تخيل نفسك واحدًا من أولئك الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، وهم من يتعرضون لصدمات نفسية عنيفة، أو لصدمات جسدية مؤلمة تركت أثرًا سيئًا في مخيلتهم، ويعانون من اضطراب ما بعد الصدمة لمدة طويلة من حياتهم بعد ذلك، أو من الممكن أن تشاهد ذلك الحدث الشنيع لأحد أحبائك أو أقربائك، وهو الذي يؤثر على الإنسان نفس التأثير النفسي كما لو أنه تعرض للصدمة بنفسه، إذا شاهدت جرائم حرب، أو كنت ضحية للاغتصاب، أو مررت بحادث مروع، أو بعملية جراحية مؤلمة، يمكن لذكرى ذلك الحادث أن يطاردك لفترة طويلة، ويمكن أيضًا أن تجد نفسك مصابًا بنوبة فزع في مواقف تبدو للآخرين عادية، لا تمتلك شهية للطعام، ويمكن أن تكتئب بدون سبب، هذا كله ما يحاول العلماء الآن مساعدتك في تخطيه بل التخلص منه، وذلك عن طريق حبوب النسيان.
كان في اعتقادنا دومًا أن الذكريات مخزنة بالترتيب داخل أدمغتنا، كما كنا نصدق أنها ساكنة غير قابلة للحركة، تم تخزينها بعناية وبترتيب السنوات، ولا يمكن تحريكها أو إزالتها من أدمغتنا أبدًا، إلا أنه في الحقيقة لا يتم تخزين الذكريات داخل “بنك الذكريات” كما يسميه العامة، فقد أتاحت التكنولوجيا لأطباء الأعصاب معرفة الأماكن التي يتم فيها تخزين الذكريات داخل الدماغ، حيث تتكون الذكرى من اتصالات عصبية بين الخلايا العصبية للدماغ، تنضح حينها الذكرى وتظل في الدماغ ما دام المرء مازال قادرًا على استعادتها وتذكرها، إلا أن الذكرى لا تظل كما هي كلما استعدتها، كلما تتذكر ذكرى معينة من حياتك تتغير داخل دماغك تدريجيًا، فيمكنك أن تفقد تفاصيل منها، أو يمكنك أن تقوم بالتغيير البسيط فيها، إلا أن بعد مدة طويلة يمكنك تحويلها إلى ذاكرة مختلفة كليًا.
هذا ما يحدث مع كبار السن حينما يتذكرون ذكريات كانت سعيدة بالنسبة لهم، ومن ثم تتغير الرواية حينما يمر بهم العمر ليرووها بشكل مختلف، وذلك لأن الذكريات عبارة عن بلاستيك، يمكنك أن تطوعها كيفما أردت، وليست شيئًا صلبًا غير قابل للتحريك من الدماغ، وكلما كان الارتباط بين الخلايا العصبية أقوى، كلما تذكرنا ذكرياتنا بشكل أقوى وأفضل ومستمر، وعلى العكس، كلما قلّ التواصل العصبي بين الخلايا الدماغية، كلما ضعفت الرابطة بيننا وبين ذكرياتنا حتى من الممكن في يوم ما أن تختفي تمامًا، تسمى تلك العملية المسؤولة عن تكوين الروابط باسم “دعائم الاستقرار”.
صورة لما يحدث للخلايا العصبية عندما تستعيد ذكرى معينة
يعاني مريض اضطراب ما بعد الصدمة من زيادة في ضربات القلب أو القلق أو تصبب العرق كأعراض مصاحبة للذكرى التي تطارده ويتذكرها من حين لآخر، لذلك وجد العلماء أن إيقاف إفراز الإدرينالين المصاحب لتلك الذكرى من الممكن أن يقلل من ألم المُصاب عندما يتذكر ذكرياته المؤلمة، وتمّ بالفعل منح بعض من المصابين برهاب العناكب جرعة من البروبرانولول، الذي يستخدم في العادة لعلاج عدم انتظام ضربات القلب، ليقلل من إفراز الإدرينالين المصاحب لرهاب العناكب لديهم، ونجح الأمر، حتى إن واحدًا منهم قرر حفظ العناكب عنده في المنزل.
تم تتبع مسار الذكريات داخل الدماغ في دراسة مستقلة للعالم “سوسومو تونيجاوا” الياباني الحائز على جائزة نوبل للسلام وفريقه، حيث تم اكتشاف أين يتم تخزين الذكريات المؤلمة وأين تذهب الذكريات السعيدة في الدماغ البشري، كما تم اكتشاف أنه من الممكن أن تتقاتل المشاعر السلبية مع الإيجابية لحفظ مكان لكليهما داخل الذكرى الواحدة داخل الدماغ، وهو ما يفسر روايتك للذكرى بشكل مختلف بمرور الأعوام.
كيف يمكن للعلماء محو الذكريات السيئة؟
يساعد البروتين على اتصال الخلايا العصبية ببعضها التي تتكون فيها الذكريات، يستخدم العلماء الآن في التجارب القائمة لبحث اختراع أدوية لمحو الذكريات السيئة علاجًا يقوم بحجز البروتين الخاص بتكوين الروابط العصبية في المنطقة التي تم تحديدها بأنها تحتوي ذكريات سلبية في المنطقة الرمادية من الدماغ، والتي تشبه في شكلها شكل اللوزة، وهي المسؤولة عن الخبرات العاطفية في الدماغ، وعن طريق التلاعب بالنواقل العصبية في تلك المنطقة، استطاع العلماء محو بعض من الذكريات السيئة والخبرات العاطفية المؤثرة بالسلب على بعض الناس، لا يقوم العلماء بتجربة إزالة الذكريات السيئة في كل مرة تتم فيها التجربة، بل يتم التركيز على التخلص من الخوف والقلق المصاحب لتذكر تلك الذكرى السيئة، وبالتبعية يتم السيطرة على تلك الذكرى.
العلاج بالكهرباء هو الحل الآخر لمن يخشى الحبوب التي تؤثر على ميكانيكة عمل الدماغ، والتي مازلت قيد التجربة حتى الآن، يتم استخدام الصدمات الكهربائية في علاج الحالات المتقدمة للغاية لمرضى الاكتئاب، إلا أن العلماء قد اكتشفوا أن المريض يعاني من فقدان للذاكرة قصير المدى بعد المرور بتجربة الصدمات الكهربائية، ومع البعض، تم اكتشاف أن الصدمات الكهربائية تؤثر على الذكريات بعيدة المدى في الدماغ البشري، فهي لا تمحيها بشكل كامل كما تفعل الحبوب المؤثرة على عمل البروتينات في الخلايا العصبية، ولكن تجعل من الصعب على الشخص استعادة الذاكرة، فالمرء يعرف بأنها موجودة في مكان ما في خبايا عقله ولكنه لا يستطيع استعادتها بشكل كلي.
يبقى السؤال الأهم هنا، هل ما إذا تم منحك حبة قادرة على إزالة ذكرياتك السيئة كليًا من ذاكرتك، هل ستتناولها متجاهلًا ما قد تسببه لدماغك فيما بعد؟