتب المصري وائل قنديل في مقال له بعنوان: “نكبتنا من الفالوجة إلى الفلوجة”، أشار إلى حجم التشابه الكبير بين ما حدث في “عراق المنشية” في “فالوجة” فلسطين، وبين ما حدث في “فلوجة” العراق، مضيفًا أنه قد تتشابه الأحداث والمواقف والوجوه، وإن اختلف الفاعل الرئيسي، غير أن الممارسات تكاد تتطابق، فما فعلته عصابات المستعمرين الصهاينة بأصحاب الأرض والحق، العرب الفلسطينيين، في العام 1948، لا يختلف كثيرًا عما تقوم به مليشيات الحشد الطائفي “الشيعية”، في أهل المدينة الصامدة الباسلة، العرب العراقيين، فالدافع في الحالتين واحد، وكذلك، وبالضرورة، المنهج واحد: استئصال السكان الأصليين، وتغيير الطبيعة الديموجرافية للمكان، والعبث بالتاريخ والجغرافيا، معًا”.
وتابع: في الحالتين “فلوجة” العراق، و”فالوجة” فلسطين، تقف العروبة تحت الحصار الشعوبي المليشياوي الطائفي، فيما يقف العرب، خارج الفلوجة، متفرّجين، بعضهم سعيد بنحر المدينة الصامدة، فوق خشبة مسرح داعشي، تم إعداده بحرفية عالية، وبعضهم الآخر مُحاصَر في خوفه وعجزه وبلادته”.
واختتم قنديل مقاله محذرًا من الصراع الإيراني الأمريكي على الفوز بـ “الكعكة” العراقية، وهو ما تجسد في سعي كل منهما للسيطرة على الجيش النظامي العراقي، حيث تنامت مخاوف طهران من سيطرة البنتاغون الأمريكي على المؤسسة العسكرية في العراق، وهو ما دفعها للبحث عن موطئ قدم بداخلها من خلال الدعم الخفي لبعض الميليشيات المسلحة التي كشفت عنها فور إعلان رئيس الوزراء حيدر العبادي عن بدء معركة تحرير الفلوجة من الدواعش، فيما سميت بـ “الحشد الشعبي، وهو عبارة عن ميليشيات شيعية تتولى ما يوكل إليها من مهام من الحكومة العراقية على رأسها التطهير المذهبي والقضاء على السنة في مقابل تحقيق المزيد من المد الصفوي، في الوقت الذي اكتفى فيه العرب بدور المشاهد المتابع للأحداث من بعيد، فهل هذا جزاء ما دفعته هذه المدينة الباسلة من تضحيات للحفاظ على ترابها من المد الشيعي الأمريكي؟
آثار التدمير جراء القصف الأمريكي للفلوجة
“حلب” مطمع الروس
تعد حلب أقدم مدينة في العالم قائمة حتى الآن، حيث كانت العاصمة الرئيسية لمملكة “يمحاض” الأمورية، كما تعاقب عليها عدد من الحضاراتٌ مثل الحثية والآرامية والآشورية والفارسية والهيلينية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، وفي العصر العباسي برزت حلب كعاصمة للدولة الحمدانية التي امتدت من حلب إلى الجزيرة الفراتية والموصل.
تعد حلب أكبر المحافظات السورية من ناحية تعداد السكان، إذ يبلغ عدد سكانها 5.1 مليون نسمه، وتقع شمال غربي سوريا على بعد 310 كم (193 ميلًا) من دمشق، وتتمتع بموقع جغرافي مميز، فضلاً عن تاريخ أثري وثقافي غير مسبوق، مما جعلها مطمع لدول العالم على حد سواء.
ومنذ بداية الثورة السورية وتدفع حلب ثمن دعمها للمعارضة في مواجهة نظام الأسد، وتقدم صبيحة كل يوم عشرات الشهداء من الرجال والنساء والاطفال على حد سواء، في تجاهل تام للقوى الإقليمية الفعالة في المنطقة، وهو ما حذر منه المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، حين أشار إلى أن “سقوط مدينة حلب السورية له تأثيرات أكثر من مجرد خسارة مدينة، فسقوط هذه المدينة يعني انتهاء آخر أمل للسوريين في السلام والحرية والشرف، وسيُعتبر سقوطها انتصارًا جبانًا للأسد، والأسوأ من ذلك فإنّ سيُعدّ سقوطها رسالة مرّة مفادها أنكم تُركتم لوحدكم”.
وأضاف قولن في مقال له بعنوان “حلب تحترق”، نشرته صحيفة “ديلي صباح” التركية، أن النظام السوري بتكثيفه الهجمات على حلب، واستهدافه المدارس والمخابز والمستشفيات، لمعاقبة المدنيين الذين يعيشون في مناطق المعارضة، ينفذ تكتيكًا روسيًا نموذجيًا، يقوم على قصف العائلات والمنازل والمدن، لكي يتخلى الطرف الآخر عن القتال، دون إطلاق رصاصة واحدة، حسبما أوردت وكالة الأناضول التركية للأنباء.
الكاتب اللبناني عبد الوهاب بدرخان حاول “فك طلاسم” المشهد من خلال تجليته لما أسماه بـ “الحقيقة العارية” وذلك بقوله أن: “الأسد - خامنئي – بوتين - أوباما، مجرمون يحرقون حلب، إنهم يقتلون الأطفال والنساء، الأطباء والممرضين والمسعفين، يريدون قتل المكان الذي وُجد وتألق قبل أن تُوجد أماكنهم، بلدانهم، دولهم، وقبل أن يكونوا، التحقوا جميعًا بمغول هولاكو ليصبحوا مغول يومنا الحاضر، يقتبسون من ذلك الطاغية تعطشه للدم وشغفه بذبح البشر كقطعان الماشية.
وأضاف في مقال له بعنوان “سيحرقون حلب ثانيةً ولن يرضَوْا إلا بحلٍّ عسكري” أن “الروسي والإيراني، مثل رأس النظام السوري، معتادان على المجازر والمحارق، لا يكترثان بما سيكون عليه إرثهما، الأمريكي يلتحق بهم، أصبح إرثه في مستقبله: نوبل السلام لم يخض حربًا لكنه جلس يتفرج على ذبح سورية والسوريين، كما تفرّج على غزّة والغزّيين”.
بدرخان قطع الشك باليقين في مستقبل التفاوض بشأن الأزمة السورية، مؤكدًا أن الأسد وخامنئي وبوتين وأوباما، لا يبحثون حقًّا عن حل تفاوضي أو عملية سياسية، فقط هم يديرون الأزمة لإنهاك المعارضة، وتبدو واشنطن كأنها كُلّفت استدراجها إلى الاستسلام، وأي استئناف للمفاوضات بالضغط أو من دونه سيطلق عليه النظام وإيران النار، لأنهما ضد الحل المقترح حتى بصيغه المخففة، فالمحبّذ عندهما ولا تمانعه روسيا هو أن يبقى الأسد كما كان وكأن شيئًا لم يكن.
وفي المقابل فقد حمّل الإعلامي أحمد موفق زيدان السعودية بالاشتراك مع تركيا مسؤولية ما حدث، قائلاً: “إن الكرة اليوم بملعب السعودية وتركيا، ولا بديل عن دعم عسكري نوعي للمعارضة”، مضيفًا بأن “سقوط حلب سيتحملان نتائجه التاريخية وسينقل المعركة إليهما والأيام بيننا” بحسب قوله.
عناصر من الجيش السوري الحر في حلب
مما سبق يتضح أن التحالف الثلاثي (تعز – الفلوجة – حلب) والذي قدم التضحيات في مواجهة المخطط (الإيراني – الأمريكي – الروسي) قد راهن على الحصان الخاسر، إذ اكتفت دول الخليج برفع شعارات الدعم الجوفاء، لكن على أراض الواقع فهناك فجوة كبيرة بين الدعم الخليجي وهذه المدن البطولية التي إن شئت قل إنها تدافع عن الخليج بأكمله، وتمثل حائط صد منيع في مواجهة المخطط الصفوي المدعوم روسيًا وأمريكيًا، فمتى يستفيق الخليج ويقوم بمسؤولياته تجاه هذا التحالف المقاوم؟