لم يعد الحب مُحتكرًا على سن معين أو فئة معينة، لم يعد كاتبو الحب مميزين في عصرهم ولا مُقدسين كالأنبياء، لا مكان لشعراء الحب كما كان في زمن ما قبل الحداثة، ولا للرويات الرومانسية التي كانت تُنتظر بشغف، لم يعد هناك أهمية لمشاعر الحب ولا للاشتياق أو اللهفة أو الوصل.
وعد عصر الحداثة والتكنولوجيا الحب بتغيير جذري، حيث أصبح الحب متاحًا للجميع، ليكون كاللعبة وعلى الكل أن يلعب، وفرّت الثورة الصناعية والتكنولوجيا الحديثة النقد الساخر لكل شيء وعلى أي شيء، وراح ضحيتها الحب كذلك، لم يعد يحظى بذات المكانة ولا الأهمية من قبل، ليتحول من شيء مشاعري وعاطفي إلى شيء موضوعي متاح للجميع في أي وقت وفي أي عمر وبأسهل الوسائل.
لن تكون أغاني الحب رفاهية للحياة كما كانت في السابق، يشغف الناس بانتظارها، ويملكون الدنيا فرحًا حين صدورها وإذاعتها، بل ستكون سريعة وعديمة القيمة وغير موزونة الكلمات، لن تكون للغة العيون أهمية بعد الآن، بل سنخترع أيقونات صفراء لتعبر عنها بشكل أسرع ومسلٍ، الكل سينخرط في الحب، الأمر أسهل الآن مما كنا نتوقع.
كل شيء قابل للسخرية والانتقاد، فبعد عصر الحداثة لم يعد هناك أهمية لتقديس أي شيء، بل لم يعد هناك داع لتقديس كل شيء، أصبح كل شيء قابل للتغيير والانتقاد والتطويع وأحيانًا التحقير والإزالة، لم يعد هناك مكان لأي شيء مجرد أو حسّي، كل شيء قابل للتجسيد، عليك أن تكون عملي وسريع وموائم للتغيّرات، ولا تهمك القيم الآن، لقد صارت شيئًا يعبر عما قبل الحداثة.
الآن نحن أحرار، ويجب أن نكون عقلانين في حكمنا على الأمور، حتى ولو كان على الحب، نعم، الحب العقلاني هو الحل، سنوهم أنفسنا أننا نحب، ولكنه ليس الحب الذي كان في عصر ما قبل الحداثة، ليس الحب الذي يحركه الشوق والشغف، ولا الحب الذي لا يهمه المسافات ولا البلاد، ولا الحب الذي اعتمد على الخطابات بين الحدود لسنين، ولا الحب الذي حال بين المحبوبين لعدم القدرة على الوصول أو الارتباط، نحن في أيدينا التكنولوجيا، ويمكننا الآن تطويع الزمن، والوصول لكل ما نريد بضغطة زر واحد، وحدود العالم تراب، نحن الجيل الحر، الذي ما إن أراد أن يحب فورًا سيفعلها، الحب قيد التطويع، وتلك هي هدية الحداثة لنا، أليس كذلك؟
الحب لعبة والكل سيلعب، هذا ما يفسر تلك الفجوة الموجودة بين الأجيال، واندهاش الأجيال السابقة من الأجيال الحالية، ومهاجمة بعضهم لبعض، يمكنك أن تجد سخرية الكثيرين من رسائل الحب والغرام التي يتبادلها أطفال في المدرسة الابتدائية، تلك السخرية المشهورة بأنك عندما كنت في سنهم كنت شغوفًا بمواعيد أفلام الكرتون، أو بأن أقسى أحلامك في أن تبادلك الفتاة التي تعجبك نظرة واحدة، هذا لا يعيبك ولا يعيبهم، إلا أنه يجب أن تتفهم بأن كل شيء متاح الآن، ويمكن هدم كل المبادئ في لحظة.
تذكر ما أهدتك إياه الثورة الصناعية، كل شيء قابل للانتقاد والسخرية، كل شيء قابل للتطويع والتغيير، وهذا ما يحدث مع الأجيال الحالية، الحب في نظرهم هو لعبة يمكنهم بسهولة لعبها والاستمتاع بها، صار الدخول في علاقات سطحية متعددة وقصيرة المدى من أسهل ما يمكن للشاب أو للشابة أن يقوم به حاليًا، لا بأس، ستمر تلك التجربة بسلام وسأكون مستعدًا للدخول في غيرها في أسرع وقت، هذا ما يتحجج به الأغلب منا، وهذا لأن السرعة هي ما تربينا عليه، الحب بسرعة، الشغف بسرعة، الملل بسرعة، والفراق أيضًا بنفس السرعة.
لا يمكننا أن نلوم عصر الحداثة وحده هنا، ثقافة الكبت والحرمان بهدف الحماية التي اتخذتها الشعوب العربية منهاجًا للتربية جعلت موسم الانفتاح على الحب يزدهر بشغف أعمى، كما جعل من الجيل الصغير مُقلدًا أعمى للثقافات الأخرى مادامت لا تُطبق نفس الحرمان والتقييد الذي تطبقه ثقافته، ومنه جعل الحقد والنقم على المنهج الذي يتبعه الأهل يزداد، ومنه جعل المبادئ والثقافة أيضًا محطًا للسخرية، وجعلها “موضة” قديمة لا تنتمي لما يتطلبه عصر الحداثة، هذا لا يمنع من تأكيد وجود المساوئ الضخمة لثقافة الكبت والحرمان المُتبعة في المجتمعات المحافظة، والتي ينتج عنها انفلات حتمي بشكل لا إرادي من أجل السعي وراء الحرية والمغامرة والتجربة، إلا أنه لا يمنع فقدان قيمة الحب لدى معظم ضحايا ثقافة الكبت، والتحوّل إلى فكرة الحب السريع، والتجربة المستمرة، والعلاقات السطحية السريعة، وإلى تجربة كل ما هو معاكس لثقافته الأصلية، حتى وإن كان أسوأ ما في تلك الثقافة باعتراف أصحابها.
لا لم يعد هناك قانون أو مبدأ، وإن قررت أن تسير على نهج خاص بك تحاول فيه التمسك بكل ما هو سليم الفطرة وقريب لنفسك أكثر مما هو أقرب لهوى المجتمع أو لهوى العالم أو لهوى محيطك، فيمكنك ألا تصمد طويلًا، إما أن تكون كالآخرين، تعيش اللحظة بكل ما فيها من متعة سريعة وسعادة مؤقتة ونشوة لحظية، مهما كان عمرك أو مدى تجربتك أو مدى فهمك وتقديرك لمشاعر الآخرين أو مدى الأهمية التي يمكن أن تعطيها للأشياء والتي من ضمنها علاقتك بشريكك أو شريكتك، وإما أن تكون نفسك، ولا تعبأ بكل ما يسير من حولك، لا تعبأ بالسعادة المؤقتة، ولا بكلمات الحب السريعة، ولا بالمشاعر المزيفة، ولا بالروابط الإلكترونية التي بدلت الروابط الإنسانية، نعم الحب لا يعرف الحدود ولا السن ولا الجنسية ولا اللون، ولكنه يعرف أيضًا الاحترام والمودة والمسؤولية أكثر من كونه مجرد تجربة سطحية عابرة.