بالنظر إلى حالة العالم الإسلامي القاتمة اليوم، فليس من المبالغة القول إننا جميعا بحاجة إلى جديد مجددين للدين مثل الغزالي لكي نستعيد بوصلتنا الفكرية ومركزنا الروحي، وأن نستعيد التوازن بين العقل والقلب، ونواجه البدع الحديثة مثل القاعدة وداعش. إن قراءة الغزالي في هذه الأيام الفضيلة من الصوم والتأمل والتقوى يمكن أن تعيننا على استعادة الوسطية التي تجمع بين العقل والقلب والحكمة، الوسطية التي عمل من أجلها حجة الإسلام الغزالي بجد.
يعد أبو حامد محمد الغزالي (1058-1111 ميلادية) واحدا من أعظم المفكرين المسلمين في جميع العصور، ولا يزال شخصية حاضرة بقوة في النقاشات الرئيسية في القانون وعلم الكلام والفلسفة والأخلاق والتصوف في العالم الإسلامي. تقدم أفكار الغزالي، إلى جانب رحلة حياته، الكثير للأزمات المعاصرة للمجتمعات الإسلامية ومآزقها في وقت جمدت فيه الرؤى الفكرية، وعطلت النزاهة الروحية، وقوض الإبداع الثقافي.
نشأ الغزالي في أسرة متواضعة، ودرس العلوم الدينية والفكرية في وقت مبكر. قاده اهتمامه الواسع بالقانون والمنطق وتفسير القرآن والأخلاق وعلم الكلام والفلسفة إلى أن أخذ العلم عن خيرة علماء عصره مثل أحمد الراذكاني، وأبو المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين. عرف الغزالي برجاحة عقله وسعة إطلاعه ما لفت انتباه الوزير المثقف القوي نظام الملك، وزير الدولة السلجوقية التركية (المتوفى 1092) الذي أنشأ المدرسة النظامية في بغداد لتكون أعظم مؤسسة أكاديمية في العالم الإسلامي في ذلك الوقت. في الثالثة والثلاثين من عمره تولى الغزالي تدريس الفقه وعلم الكلام في المدرسة النظامية، ليبدأ حياة ثرية كرسها للبحث العلمي والتدريس والوعظ.
وفي أوج شهرته وإنتاجه العلمي واجه الغزالي أزمة فكرية وروحية. وصف الغزالي بأمانة شديدة في سيرته الذاتية المعروفة “بالمنقذ من الضلال” كيف بدأ السؤال عن دوافعه الخاصة، وخلص إلى “تفكرت في” نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت” وتيقن بأنه “على شفا جرف هار، وأني قد اقتربت من النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال” . كانت هذه أزمة شخصية على أعلى مستوى قادت الغزالي لا للتساؤل عن نواياه الأخلاقية فحسب، بل للتساؤل عن الأسس الفكرية لمعرفته. بل إن الغزالي شك في وجود العالم الخارجي، وشكك في صحة الوسائل المستخدمة في العلوم الدينية والفكرية (يسبق الشك المنهجي لدى الغزلي طريقة ديكارت في الشك بعدة قرون. وفي النهاية عاد الغزالي إلى تأكيد وجود العالم والمعرفة اليقينية في إطار ميتافيزيقي أوسع).
عندما رأى الغزالي هشاشة حياته الفكرية والروحية، ترك منصبه المرموق، وأعد نفسه للذهاب إلى الحج، ثم ذهب إلى دمشق ليقيم في زاوية صغيرة في الجامع الأموي، ثم رحل بعد ذلك إلى القدس. كانت جميع أسفار الغزالي انعكاسا لرحلته الداخلية الخاصة، حيث إنه لم يقبل أي شيء لا يستند إلى المعرفة الحقيقية والنزاهة الأخلاقية والإدراك الروحي. تمسك الغزالي بأن المعرفة العقلية يجب أن تتأكد عن طريق القلب النقي. يحتاج الرجل الحكيم إلى ما هو أكثر من المعلومات والتلقين واستظهار العلوم (وهو تقريبا ما يحصل عليه المرء اليوم فيما يسمى بعصر المعلومات) كي يعيش حياة طيبة وفاضلة، فهو يدرك احتياجه االمعرفة والحكمة. لكن هذا لا يمكن أن يتحقق دون ذهن حاد وقلب نقي. ومن خلال توجيهات الله والعمل الجاد والإضاءة الروحية يمكن للمرء أن يحصل على عقل سليم وقلب نظيف لفهم معنى الوجود ومكاننا فيه. ودون أن يرسخ المرء نفسه في هذا المبدأ الأساسي، فسوف يبقى تائها حتى بعد أن يقرأ آلالف الكتب ويحقق الشهرة والمكانة وهلم جرا.
وعلى الرغم من أن أزمة الغزالي كانت فردية عميقة، فإنها لم تكن فقط أزمة عقل محقق باحث. رأى الغزالي أن العالم الإسلامي أيضا قد فقد بوصلته، ويحتاج إلى اتجاه جديد. صحيح أن المصدرين الرئيسيين في الإسلام، وهما القرآن والسنة، كانا بيد المسلمين، لكن المسلمين اضطروا إلى إعادة قراءتهما وإعادة تأويلهما ليجعلوا منهما مرشدا حيا لهم. رفض الغزالي التقليد، لأن المعرفة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق من خلال التقليد فقط. وعلاوة على ذلك فإن الخضوع الذليل مناف للمعنى الحقيقي للإيمان الذي يتطلب أكثر من مجرد قبول الصيغ التوحيدية والفقهية. ولذلك يحتاج المرء إلى التحقيق ليكون لديه معرفة حقيقة من جهة، والإيمان الحقيقي الصافي من جهة أخرى.
في هذا السياق كان العالم الإسلامي في حاجة إلى التجديد والإحياء ليفيق من غفوته، ويتنفس روحا جديدة في الفهم الديني. وكان لا بد أن تقوم حركة للصحوة الفكرية والروحية. وانطلاقا من هذه الفكرة كتب الغزالي، ربما أثناء وجوده في دمشق، أعظم أعماله “إحياء علوم الدين”، بما فيه من معرفة واسعة وتأثير كبير. كان الكتاب استجابة مباشرة للأزمة الفكرية في العالم الإسلامي. تكون الأزمة حتمية عندما تكون المعرفة مجزأة، وعندما تدمر وحدة العقل والقلب، وفقد المجتمع بوصلته الأخلاقية. وتشبه الأزمة التي واجهها الغزالي في القرن الثاني عشر في كثير من الأوجه البارزة ما يواجهه العالم الإسلامي اليوم.
وفي داخل هذا الإطار أيضا انتقد الغزالي الفلاسفة المسلمين من أتباع مدرسة أفلاطون وأرسطو في كتابه” تهافت الفلاسفة” مشيرا إلى الافتقار في الاتساق بدلا من الحديث عن المغالطات، فتكون النتيجة الرفض المطلق للفلسفة، وهو تمييز ذكي ومهم. رأى الغزالي أن الفارابي وابن سينا، وهما أبرز شخصيتين في اتباع المدرسة الأفلاطونية والمدرسة المشائية الأرسطية، قد أخطآ في محاولة أسلمة الفلسفة اليونانية الهيلينية، وفشلا في إنصاف متطلبات العقل ومبادئ الأديان السماوية. جازف ابن سينا والفارابي بقطع الصلة الأنطولوجية الوجودية والروحية بين عالم الخلق وبين الله الخالق المقيت الرحيم. ورأى الغزالي أن الفلسفة الأرسطية تحول الله إلى مبدأ الكونية دون الحقيقة الدينية والميتافيزيقية ودون حب شخصي، أي أن الله يتحول إلى مبدأ تنظيمي لا يمكن أن نصلي له أو أن نتكلم معه.
كان نقد الغزالي للفلسفة فكريا بقدر ما كان أيضا نقدا سياسيا، لأنه كان نقدا متعلقا باستخدام الدعاة الفاطميين للفلسفة من أجل دفع أجندتهم السياسية. ولكن على الرغم من الهجوم العنيف الذي شنه الغزالي على الفلاسفة، فإنه أدخل المنطق والفلسفة من الباب الخلفي، ومهد الأرضية لتوليفة الغزالي الجديدة التي تجمع بين علم الكلام الفلسفي الأشعري والتصوف، وهي توليفة يسير فيها المنطق والفلسفة المتعالية، والعقل والقلب، والمعرفة والإيمان والتحقق جنبا إلى جنب. هذه الوحدة المعرفية نجدها في كل عمل من أعمال الغزالي من الفقه إلى علم الكلام والتصوف.
هذه الوحدة المستمدة أساسا من التوحيد تكشف أيضا عن المعنى الباطني والمغزى الحقيقي من الأشياء التي يجب أن ينشغل بها العقل السليم والقلب المخلص. وعلى ذلك وضع الغزالي في علم الفقه الأسس لما عرف فيما بعد باسم منظور المقاصد، أي الغايات التي يصدر من أجلها الحكم الفقهي. وينطبق الأمر نفسه على العالم الروحي، حيث إننا مدعوون لرؤية ما وراء المظاهر، وإدراك المعاني الداخلية للواقع في نفوسنا وفي الآفاق. ويمكننا هذا من رؤية العالم كما هو ، فلا ننكر وجودها وأهميتها الروحية ولا أنها مطلقة. ووراء كل حكم في الفقه أو في الفلسفة هناك حكمة، وهي الهدف الأسمى للعقل السليم والقلب الرحيم اللذين نكتشف بهما هذه الحكمة ونعيش بها.
لقب الإمام الغزالي بحجة الإسلام، وعد مجددا للدين؛ وفقا لما جاء في الحديث الشريف إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس مائة سنة من يجدد لها دينها. وبالنظر إلى حالة العالم الإسلامي القاتمة اليوم، فليس من المبالغة القول إننا جميعا بحاجة إلى دليل جديد وإلى مجددين للدين مثل الغزالي لكي نستعيد بوصلتنا الفكرية ومركزنا الروحي، وأن نستعيد التوازن بين العقل والقلب، ونواجه البدع الحديثة مثل القاعدة وداعش. إن قراءة الغزالي في هذه الأيام الفضيلة من الصوم والتأمل والتقوى يمكن أن تعيننا على استعادة الوسطية التي تجمع بين العقل والقلب والحكمة، الوسطية التي عمل من أجلها حجة الإسلام الغزالي بجد.