على بعد أمتار قليلة من ميدان تقسيم في قلب مدينة إسطنبول، افتتح رجل فلسطيني من عائلة الحرباوي عام 2006 مطعمًا فلسطينيًا يقدم فيه وجبات الفلافل والحمص والفول ليكون بذلك أول مطعم فلسطيني في إسطنبول ومن المطاعم العربية القليلة فيها، وذلك في وقت كان فيه الوجود العربي داخل المدينة يقتصر على السياح والطلاب وبعض المقيمين.
طالب وثائق المعلومات في جامعة إسطنبول، يوسف الحرباوي، قدم إليها للدراسة من مدينة الخليل وعمل جنبًا إلى جنب مع والده في “فلافل هاوس”، كان يذهب ماشيًا ليحضر مستلزمات الوجبات من السوق المصري القديم على ساحل المدينة ويدور بعجلته بين الحارات القديمة ليوصل الطلبيات إلى البيوت، واستطاع يوسف بصبره واجتهاده أن يجعل للمطعم الصغير صيتًا كبيرًا وسط السياح المتجولين في إسطنبول آتين من كل العالم، وبين العرب والأتراك على حد سواء.
طعام عربي
وعلى إثر الحرب السورية، ومع لجوء مئات الآلاف من السوريين تبعهم عشرات الآلاف من العراقيين أصبحت المدينة تضم أحياءً كاملة يتركز فيها وجود العرب، يمارسون فيها أعمالهم وروتينهم اليومي وتكثر فيها المطاعم ذات الطابع الشامي لا سيما منطقة الفاتح وأكسراي التي صارت تسمى سوريا الجديدة أو “يني سوريا” كما يطلق عليها بالتركية عند البعض ففي هذه الأحياء لا تشعر كعربيّ بغربة الثقافة واللغة ولا بغربة الطعام كذلك، فالكل يتكلم العربية هنا حتى لوحات المحلات، كما تتعدد المطابخ بتعدد الدول العربية.
العديد من المطاعم العربية صارت تنافس المطبخ التركي، إذ تطفو رائحة المطبخ السوري في الأجواء وتقدم مطاعمه كل أطباقه المميزة والأصيلة، مثل الكباب الحلبي والشاكرية والملوخية والكبة المشوية، يتبعها حلويات طيبة المذاق كالحلاوة بالجبن والمدلوقة وأصابع الحلب والمامونية وغيرها.
وحين أرتاد هذه المطاعم مع أصدقائي أيام العطل، نعود إلىٰ بيوتنا حاملين أرغفة الخبز اللبناني الذي حل بديلًا عن الخبز التركي في المطاعم العربية عامة وبدأ يغزو المحال التركية ويلاقي إقبالًا واسعًا من الأتراك بدل الخبز التركي كبير الحجم.
“المندي”، طبق تقليدي حضرمي اشتهر به أهل محافظة حضرموت شرقي اليمن وانتشروا يطبخونه في أغلب دول العالم فلا تكاد تخلو دولة عربية وبعض الدول الأوروبية من مطعم يحمل اسم “حضرموت”، وبطبيعة الحال كان لإسطنبول نصيب من هذه المطابخ اليمنية العريقة، وهنا يقول مدير “حضرموت اليمن” مفضل العتمي: “المطبخ اليمني أثبت وجوده في إسطنبول، فهو يستقطب العرب والأتراك معًا، كما يقدم المطبخ اليمني أكلات كالمندي الحضرمي بلحم الحنيد الذي يختلف كليًا عن المندي المشهور بالشام وفلسطين ويقدم أيضًا أكلات يمنية شعبية كالمعصوبة والسلتة التي تتكون من الحلبة والمرق كأشياء أساسية”.
في أيام الإجازات الفصلية والأسبوعية يأتي بعض الأصدقاء مسافرين من المدن التركية الأخرى التي لا تحتوي على المطاعم العربية ليستمتعوا بالأكل العربي الموجود بإسطنبول، أحمد أحد هؤلاء الطلاب إذ غالبًا ما يأتي من العاصمة التركية أنقرة إلى إسطنبول خصيصًا ليتناول الطعام في المطاعم العربية لاسيما الفلسطينية منها.
من الفلافل إلى مطبخ فيه كل شيء
بعد حوالي عقد من افتتاح والده لمحل الفلافل الفلسطيني في منطقة تقسيم، افتتح الشاب يوسف مطعمًا فلسطينيًا آخر كبيرًا في منطقة الفاتح ولكن ليس للوجبات الصغيرة كالفلافل بل يقدم المطبخ الفلسطيني كاملًا هذه المرة، ففيه المقلوبة والمنسف وصينية الكفتة وخبز الصاج البلدي الذي تشتهر به القرى الفلسطينية إضافة للكنافة الفلسطينية ذات المذاق المختلف.
يوسف الذي كان طالبًا يومًا لم يفته في مطعمه الجديد أن يضع قائمة مأكولات بأسعار خاصة للطلاب الذين قال عنهم إنهم “عصب الحياة وتواجدهم يهمنا ويومًا ما كنت مثلهم على مقاعد الدراسة في الغربة وأعرف معنى أن يشتاق المغترب لأكل أمه وبلده إضافة لمواجهته متاعب الحياة والغربة والدراسة معًا”، ليحظى بعدها بإقبال واسع من الطلاب الفلسطينيين الذين غالبًا ما يحضرون أصدقاءهم معهم لتعريفهم بالمطبخ الفلسطيني.
يقول المثل الفلسطيني “أكلة وانحسبت عليك، كل وفتح عنيك”، وقيل أيضًا “لقمة هنية بتكفي مية” ويقول المثل السوري “ابن الخير بيهجم ع الأكل مثل الطير” ويقول المثل “كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس” فلا داعي للخوف من غربة الطعام ما دمت في إسطنبول.