لم أكن أتوقع أن أشعر بهذا الشعور، شعور رمضان بنسماته الربانية، نظام وتعبد وقرآن وسكينة وضجيج، صوت عذب وآخر رخيم، حُفاظ أعاجم لا يعرفون العربية، تعظيم لشعائر الله لم أر مثله قط في حياتي، حب للإسلام وعاطفة جياشة صادقة، كل هذا في شاه زادة، المسجد الذي بني منذ حوالي خمسمائة عام.
مسجد واسع كبير ذو ساحة مفتوحة يتوسطها مكان للوضوء، يلتحق بالمسجد حديقة كبيرة من جهات مختلفة، مسجد أثري بني كله من الحجارة، لا تجد ما ينتمي إلى حاضرنا فيه غير الإضاءة ونظام الصوتيات الفريد! لكن حتى الإضاءة تستبقي على استخدام النجف العملاق والبسيط في نفس الوقت، نظام التهوية فيه طبيعي، لا يحتاج إلى مكيف، فمهما كانت درجة الحرارة في الخارج فالجو بالداخل معتدل.
شاه زادة، أقدم المساجد التي بناها “مِعمار سِنان” المهندس العثماني المخضرم، وكان في ذلك الوقت “تشيراكلك” “çıraklık” ولكي تفهم معنى هذه الكلمة عليك أن تعرف شيئًا مهمًا وهو أن هناك ثلاثة مستويات للخبرة يلقب بها الحرفيون، أعلاها يدعى “أوسطلك” “Ustalık” وهي شبيهة بكلمة “أُسطى” بالعامية المصرية، والمتوسط الكفاءة يدعى “كالفالك” “kalfalık” والمبتدئ يدعى “تشيرالْك” “çıraklık”، وهذا هو المستوى الذي بنى فيه معمار سنان هذا المسجد، ثم بنى بعده وهو في المستوى المتوسط “كالفالك” مسجد سليمانية، وحين أصبح “أوسطلك” قام ببناء مسجد السليمية وهو تحفة معمارية هندسية فريدة يحتاج وصفه إلى كتب.
هذا بالنسبة للبنيان ولا يكفيه هذا الوصف القاصر، أما الأتراك، وما بالك من الأتراك، فحب وعاطفة جياشة للإسلام مهما كان مستوى ثقافتهم أو تدينهم، أتحدث هنا عن مرتادي المسجد، ما رأيت تفسيرًا لقول الله تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}، كما رأيت فعل الأتراك مع كل ما ينتمي لشعائر الله بدءًا من لبس الجورب داخل المسجد، فهذا أصل من أصول هيئة الصلاة، إلى عدم وضع القدم في اتجاه القبلة، حتى إنني نسيت ذات مرة وقمت “بفرد” قدمي وأنا مستقبل القبلة فقام أحد الشباب الأتراك من فوره وكان في الثلاثينات من العمر وقال لي بلغتة التركية بعد أن أشار إلى قدمي: “أدب كاردشلريم” أي: الأدب يا صديقي، كل ذلك من باب التأدب وتعظيم الشعائر وليس رأيًا فقهيًا.
والمصحف الشريف – كتاب الله عز وجل – لا يوضع على فخذك لتقرأ منه، ولكن إما أن تستخدم الحامل أو تمسكه بيديك، وإذا حمل المصحف طفل فطامة كبرى، لأنه لا محالة سيعامله ككتاب عادي فتجد من حوله ينتبهون إليه بشدة ويقومون بعمل “التأتأة” المعتادة في الاعتراض “تُه تُه تُه” وتعني الرفض والإنكار.
ونظافة المسجد شيء مقدس، ولتشعر بهذه القدسية أروي لك موقفًا عابرًا، كان هناك عربي يسير فوجد جماعة من الرجال يعرفهم فجلس على رجليه ليسلم عليهم وكان يحمل حذاءه فوضع الحذاء على السجاد فوجدت رجل في الخمسينات قفز من مكانه قفزة وصل بها إلى مكان الحذاء وأخذه مسرعًا دون أن يتكلم بكلمة ووضعه على الجزامة، ورجع إلى مكانه يقرأ القرآن وسط ذهول من صاحب الحذاء ومن حوله.
وللإمام بين عموم المصلين مكانة خاصة، فهو الإمام، حامل كتاب الله عز وجل، ينادونه دومًا “هوچام” أي أستاذي، وللأئمة حجرة خاصة في مؤخرة المسجد على يسار الباب الخلفي كما للمؤذنين أيضًا حجرة خاصة على يمين الباب الخلفي.
والاعتكاف في شاه زادة له طعم مميز، طعم القرآن، حيث يُقرأ عليك كل يوم أكثر من سبعة أجزاء من القرآن الكريم بأصوات مختلفة، لا تقلق لن تمل، فهناك أوقات كافية للتلاوة والدعاء والذكر والراحة وحدك، كما يوجد مكان خاص لاعتكاف النساء.
دعني أشرح لك البرنامج اليومي، دعنا نبدأ منذ الإفطار، حيث يوجد إفطار مجمع في ساحة المسجد المفتوحة، فبعد الصلاة والإفطار هناك فقرة مفتوحة حوالي ساعة ونصف قبل صلاة العشاء، ثم بعد ذلك تبدأ صلاة العشاء والتراويح بجزء من القرآن على عشرين ركعة يؤم بها إمامان كل إمام عشر ركعات، ثم ثلاث ركعات وتر وبعد الانتهاء يقرأ الإمام “طأطوءة” من القرآن المجود على طريقة المقرئين الكبار، عبد الباسط ومصطفى إسماعيل وتستمر حوالي من 3 إلى 5 دقائق، وتنتهي التراويح في الثانية عشرة والربع.
ثم بعد ذلك فترة مفتوحة لقراءة القرآن أو الدعاء أو الذكر أو الراحة وتستمر لمدة ساعة إلا الربع، وفي تمام الواحدة صباحًا تبدأ صلاة التهجد بثلاثة أجزاء، انتظر فهذا ليس كل شيء، فصلاة التهجد يؤم بها ثلاثة أئمة مختلفين كل إمام بجزء على أربع ركعات أي ربعين في الركعة، ويُتلى القرآن في الصلوات جميعًا حدرًا أي بسرعة وهذا أعتقد لسببين، أولهما أن الأتراك أعاجم لا يفهمون ما يتلى إلا القليل، فالقرآن بالنسبة لهم هو كلام لله، وهو نص مقدس يُتعبد بتلاوته، والثاني هو ضيق الوقت الشديد بين العشاء والفجر فلا يوجد إلا حوالي 4 ساعات ونصف من العشاء إلى الفجر.
تنتهي صلاة التهجد في الثالثة إلا الربع وبعدها فترة السحور وتكون أيضًا في الساحة المفتوحة وتستمر لمدة ساعة إلا ربع حتى أذان الفجر وبعد الأذان يتلو شاب صغير ذو صوت عذب جزءًا من القرآن، ثم يُصلى الفجر وبعد ختم الصلاة يقرأ الإمام طأطوءة على الطريقة المصرية كما ذكرنا سابقًا، وبعدها فترة مفتوحة للراحة حتى قبيل صلاة الظهر بحوالي نصف ساعة، حينها يُقرأ جزء من القرآن حتى صلاة الظهر ويتكرر ذلك في صلاة العصر والأوقات البينية حتى أذان المغرب أوقات مفتوحة تتعبد فيها بأشكال العبادة التي تريد.
وتلاوة القرآن قبل الصلاوات تسمى هنا “المقابلة” وفي رمضان تعتبر مثل الصيام والتراويح من حيث كونها رمزًا لرمضان وليست شعيرة، وتعني أن يتلو أحد جزءًا من القرآن ويتبعه الناس في القراءة، ويقال هنا إن المقابلة هنا لها ثلاثة أهداف هامة أولها: التعبد بالقراءة، وثانيهما: الحفاظ على الحفظ للقارئ والحفظة المستمعين، وثالثهما: اتباع رمزي للمقابلة الأولى لجبريل بمحمد – صلى الله عليه وسلم – يقرأ عليه القرآن أثناء نزول الوحي.
لا تستطيع الكلمات وصف السكينة والجو الإيماني الذي يحيط بالمكان، إذا بحثت عن قلبك بجِد، حتمًا ستجده هناك، فقط أخلص النية واستعن بالله.