عكست البرامج التي أنتجتها بعض القنوات الدولية عن شهر رمضان، منظومة من الأخطاء المفاهيمية الخطيرة في حقيقة الأمر، فيما يتعلق بشهر رمضان.
وتأتي خطورة هذه المفاهيم، من أنها تنطلق في كثير من الأحيان من منابر إعلامية لها شهرتها وتأثيرها، وكذلك من شرائح مجتمعية لها سطوتها على جيل جديد صاعد لم يتلقَّ العلم الشرعي الكافي لكي يفهم دينه على حقيقته، ويعرف أركانه، وبالتالي، فإنه، وفي ظل الصراعات الراهنة بين الحكومات والأنظمة، وبين تيارات الإسلام السياسي المختلفة؛ فقد التبس على الكثيرين دينهم، من دون أدنى قدر من المبالغة في هذه القولة.
من بين البرامج والمواد الإعلامية اللافتة التي نشير إليها في هذا الموضع، مجموعة من البرامج التي أنتجتها قناة “فرانس24” العربية، ضمن برامج ثابتة لها، مثل “في فلك الممنوع”، أو فقرات خاصة بمناسبة الشهر الفضيل.
والمشكلة الرئيسية التي عكستها هذه البرامج، ليس فيما قدمته من رؤى غير سليمة، أو قاصرة عن شهر رمضان، بسبب كون القائمين عليها من غير المتخصصين، وبعضهم من الأصل من غير المسلمين – وهذه الإشارة ليس المقصود بها نقيصة قيمية بقدر ما هي نقيصة مهنية؛ أن يُسنَد الأمر لغير المتخصصين – وإنما المشكلة الرئيسية، فيما عكسته من رؤى لشريحة من الشباب، حول الشهر الكريم، وحول فريضة الصيام، صدرتها القناة على أنها الأساس الشائع لأفكار الشباب العربي المسلم – العربي بالذات – حول شهر رمضان.
هذا الأمر له تبعاته الأخرى كذلك؛ حيث إنه صدَّر صورة مغلوطة بأن هناك “ثورة” أو ردة لدى الشباب على تعاليم الإسلام وأركانه، باعتبار أن “الدِّين” دخل مجال “العادات والتقاليد” القديمة، التي بدأت “العقلية النقدية”، و”الروح المتمردة” للجيل الجديد في تمحيصها، والتعديل عليها (!!)، بينما الدِّين هو الأصل الذي يتم بناء الأسس التي من المفترض أن تنطلق منها العقلية النقدية في قياسها لمستحدثات الأمور، وبالتالي بناء موقف مغاير عليها.
ويعود ذلك جزئيًّا إلى خطأ في القياس من زاويتَيْن، الزاوية الأولى، هو أن وسائل الإعلام الغربية، وروافد أخرى كثيرة بين ظهرانيي مجتمعاتنا العربية والمسلمة، تعمل من منطلق رؤية غربية، لا يوجد لديها قداسة الدِّين (الإسلامي أو غيره)، ولا مركزيته، فتساوي – بالتالي – بينه وبين أية أفكار أخرى متوارثة – والدِّين ظاهرة متوارثة بطبيعة الحال – ويجوز عليه بالتالي، ما يجوز على العادات والتقاليد الأحرى.
الزاوية الثانية، هو عدم تمثيلية العينات المنتقاة للمجتمعات العربية والمسلمة، وقد يكون خلف ذلك عمدٌ أو عسف، أو ضعف في المهنية، أو غير ذلك من الأسباب، إلا أنه تبقى في النهاية أن ذلك يقود إلى تأسيس صورة ذهنية عن أن هذه العينات التي تمت استضافتها للتعبير عن “رؤى المجتمعات” و”رؤى الأجيال الجديدة” للدين وفروضه؛ تمثل “الجميع”، بينما هي تمثل أقلية، وربما كذلك أقلية غير محسوسة، ولكن ألاعيب الإعلام جعلتها “ظاهرة”.
صورة مغلوطة
من بين أهم الصور التي تم طَرْحها في برامج “فرانس24″، وغيرها من المواد الإعلامية التي تتناول شهر رمضان، هو الخلط بينه وبين ما لحقه من عادات وتقاليد عبر قرون طويلة، بسبب تأثيرات اجتماعية وسياسية، بعضها يعود إلى شخصيات وأنظمة حكمت، لم تكن على قدر الأمانة، ولم تعكس في حكمها لشعوب الأمة، الإسلام على حقيقته، وبعضها يعود إلى قوانين عمرانية مهمة، تتعلق بتأثيرات العادات والتقاليد المتوارثة، والتي ترسخت عبر القرون الطويلة، على السلوك العام لهذه المجتمعات.
الصورة الثانية المغلوطة، هو الخلط بين رمضان وفريضة الصوم، وبين سلوكيات إنسانية سلبية، مثل التكاسل والإفراط في الطعام والإسراف في الإنفاق بشكل عام.
وهي صورة ذهنية سلبية خاطئة لا يتحمل شهر رمضان، وفريضة الصيام، أية مسؤولية عنها، بل إنها ارتبطت بعوائد وتبعات وتحولات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان.
فهل نزل في القرآن الكريم، أي شيء يلزم المسلم بشراء الفوانيس، أو إنتاج مسلسلات، أو تدخين الشيشة في الخيام “الرمضانية” التي تقدم كل ما هو مبتذَل من مواد “فنية”، وأنشطة لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون ضمن العبادة؟!
هل رمضان مسؤول عن كسل المسلم، بسبب سوء برنامجه الغذائي، وتعامله غير السوي مع جدول الصيام والإفطار، بحيث يجد نفسه في أسوأ حالات الكسل بعد الإفطار، بينما الأصل أنه “بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلبه”، كما قال الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، في الحديث الذي أخرجه الترمذي وحسَّنه.
المدهش أنه بينما يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” [سُورة “الجمعة” – الآية 10]، ويقول المصطفى “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”: في حديث الترمذي المتقدِّم: “ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه”؛ نجد أن الصوم مُتَّهم بأنه سببٌ لكسل الناس وتقاعس المجتمعات عن الإنجاز، وأنْ يكون رمضان هو شهر الإسراف الذي هو منهيٌّ عنه شرعًا بأشد عبارات النهي في القرآن الكريم.
يقول تعالى: “يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)” [سُورة الأعراف”]، ويقول أيضًا: “إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)” [سورة “الإسراء”]، والتشديد في الآية الأخيرة، وصل بالأمر إلى مستوى الكفران والعياذ بالله!
من بين أهم مقاصد رمضان التي لم تعد قائمة؛ تحقيق التكافل الاجتماعي لصالح الإسراف الشخصي
كما أن الأصل الشرعي للصوم، وللعبادة بشكل عام، محدد بدقة شديدة في الأصول الشرعية، وهي القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النبوية الشريفة، ثم ما اتفق عليه جمهور العلماء وفق – أيضًا – ما جاء في القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة، وما طرأ على ذلك؛ إنما هو إما عادة أو بدعة، وفي الحالتَيْن؛ الدِّين والشريعة غير مسؤولَيْن عن ذلك.
تقصير العلماء والواقع المعاصر
قلنا إن وسائل الإعلام قد وقعت في خطأ التنميط غير الحقيقي، وغير المبني على الأصول الشرعية، إما لهوىً في نفوس القائمين عليها، أو إسناد الأمر لغير المتخصصين، أو لأصحاب موقف وهوىً، عكسوه في برامجهم.
ومن بين نتائج ذلك، هو ربط رمضان وفريضة الصيام كأصل شرعي، بتحولات المجتمعات، ومثلما تم دمج رمضان في الصورة الذهنية العامة له، بممارسات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان؛ فقد تم وضعه في سياق دنيوي لا يجوز في حال كونه إلهي المصدر، وبالتالي فقد تم خلطه مع تحولات المجتمعات، وأنه بالتالي؛ على رمضان، والفريضة، أو بمعنى أدق على الشريعة المقدسة والمنزهة، لأنها من لدُن حكيم عليم؛ أن تتماهى مع هذه التحولات!!..
وكان المفترض أن يكون لعلماء المسلمين دور في التصدي لذلك، إلا أنه ثمَّة مشكلتَيْن تعوقان ذلك في إطاره الإعلامي، الأول هو أنه تحت وطأة الضغوط الحالية على الصورة الذهنية للإسلام والمسلمين، بسبب أساليب بعض الجماعات المتطرفة أو المصنَّفة إرهابية، مثل “داعش”؛ حاول البعض تقديم صورة أكثر انفتاحًا للإسلام والمسلمين، وهو ما قاد إلى شطط التفريط، أو المجاملة.
المشكلة الثانية، هو عدم وجود إطار ناظم، شامل وجامع، ينظم عملية منح صفة “العالم” أو “المُجتهِد” أو “المفتي” أو “الداعية”، لأي شخص.
هذه المشكلة، التي نشأت عن كسر المركزيات المهمة في العالم العربي والإسلامي، والتي طالت الأزهر الشريف، ومؤسسات أخرى؛ أدت إلى منح بعض الشخصيات غير المؤهلة بالعلم الشرعي اللازم، صفات رسمية كمرجعيات للمسلمين، وخصوصًا في الغرب، وباتت مواقفها ممثِّلة للإسلام والمسلمين، بينما ما يقولونه ينقصه الكثير من الضوابط الشرعية، بالإضافة إلى مزجهم ذلك باعتبارات الموائمة التي لا تلتزم بدورها بالضوابط الشرعية اللازمة، بسبب وجودهم في الغرب.
فلا نجد أحدٌ يهتم بطرح الضوابط في الرد على الجدل عن رمضان وتحولاته، مثل أن صوم رمضان فريضة، ومن لا يريد أداءها لأية حجة؛ فمن الأصل أولى به ألا يعتنق الإسلام، وهو حر في ذلك، وحسابه على الله، لكن لا نجده يقول إنه “مسلمٌ”، بينما لا يريد تأدية العبادة، باعتبار أنها عادة نمطية، وهو مملوء بروح الثورة والتمرد على المألوف!!
وكيف يكون ذلك، بينما الأصل في العبادة أنها تكون نمطية؛ أي مرتبطة بأوقات ومتواترة، وما إلى ذلك؟!..
بل إن بعضهم يقول – هذا حصل من مفتي مرسيليا السابق، صهيب بن الشيخ – أنه لا يوجد عقوبة شرعية على المفطرين في رمضان، بينما صوم رمضان من أركان الإسلام الخمسة، وعبادة مفروضة على كل مسلم، ومنكره جحودًا يقع في حكم المرتد، وهناك عدد كبير من الآيات والأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، التي تحدد عقوبة الإفطار، والتي تبدأ بإطعام مسكين في حال إفطار المشقة، وتنتهي بالقضاء والكفارة، سواء بصيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا، في حال الإفطار العمد.
ولكن الضابط المهم في الرد على هذه الأمور، ولا نجده لدى الكثير من العلماء في الجانب الإعلامي، هو أن شهر رمضان، وفريضة الصيام – كما تقدم – لا علاقة لهما بما يجري من إسفاف ومسلسلات وكذا؛ هذه أمور لا علاقة للفريضة بها، فأصل الغاية والحكمة الإلهية للفريضة، هي التقوى.. يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)” [سُورة “البقرة”].
فكما أن الإسلام ليس مسؤولاً عن انحرافات المسلمين؛ فإن الفريضة لا علاقة لها بما أُلصق بها وبمجالها الزمني الذي تتم فيه.
تبقى الإشارة، إلى أن فرحة المسلمين بنفحات ربهم في أيامه؛ لا يجب أن تخرج عن ضوابط الشريعة العامة، مثل عدم الإسراف، وعدم الابتداع، وأن تكون الأعمال الصالحات، مثل العبادات وصلة الرحم والتواصل بين جماعة المسلمين، وتحقيق مفاهيم ومقاصد الشهر الفضيل، وعلى رأسها التقوى، والتكافل الاجتماعي؛ هي الشكل الرئيسي لمظاهر البهجة في هذا الشهر الفضيل، والذي تحول إلى موسم للإسفاف والبِدَع التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان!