في تلك البلد الأوروبية الباردة عاشت وحدها كطالبة مغتربة لأعوام، قالت لي: كان الزواج قرار سعيد في ظل الأجواء السياسية المضطربة لوطني، وصار زوجي هو الشمس الدافئة التي أشرقت على قلبي في هذا المنفى الذي أختار، لكن للأمومة دائمًا رأي آخر في كل قرارات حياتنا، فمع قدوم طفلتي للعالم واجهت الغربة بشكل أقسى مما كنت أتصوره!
لن أتذكر حتى متاعب الحمل والركض للمستشفى والمتابعة والبحث عن طبيب مسلم، فكل هذه الصعوبات لا تقارن بشكلي وأنا نفساء عقب مغادرة أمي عائدة للوطن بعد ولادتي بأيام قليلة، عاصفة ثلجية تعوي في الخارج وأقف في مطبخي القارس مع جهاز تدفئة لا يجترح معجزة في تلك الأجواء ورغم تشغيله لازال الجو لا يطاق، أضع أطنانًا من الثياب فوق جسدي وجسد الرضيعة وأحملها بيد وأطهو بأخرى وأنا في حالة نفسية وصحية سيئة، اكتئاب ما بعد الولادة في الغربة، الهرمون الذي يسميه الأطباء اليوم الأزرق (the blue day) كان يضخ في دمي بمهارة منقطعة النظير.
في تلك الليالي كان زوجي يتأخر في عمله لأن الغربة ومتطلبات الزواج والأبوة تجعلان الحاجة المادية أكبر من أي وقت، وعليه أن يعمل في أكثر من وظيفة ليسد التزامات البيت، وكنت أبقى وحدي في تلك الليالي مع الطفلة أنظر من النافذة لشكل العالم الذي محا الثلج معالمه تمامًا كما محت الأمومة الجديدة في الغربة معالمي ودفنتني بقسوة تحت أطنان من الألم.
كنت أحكي لطفلتي البالغة من العمر أيام كيف أنني أتيت من بلاد دافئة وأن فيها شمسًا وهواءً عليلين وعائلة صاخبة تحبك ولسبب ما هم ليسوا معنا الآن وكم أنني أفتقدهم كأكثر ما يكون! حساء أمي الشافي الذي تجبرني على تناوله عندما أمرض وضحكي مع إخوتي وصوت الأذان وراحة النوم في سريري ورائحة الأطعمة الشهية التي كانت تعدها لنا وتتسلل لأنفي لتوقظني من قيلولة هادئة، صوتها الحاني وهي توبخ إخوتي إن فتحوا الباب وأنا نائمة ومطالبتها أن يغلقوه ويدعونني أنام.
لا أحد في الغربة ينظر فيما أحتاجه، لا أحد يطالب الآخرين بالهدوء حتى أنام، هنا الوحدة مع المسؤوليات العملاقة وبكاء الرضيعة الحاد يشقان الجدار ويزلزلان عالمي كل يوم، انتظار الفجر والشروق الذي يأتي بلا شروق لأن الشمس كفت عن الطلوع من شدة البرد، وبقائي خلف ستائر النافذة في انتظار عودة زوجي الذي اضطر للسهر في عمله وأنا لم أنم إما من شدة الخوف ووحشة البيت في المساء أو بسبب بكاء الطفلة الذي لم أعد أخمن أسبابه، وعادة ما أصبح يبكيني أنا أيضًا، وصوت الثلج الذي يضرب زجاج النافذة، هذه هي الأصوات الوحيدة في عالمي الجديد.
بعد الصدمة والبكاء لأشهر بدون أن يسمعني أحد، والشجار معها حول ما يبكيها ولا أفهمه! بدأت أحبها وأكلمها وأدركت أنها قد أصبحت عائلتي الوحيدة! لا أنسى أبدًا تلك الزائرة التي زارتني بعد شهر من ولادتي وكانت أول من يطرق بابي بعد أن أصبحت أمًا، وكيف جاءت والجو عاصف حتى إنني لم أصدق أنها ستأتي في هذه الأجواء، عندما اتصلت تستأذن في الزيارة، لم أشك لها أي شيء وهي لم تبق لأكثر من ربع ساعة لكن كأنها قرأت قلبي وقالت: سيدفأ الجو وستتنزهين مع طفلتك وستكون كل الأمور بخير، كانت كلماتها رائعة وهداياها للطفلة جميلة جدًا، ربما كانت البسمة الأولى التي تمنح عالمي المثقل في تلك الأيام مواساة حقيقية.
كانت الزيارات القليلة جدًا التي جاءتني للمباركة والتهنئة بالسلامة عزيزة على قلبي، يكفي أن يطرق أحدهم الباب وينظر في وجهي ووجه الطفلة ويقول مجاملة إنها تشبهني ويدعو لها أو يعطيني بعض النصائح عن الأمومة، تلك الحاجة للآخر التي أجربها بعنف في تجربة الأمومة، وأتذكر ولادات العائلة وكيف كانت الأم تجلس كملكة على سريرها في غرفة مزينة وأمها وإخواتها يتسابقن على رعايتها ولا شأن لها بالمولد سوى الرضاعة، كانت الأمهات في عائلتي ينمن ويتمتعن بالحب وفرحة القادم الجديد كأنهن صنعن معجزة، لكن في المنفى لم يكن هناك من يمنحني تلك البهجة مطلقًا!
تحققت كلمات زائرتي الأولى وجاء الصيف بعد شتاء أمومتي القارس الذي كان ألم المخاض هو أسهل ألم مررت به فيه، أصبحت آخذ الصغيرة التي صارت تضحك لي وأنزل للحديقة، وأنظر للناس في الشارع وأبتسم وفي قلبي فرحة عارمة أنني بعد أشهر من البرد والصمت والبكاء سأرى الشارع وأخطوا مع عربة الطفلة حتى مكان الحديقة القريبة، لم يكن أحد غير طفلتي يشاطرني الابتسام، كمقاتل عائد من ساحة الحرب وجسده مثخن بالجراح لكن روحه تبتسم وقد وجد السلام أخيرًا، كنت أتنفس الحياة في تلك النزهة!
أراقب صخب الأطفال ولعبهم في الحديقة وأتحدث مع طفلتي وأخبرها أنها ستشاركهم اللعب عندما تكبر في نفس المكان، لكن نظرة أخرى لأمهات الأطفال الأجنبيات واللاتي يرمقنني في عنصرية سخيفة كأنني شيء زائد ومرفوض تجعلني أفكر في أن نفس الشيء ستلاقيه صغيرتي من أطفالهن! ولن تجد من تلعب معه سوى أمها! وكنت أعود بتلك المشاعر الغاضبة لبيتي أسوأ حالاً من حالي قبل النزهة!
أكثر ما أثار دهشتي في تلك التجربة هو كم الصديقات اللاتي شاطرنني تجربة الأمومة في الغربة وكنت أقرأ ما يكتبن على صفحاتهن الاجتماعية عن السعادة المفرطة للأمومة وحكايات البهجة الرائعة التي غزت عوالمهن مع قدوم الصغار!! كانت تتنازعني رغبة شديدة في سؤالهن إن كان هذا الكذب البواح يشعرهن بحال أفضل!! أو أنهن يكتبن ما ينتظر الآخر قراءته حتى لا يتعرضن للنقد أو أنهن فعلاً سعيدات وهذا يجعلني تعيسة الحظ الوحيدة التي لم أحصل على هذا المفقود الذي حصلن عليه وتسبب في سعادتهن بهذا الوضع الذي لا يطاق!
لن أنكر أبدًا أن تلك المرحلة العصيبة من حياتي مرت بمعظمها بتوفيق وكرم من الله وأتناساها مع الوقت وأحاول الصمود ما أستطعت لأنه لا حلول أخرى وأنني صرت أقوى ألف مرة من تلك الفتاة التي كانت قبل الأمومة، وصار بمقدوري الوقوف والمواجهة وحمل ما قد يعجز الرجال عن حمله، لكن التجربة وصدمتها من الأشياء التي قد تركت بصمة لا تمحى في قلبي للأبد، وفي النهاية كل ما فكرت به أنه قد حدثت في حياتي بالمنفى معجزة قاسية أهدتني صديقة جميلة تتطلع لي بحب وانتماء حقيقيين وهي كل ما أملك وأعظم كنوز عمري على الإطلاق وأنها قد صارت وطني الوحيد.