تستمر موجة الاضطرابات داخل مراكز صناعة القرار الأمريكية فيما يتعلق بالموقف الأمريكي من القضية السورية، فبينما نتحدث عن تباينات بين نظرة وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون”، وبين نظرة وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية “سي آي أيه” في مسألة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في سوريا.
يخرج اليوم أكثر من خمسين دبلوماسيا بوزارة الخارجية الأميركية ليوقعوا مذكرة داخلية تنتقد سياسة إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في سوريا، حيث طالب الدبلوماسيون الولايات المتحدة بتوجيه ضربات عسكرية ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد لوقف الانتهاكات المستمرة ضد المدنيين هناك، ولوقف إطلاق النار فيما أسموها “الحرب الأهلية” التي مزقت البلاد على مدى خمس سنوات ماضية.
صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية حصلت على نسخة مسربة من هذه المذكرة، حيث جاء فيها انتقاد شديد اللهجة لفشل سياسة الولايات المتحدة مؤخرًا فيما يخص الصراع في سوريا، وبالتحديد في قضية إرغام الأسد على الحل السياسي.
تقول المذكرة أن أعمال العنف تعيق نجاح السياسة الأميركية في سوريا، وبأن الحاجة أصبحت ملحة إلى ما أطلقت عليه المذكرة “استخدام حكيم للقوة بما فيها الضربات الجوية، بصورة تؤدي إلى دعم العملية السياسية وانخراط أكبر للولايات المتحدة فيها”.
الموقعون على المذكرة يعتبرون أن المنطق الأخلاقي للتحرك في الوضع السوري من أجل إيقاف المجازر ومقتل الآلاف من المدنيين بعد خمس سنوات من الحرب، أصبح واضحًا وغير قابل للجدل، مشيرين إلى أن استمرار الوضع القائم في سوريا سيؤدي بالنتيجة إلى نتائج كارثية على الصعيد الميداني فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب، وكذلك فيما يتعلق بالعمل الدبلوماسي والحل السياسي، بالإضافة إلى الكارثة الإنسانية التي تنتج عن ثبات هذا الوضع.
كما أن المذكرة اعتبرت أن الانتهاكات المستمرة لقوات النظام السوري لوقف إطلاق النار الجزئي، المعروف بوقف العمليات العدائية، ستقضي على جهود الوساطة الدولية لتسوية سياسية، لأنهم يعتبرون أن نظام الأسد لا يشعر بأي ضغط للتفاوض مع المعارضة المعتدلة أو الفصائل الأخرى التي تقاتل على الأرض.
الدبلوماسيون أكدوا في المذكرة ضروة التدخل العسكري الأمريكي في الوقت الحالي، مشيرين إلى أن العمل العسكري ضد نظام الأسد من شأنه أن يساعد في عملية مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”؛ لأنه يمكن أن يعزز موقف السنة المعتدلين، الذين يشكلون حلفاء أساسيين في الحرب ضد التنظيم، معتبرين بشكل حاسم أنه لا يزال سكان سوريا السنة يعدون نظام الأسد العدو الرئيسي في الصراع، ولا يمكن في وجهة نظرهم تجاهل ذلك.
وزارة الخارجية الأمريكية تعترف
اعترفت وزارة الخارجية الأمريكية بوجود برقية دبلوماسية منشقة، أعدتها مجموعة من موظفي الوزارة تتعلق بالوضع في سوريا، وقد أكدت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن الموقعين على المذكرة يبلغ عددهم 51 مسؤولًا من وزارة الخارجية الأمريكية، من المستوى المتوسط إلى المرتفع، كثير منهم من الدبلوماسيين المحترفين، الذين كانوا منخرطين في سياسة الإدارة بشأن سوريا على مدى السنوات الخمس الماضية، سواء في الداخل أو الخارج، شاركوا جميعهم في تقديم الانتقادات الحادة بشأن السياسة الحالية لإدارة أوباما تجاه سوريا.
هذا وقد رفض المتحدث باسم الخارجية الأميركية، جون كيربي، كشف المضمون الدقيق لهذه المذكرة الدبلوماسية، واكتفى كيربي بالقول: “نحن ما زلنا ندرس هذه المذكرة التي صدرت قبل وقت قصير جدًا”، لكن صحيفتي “وول ستريت جورنال” و”نيويورك تايمز” أكدتا أن المذكرة تطلب صراحة شن ضربات عسكرية أميركية ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
حيث ختمت المذكرة بالفعل بقولها موجهًا لإدارة أوباما بأنه حان الوقت لتقود الولايات المتحدة مسترشدة بمصالحها الإستراتيجية والقناعات الأخلاقية جهدًا عالميًا لوضع حد لهذا الصراع نهائيًا، الذي أودى بحياة 400 ألف شخص.
إمكانية الاستجابة لهذه المذكرة
الموقف الأمريكي الحالي الذي يستكفي بالاعتماد على الفصائل الكردية المقاتلة في محاربة تنظيم الدولة “داعش” لا يبدو وأنه سيتغير كثيرًا حتى بعد هذه المذكرة شديدة اللهجة، التي أتت من قلب المطبخ الدبلوماسي الأمريكي بعد 5 سنوات كاملة من التخبط.
يُشير مراقبون للسياسات الأمريكية أن الأمر أصبح شبه مستحيل، لأن أوباما اتخذ قرارًا على ما يبدو لتصدير الأزمة السورية لخلفه الذي سيدخل البيت الأبيض، والآن جل طموحاته هو إحراز تقدمًا على حساب داعش في الأراضي السورية بالاستراتيجية الحالية المتبعة بالتعاون مع روسيا في دعم الأكراد لتحرير أكبر قدر من الأراضي الواقعة تحت سيطرة التنظيم.
ومن الواضح أن ما تُطالب به المذكرة الدبلوماسية أبعد من هذا بكثير، حيث طالبت بتحول جذري في سياسة الولايات المتحدة تجاه النظام السوري، ولا يوجد حتى الآن ما يدل على أن ذلك يمكن أن يتحقق خلال الشهور القليلة المتبقية من ولاية أوباما، الذي بنى استراتيجيته العسكرية في سوريا على قصرها في استهداف تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وليس نظام الأسد.
كل هذه التداعيات يمكن اعتبارها حصيلة الاضطراب في الموقف الأمريكي داخل سوريا، وترك الساحة للروس لاحتلال دور أكبر في الأزمة تحت سمع وبصر إدارة أوباما وليس رغمًا عنها كما يقول محللون.
فأوباما نفسه هو الذي صعد من لغة الخطاب ضد نظام الأسد واعتبره تخطى كافة “الخطوط الحمراء” قبل عامين من الآن، وأوشكت الولايات المتحدة بالفعل على توجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد، إلا أن أوباما فاجئ الجميع بالتراجع وإعلان استراتيجية الانسحاب وعدم تفضيل خوض أي نزاعات مسلحة جديدة في الشرق الأوسط.
كذلك خذلت إدارة أوباما حلفائها في الأزمة السورية لا سيما تركيا والسعودية اللتين طالبتا بتنفيذ حظر جوي لطيران النظام في الأجواء السورية، وإقامة منطقة عازلة آمنة لاستيعاب اللاجئين، مع تقديم الطرف الخليجي والتركي استعدادات للتدخل العسكري بعيدًا عن القوات الأمريكية، إلا أن واشنطن في النهاية فضلت التنسيق مع روسيا على حساب حلفائها، وهو ما أدى بالنهاية إلى تلك الكوارث التي تحدثت عنها المذكرة الدبلوماسية المنشقة مؤخرًا.