للقرآن الكريم، منهجيته المعرفية، التي يجب على المسلمين اكتشافها واتباعها، فهي: المنهج الذي يقدمه لنا القرآن المجيد في شكل محددات وسن قوانين يمكن استنباطها من استقراء آيات القرآن الكريم (تلاوةً وتدبرًا وترتيلاً وتنزيلاً وتفكرًا وتعقلاً وتذكرًا)، ثم التعامل مع هذه المحددات تعاملاً يسمح لنا بأن نجعل منها محددات تصديق وهيمنة، وضبط لسائر خطواتنا المعرفية، وفي مقدمة هذه المحددات “الجمع بين القراءتين”.
اقرأ: قراءتان
أمر الله تعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم – في مفتتح نزول القرآن، وعند بدء الوحي بقراءتين، فقال تعالى {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم} (العلق:1-5). وصيغة الأمر بالقراءة الذي جاء مرتين في هذه الآيات الخمس، لا تعني التوكيد أو الترادف أو التكرار، بل تدل على أمرين بقراءتين، لكل منهما معناها المراد بها، ولكل منهما خصائصها، ومجالها ومتعلقها، ومناهجها وكيفياتها وميادينها (ص 14-17).
والأمر بالقراءة في الآية الأولى، اقترن “باسم ربك”، فهي أمر، بتحصيل فعل القراءة وممارسته مع الاستعانة بالله تعالى، وهو أمر بقراءة باسم الله أو على اسمه – تعالى – ومعه، لهذا الوحي النازل، الذي سيتتابع نزوله حتى يتم قرآنًا كريمًا مجيدًا مكنونًا مفصل الآيات، محكمًا مترابطًا متماسكًا متناسبًا متشابهًا تتلوه يا محمد على الناس، وتبينه لهم ليتعلموا منه الحكمة والهداية والرشد، فتزكو أنفسهم، وتطهر حياتهم، ويهتدوا به في أداء مهام الاستخلاف، والقيام بواجب الائتمان، وحق العمران (ص 17-18).
كما أن في قوله تعالى {خلق الإنسان من علق} تنبيهًا إلى وجوب قراءة الخلق، قراءة تبدأ بقراءة الذات الإنسانية، من بداية الخلق إلى نهاية الحياة بأطوارها كلها، فهذه القراءة هي قراءة الكون والنظر في الخلق، ومعرفة ما دونته البشرية من فهم له، وتجارب فيه بأقلامها.
قراءة الكتابين معًا
هما إذن – كما يقول المؤلف رحمه الله – كتابان تجب قراءتهما معًا للخروج من إسار الأمية بكافة أشكالها ومعانيها: كتاب منزل متلو معجز وهو القرآن، وكتاب مخلوق مفتوح، وهو هذا الخلق والكون والتجارب البشرية فيه، ومنه التعامل مع الإنسان نفسه، فهو جزء من الخلق وابن شرعي للطبيعة (ص 20).
ولا بد من قراءة المصدرين معًا، وتنفيذ الأمر بالقراءتين سويًا: قراءة الوحي النازل المتمثل في الكتاب الكريم الذي حدد غاية الحق من الخلق، وبين تلك السنن والقوانين الضابطة لحركة الوجود، إضافة إلى ما اشتمل عليه من الشرعة والمنهاج، والحقائق الأساسية التي تحتاج إليها البشرية، وقراءة في الكون وآفاقه والنفس البشرية وما يصلحها أو يفسدها، والفطرة، وما ينميها، وما يطمس عليها.
كيفية الجمع بين القراءتين
يبدأ هذا الأمر باكتشاف العلاقة المنهجية بين الناظم المنهجي لآيات القرآن، الذي أعطى القرآن “وحدته البنائية” وإعجاز”نظمه”، وبين القوانين المبثوثة في الوجود، والمهيمنة على حركته للكشف عن الناظم المنهجي الذي يربط بينهما، فمنهجية القرآن موازية لمنهجية الوجود.
ومن هذا المنطلق، يبين المؤلف أن قواعد”المنهج القرآني” لن تقوم إلا بالشروط التالية:
– إعادة بناء الرؤية الإسلامية المعرفية، القائمة على أركان العقيدة القرآنية، ومقومات التصور الإسلامي السليم المنبثق عنها، ليتضح النظام المعرفي الإسلامي القادر على الإجابة عن “الأسئلة الكلية النهائية” التي تؤرق الإنسان وتشغله.
– إعادة فحص وتشكيل وبناء قواعد المناهج الإسلامية في مجالاتها المختلفة، على هدي المنهجية المعرفية القرآنية، وتعديلها بنورها وعلى هدي منها.
- بناء منهج للتعامل مع القرآن المجيد، ومعرفة مداخل قراءته من خلال هذه الرؤية المنهجية التحليلية.
- بناء منهج للتعامل مع السنة النبوية المطهرة من خلال تلك الرؤية المنهجية، فالسنة هي بيان وتطبيق لما جاء به القرآن.
- إعادة دراسة وفهم تراثنا الإسلامي، وقراءته قراءة نقدية تحليلية معرفية، ومقايسته إلى منهج التصديق والهيمنة القرآنيين، بعيدًا عن القبول المطلق له أو الرفض المطلق، أو الانتقاء اللامنهجي.
- بناء منهج للتعامل مع التراث الإنساني المعاصر (الغربي)، بعيدًا عن أساليب المقاربات أو المقارنات أو المقابلات والمعارضات (ص 54-67).
مداخل قراءة كتاب الوحي (القرآن الكريم)، ومنها:
1- تنزيل القارئ للقرآن على قلبه، وهو على يقين أنه سوف يجد فيه الجواب الشافي عن كل ما يريد معالجته، هو أهم مداخل الجمع بين القراءتين.
2- الإيمان “بالوحدة البنائية للقرآن المجيد”، وهي التي تجعل التالي المرتل المتدبر يطوف في رحاب القرآن ناظرا في آياته كلها باحثًا عن جميع الروابط وشبكات العلاقات بينها ليدرك ما يقرأ، ويفهم ما يتلو.
3- الانطلاق من الإيمان “بوحدة السورة”، والتركيز هنا يكون على سورة واحدة يتخذها القارئ بمثابة وحدة متميزة، فينطلق في تدبرها باتجاه البحث عن عمودها، والأعمدة أو الأوتاد الساندة، فلكل سورة موضوع أساسي (عمودها)، وتكون الموضوعات الأخرى (الأعمدة أو الأوتاد الساندة) دائرة حول الموضوع الأساسي تعززه، وتزيد بيانه وتوضيحه.
4- مدخل القيم العليا، وهي: التوحيد والتزكية والعمران، فهي محاور القرآن المجيد الأساسية التي تدور سوره وآياته وكلماته – كلها – حولها، وتشترك في العمل على تكريسها وتعزيزها.
5- مدخل العلاقات بين الله – تبارك وتعالى – والإنسان والكون المسخر، فحين نقول: “الله” فإننا نستحضر بذلك عالم الغيب كله، وحين نقول”الإنسان” فإننا ننبه بذلك إلى كل ما يتعلق به ابتداء من “عالم الذرة” مرورًا بعالم الخلق والإبراز للوجود والأمر بالتصدي للمهمة، وانتهاء بعالم المآل إلى الجنة والنار، وحين نقول “الكون” فإننا نعني به عالم الخلق والسنن والقوانين الموجهة والمسيرة له، وتنوع الخلق فيه من إنسان وحيوان وجماد وموجودات أخرى.
6- مدخل التصنيف الموضوعي، عبر جمع الآيات ذات الموضوع الواحد في القرآن كله، مما يزيد فهمنا ووعينا بالقرآن كله.
7- مدخل البحث في المناسبات، وهو علم دقيق ومهم، يتناول آيات القرآن الكريم بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني، منتظمة المباني، فحين نعمد إلى القراءة المتدبرة بهذا المدخل، فإن من الممكن التدرب عليه بأن نأخذ سورة من تلك السور التي تعددت نجومها، وتنوعت موضوعاتها، وكثرت معانيها، ثم نتتبع آياتها آية بعد آية، ومجموعة بعد أخرى ثم نتفكر في بدايتها ومسيرتها وانسيابها حتى نبلغ خاتمتها، ونعود من الخاتمة إلى البداية، وننظر في العلاقات بين اسمها وتسويرها لتكون سورة مستقلة، ثم علاقتها بما قبلها وما بعدها فسنكتشف شبكة من العلاقات بينها تجعلنا نشعر أنها نزلت حين نزلت، وكأنها نجم واحد، أو أنها نزلت مرة واحدة (ص 33-43).
مداخل قراءة كتاب الكون، ومنها:
1- مدخل الخلق، ويقتضي الإيمان التام واليقين الخالص بأن الكون كله مخلوق لله تعالى، عن إرادته صدر، وبكلمته تكون، وبتقديره صار شيئا مذكورًا، لم يخلق إلا بالحق وللحق، سائر لغاية معينة، لا مجال فيه للمصادفة أو العبث، فالغاية من خلق الكون القيام بمهمة الاستخلاف، والوفاء بالعهد الرباني، والقيام بحق الأمانة والنجاح في اختبار الابتلاء، والخروج من عهدة التكليف، ولهذا المدخل مداخل فرعية يرشد الوحي إليها منها:
ا- معرفة مبدأ الخلق، وكيفية تكوين الموجودات وأهم وظائفها، حيث يقودنا إلى “كيف بدأ الخلق”، إدراك الغاية منه وسيرورته وما سينتهي إليه.
2- مدخل العناية، وهو يؤدي بنا إلى النظر في نظام الكون الدقيق، واكتشاف بدائع الصنع الإلهي فيه، والقوانين والسنن التي لا تبديل لها، ويوضح في الوقت نفسه الرعاية الإلهية للإنسان بهذه الرعاية.
3- مدخل النظر في الواقع الموضوعي الخارجي، حيث يؤكد لنا تطابق الوجود الذهني للأشياء مع وجودها الواقعي (ص 43-53).
خاتمة
ليست منهجية القرآن المعرفية، مجرد ضرورة أو حاجة فلسفية مجردة، لا، ولكنها ضرورة حياة لأمتنا وعالمنا، للخروج من أزماتها وأزماته المتوالية المتشابكة، فهذه المنهجية، هي أهم مقدمة “لبديل حضاري عالمي” حقيقي، وعملية الجمع بين القراءتين تقع في القلب من هذه المنهجية القرآنية، فهي التي ستمكننا من “فهم كوني” للوجود عبر القراءة الثانية، في ذات الوقت الذي تهيأ لنا إدراك البعد الغيبي في تركيب هذا الوجود ومصيره عبر القراءة الاولى.
فنجمع بين منهجية الخلق (بالله خالقًا) ومنهجية الشيء التي يرصدها ويسطرها (القلم) في قراءة كونية واحدة، فيتحقق الإطار الإيماني الشامل، ويمكن للعالم أن يخرج من أزمته الفكرية والحضارية الراهنة (ص 70-73)، فهلم جميعا إلى القرآن، نتدبره ونتدراسه: كتاب دين ودنيا ورحمة للعالمين.