لأقر بدايةً أنني صرت أبحث في الأشهر الماضية كثيرًا من بين المعروض في أروقة المكتبات والمعارض أو كتب الأرصفة أو حتى ما هو متاح من كتب إلكترونية عما يكتب أقراني من الشباب العربي بالذات، وأقسم أحيانًا وقت القراءة مناصفة بين ما كتبت القامات الأدبية المعروفة والعملاقة وما يكتب الشباب وبالذات من هم في بداياتهم مع عالم الأدب والنشر، ولا أخفيكم أن للأمر لذة، تلك التي لا يمدنا بها غير الشعور الحثيث بالإمكانيات عندما تكون في المتناول وبالآفاق المفتوحة، وهنا يقفز للخاطر تلك الجملة الكلاسيكية الشهيرة: “نعم، نحن قادرون، نعم، أنا قادر” لتعنون التجارب.
سأتحدث هذه المرة عن رواية “وصال” التي صدرت مؤخرًا للكاتب “سلمان زكري” وهي رواية بمثابة الشهادة الحية التي تنطق عن واقع الشباب التونسي إبان الثورة وتراوح بين ما يجري على أرض الواقع وما يتخلق افتراضيًا في الأثناء من وراء الشاشات، لتناقش عددًا من القضايا الراهنة التي يتخبط فيها الشعب التونسي على وجه الخصوص ومن ورائه شعوب عربية كثيرة.
ومن بين أجمل ما فيها، انطلق بذكر تلك الإحالات على معالم العاصمة تونس التي نعرفها في الحياة دون أن نجدها كثيرًا فيما هو مكتوب، على وجه من التفصيل والعناية، وهو ما أسعدني كثيرًا في الحقيقة، شارع الحبيب بورقيبة والأنهج المتفرعة عنه، سيدي بوسعيد، الباعة المتجولون، إلى غير ذلك من مكونات المشهد المعيش كل يوم، إدراج تفاصيل “أصيلة” من هذا النوع أعطى للنص نقاط ثبات ومرجعية واقعية زادته بسطة فارعة في القامة، فهناك واقعية جميلة، نفتقدها ونحتاج أن تدون على الورق لا فقط على الحلبات الافتراضية، وهناك كواليس ثورية وأطر مألوفة وغير مألوفة مستساغة.
عامة، ما يعيشه الإنسان في مناطق متفرقة من المعمورة وعلى مدى أزمنة متعاقبة مختلفة يكاد يكون هو ذاته، والفارق يكون عادة في صنعة متقنة لدى الأدباء الكبار عندما يتعلق الأمر بحسن نقل هذه اللمسة الإنسانية إلى كتبهم بحيث تنطق عنها شخصياتهم في تجاربها وحواراتها ورؤاها.
نقرأ عن الحب والثورات والكوارث الاجتماعية والخطأ والصواب والرحمة وغيرها في كل مكان وما كنت أتمناه دائمًا كلما قرأت مثل هذا بلغة أخرى هو أن تكون لنا كعرب، كمسلمين وكتونسيين نسختنا المحلية – العالمية المدونة عن مثل هذه الأوجه من حياة الإنسان اليوم وهو ما أعتبره نقطة قوة رواية “وصال” وربما غيرها مما نشر وينشر مؤخرًا لكتاب عرب أو تونسيين، الأمر الذي يستحق فعلاً التشجيع والمتابعة، تدوين للمجريات من نوع مختلف باقٍ.
سعدت كذلك بلقاء عدد من الفنيات الأسلوبية التي زينت الرواية وإن كانت شحيحة بعض الشيء ومنها بالذات كيف أن القارئ في البداية، كلما أتى الحديث على وصال، تلعثم في قراءته وتشوق عن أي وصال يتحدث الكاتب بالضبط ومثل هكذا “تلاعب” يحرك سواكن من يقرأ، ثم تلك العودة التي تفرض نفسها مع انتهاء الرواية لإلقاء نظرة ثانية متفحصة على الرسالة “الختامية” المدرجة في البدء.
كذلك أردت التطرق لحال شخصية الخالة فاطمة وما شدني إليها بالذات كان أسرها الذي توقفت طويلاً معه، لقد كانت مبتورة من ملكات الحرية في التفكير، في العيش، في الشعور والتحرك خارج مخلفات الحادثة الأولى والثانية أيضًا، وههنا درس في معنى التحرر والثورة الحقيقيين بالموازاة مع حديث الثورة المتعارف عليه، كثير منا يعيش تحت أسر لحظات معينة أو مشاعر معينة جمدناها ولم نحسن تركها للحظتها التي داهمتنا فيها إذ مرت، وقد كان الرمز جليًا إذ اعتنقته الشخصية في تصوري لدرجة معتبرة.
أما عن المآخذات فما أذكره هو أنني لم أستسغ مقعد الضحية في الرسالة أول الكتاب، خشيت أن يغرق الرواية في سلبيته وتمنيت ألا يفعل والحمد لله أن ما لحق بعد ذلك جاء بما تمنيت.
“وصال” أراها انطلاقة تدعو جديًا للاهتمام ومع ذلك كانت لتكون أروع لو اتخذت لنفسها مزيدًا من المساحة على الورق، صرت أميل في الأسابيع القليلة الماضية للاقتناع بأن رواية “حقيقية” تحتاج أن تعد بمئات الصفحات، تحتاج أن ترتخي على امتداد ما بين الدفتين وتمعن في نقل المشاهد والأحوال وتستفيض في إغراق قارئها فيها حتى إذا ما استفاق، مع النهاية، عزت عليه الاستفاقة وخلفت فيه أثرًا طويل النفس!