للقرآن الكريم منهجيته المعرفية التي يجب على المسلمين اكتشافها واتباعها، التي هي: المنهج الذي يقدمه لنا القرآن المجيد في شكل محددات وسن قوانين يمكن استنباطها من استقراء آيات القرآن الكريم (تلاوةً وتدبرًا وترتيلاً وتنزيلاً وتفكرًا وتعقلاً وتذكرًا)، ثم التعامل مع هذه المحددات تعاملاً يسمح لنا بأن نجعل منها محددات تصديق وهيمنة، وضبط لسائر خطواتنا المعرفية.
فهذا القرآن المجيد، أراد قائله ومنزله – تبارك وتعالى – له أن يقرأ ويتدبر، ويتفكر فيه، ويعقله العالمون، ويرتله المرتلون، ويتلوه التالون، ويتبعه المهتدون، فأودع الله – تبارك وتعالى – فيه كل ما يجعله جاذبًا لأصناف الخلق كافة، مستدعيًا لهم لقراءته، قادرًا على صنع الدوافع والدواعي والإرادات لترتيله وتلاوته، ولن يكون ذلك إلا بمراعاة وحدته البنائية عند قراءته والتعامل معه.
والمراد بـ “الوحدة البنائية للقرآن” أن القرآن المجيد واحد، لا يقبل بناؤه وإحكام آياته، التعدد فيه أو التجزئة في آياته، أو التعضية بحيث يقبل بعضه ويرفض بعضه الآخر، كما لا يقبل التناقض أو التعارض وغيرهما من عيوب الكلام، فهو بمثابة الكلمة الواحدة أو الجملة الواحدة أو الآية الواحدة، وإذا كانت قد تعددت آياته وسوره وأجزاؤه وأحزابه؛ فذلك التعدد ضرورة لا غنى عنها في التعليم والتعلم، والتنزيل لتغيير الواقع وإبداله (ص 14).
الركن الأساس في فهم القرآن المجيد
هذه “الوحدة البنائية” للقرآن الكريم، تمثل الركن الأساس في فهم القرآن والتعامل معه والانتفاع بهديه، فمعاني الآيات لن تسفر لك عن وجهها، حتى تقرأها في سياقها وموقعها وبيئتها، تقلب طرفك وعقلك ولبك وفؤادك، وتصيخ السمع إلى نبضات الحياة في قلبك في ذلك – كله – ولن تبلغ الغاية، ولن تدرك المراد حتى تلاحظ سائر العلاقات بين الآية وبين القرآن كله، لأن القرآن بناء محكم واحد، ونظام متفرد واحد، تسري فيه كله روح واحدة تحوله إلى كائن حي (ص 18).
الوحدة البنائية للقرآن المجيد وإعادة بناء علوم الأمة
الوحدة البنائية للقرآن المجيد، محدد منهاجي، من محددات منهجية القرآن المعرفية، ولها آثارها على جانب كبير من الأهمية على سائر العلوم والمعارف النقلية، وحين يجري توظيفها بشكل منهجي دقيق، فإنها سوف تقدم للمنشغلين بهذه العلوم والمعارف، وسيلة من أكثر الوسائل فاعلية في مراجعة ونقد التراث الإسلامي كله، وفي مقدمتها ما يعرف بـ “علوم المقاصد” وهي: التوحيد والتفسير وأصول الفقه وعلوم الحديث والفقه.
ويضرب المؤلف علمي التوحيد والتفسير كمثالين، وأثر تبني الوحدة البنائية للقرآن المجيد في تجديدهما.
- أولاً: علم التوحيد
وهو العلم الهادف إلى بيان حقائق الإيمان كما جاء بها القرآن، وكيفية الجمع بين الإيمان والعمل، وتعليم المؤمن كيف يصون هذا الإيمان ويرسخه على الدوام، لكن خروج هذا العلم عن المنهج القرآني والالتجاء للجدل والفلسفة والمنطق فصار”علمًا للكلام”، في حين أن الوحدة البنائية للقرآن، كمحدد منهجي قادر على التخلص من هذا التراث الجدلي، وتطهير العلم مما علق به، وتخليص العقل والوجدان المسلم من آثار الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني، وإعادة بناء التوحيد والإيمان على القرآن، وتأسيس العقيدة على هديه.
- ثانيًا: علم التفسير
وهو أول المعارف الإسلامية، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يفسر القرآن بالقرآن ذاته، أو يقوم بتنفيذ وتطبيق ما يوحى إليه ليبين لأصحابه معناه عمليًا، لكن تطاول الزمان، فدخلت في التفسير قضايا ليست منه ولا تناسبه، فصار القرآن يحاكم مثلاً على لسان العرب، أو بتراث بني إسرائيل، في حين أن القرآن لا يفسره إلا لسان القرآن ذاته، فلسان القرآن وإن كان عربيًا مبينًا إلا أنه قد حول تلك المعاني البسيطة الساذجة المعبرة عن مستوى فكر العربي في تلك المرحلة، إلى معان لم تكن معهودة من قبل: فكل الكلمات الشرعية مثل “الإيمان والصلاة والزكاة والصيام والحج والكفر والشرك والنفاق…وما إليها” كانت معان بسيطة في الاستعمال العربي الجاهلي، فقام القرآن بتنقيتها وشحنها بالمعاني التي أراد لها أن تحمل وتشتمل عليها.
ومن هنا فإن الوحدة البنائية للقرآن، هي وحدها تدلنا على معاني كلمات القرآن، ومراميه وأهدافه، وهو ما يؤدي، لتجديد علم التفسير، وتخليصه مما علق به من تراث بني إسرائيل وخرافتهم، أو حصر معانيه في شعر الجاهلية أو لغة العرب، البدو تحديدًا.
أعمدة القرآن الثلاثة:
القرآن – بجملته – يقوم على أعمدة ثلاثة:
- التوحيد، وهو يشكل العمود الأساس لمعظم سور القرآن المجيد
- العمران
- التزكية
القرآن المجيد، معالج الأزمات
إن فهم القرآن الكريم في “وحدته البنائية” وقراءته عبر “الجمع بين القراءتين” ومن خلال “لسان القرآن” ذاته، هو وحده القادر على أن يسهم في معالجة مشكلات أمتنا وعالمنا المعاصر، فعندما نستطيع صياغة مشكلاتنا بشكل صحيح وشامل في شكل أسئلة محددة، ونتجه بها إلى القرآن المجيد بهذه المحددات المنهجية، ضارعين مفتقرين، فمن المؤكد أن القرآن سيقودنا إلى الكامن فيه، والمضمر في ثنايا نصه، وقد يقودنا باتجاه التاريخ نستنطقه، وإلى نماذج الأمم السابقة نسألها عن أخبارها، والأشباه والنظائر لنحللها، حتى يعطينا أجوبة شافية وحلولاً لمشاكلنا.
خاتمة
إن المسلمين حين قرأوا القرآن الكريم بطريقة التجزئة، متشبهين بأولئك المقتسمين الذين جعلوا القرآن مقسمًا، فما وافق ما لديهم قالوا بصحته مع دعوى اقتباسهم منه، وما خالف عندهم من تراث قالوا فيه ما يشاءون، قد فقدوا الكثير من أنوار القرآن وآثار آياته الموحدة التي أحكمت فصارت كالكلمة الواحدة.
وكذلك الأمر مع قراءة التعضية، أي التفرقة والقسمة، والقراءة الحمارية التي هي حجة على القارئ، لا حجة له، فحملوا القرآن، ثم لم يحملوه، فلم يحسنوا قراءته، ولم يرتلوه ترتيلاً، ولم يتلوه حق تلاوته، كل هذه قراءات خاطئة ومخطئة.
فالقرآن المجيد، لا يقبل التعضية ولا القسمة ولا التفرقة ولا القراءة الحمارية، ووحدها القراءة الواعية، التي تلتزم بالوحدة البنائية للقرآن، هي التي تساعد الإنسان المسلم على حسن القراءة والترتيل، ودقة التلاوة، ثم استقامة الفهم وجودة التطبيق وصحته، فهي ركن منهاجي، وليست مجرد فضيلة تضاف إلى فضائل الأسلوب القرآني التي لا تحصى، ومن هنا تكون الحاجة ماسة لكل الجهود التي تحتاج المتخصصين في مختلف فروع المعارف الإسلامية واللغوية، لبيان وتوضيح أهمية “الوحدة البنائية” للقرآن المجيد.