لا يمكن للنزول في محطة قطار “باب العامود” في القدس أن يكون مساويًا للنزول في أيّة محطة قطار آخرى في العالم، فهو نزول إلى قلب الحاضر والتاريخ ومركز الصراع والتناقضات وهو نفسه مركز الشعوب والحضارات، وبقدر ما ترى هناك من مظاهر الغطرسة والقبح بقدر ما سترى من آيات الجمال والبهاء.
تنزل من القطار، تتقدم شيئًا فشيء، تلاحظ أعدادًا مهولة من رجال الشرطة المدججين بالسلاح، تتخيل للحظة أن الحرب قادمة، تغض الطرف عنهم وكأنهم “لا شيء” لتتأمل باب العامود وبهاءه أكثر فأكثر، ولعلّك تلتقط صورة تخلد فخرك المتجدد بوصول القدس وكأنك تصلها للمرة الأولى في التاريخ.
تتأمل باب العامود فتجد قناصًا صهيونيًا يترصد الناس، وهم عنه غافلون، كأنهم تعوّدوا عليه فلم يعد يثير أهتمامهم، حتى أنت تتأمل الناس فتجدهم منشغلين بشراء الحلوى والألعاب وكأنهم يرددون للمرة الألف بأن “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” رغم الاحتلال وغطرسته، أنت نفسك لن تبالي كثيرًا بالجنود لأن غروب الشمس يقترب ولا بد لك من تحضير إفطارك “المقدسي” البديع.
تنزل الدرج، تتقدم بين روائح الأطعمة وأصوات الباعة ونظرات الجنود، في داخل الباب منعطف مزدحم كالعادة، تعبره بشق الأنفس وتقرر أن تسير من طريق خان الزيت، لتشتري شيئًا من المخللات والحوادق من متجر مخللات متخصص، يكفيك هناك أن تشتري شيئًا من الزيتون المحشي باللوز وإن كنت من عشّاق “اللفت” فممتاز، تأخذ غنيمتك من “المشهيّات” وتهرول مسرعًا نحو “طريق الآلآم” حيث متاجر التحف ووجوه السياح لن تفارقك إلا بوصولك عند أول منعطف عند “طريق الواد”.
هناك يمكنك أن تشتري شيئًا من الحمص المقدسي الفاخر من “أبو شكري” وهو من أشهر المطاعم الشعبية في القدس بل ويذكر في كتب السياحة الألمانية والإنجليزية بل واليابانية أيضًا، وعمومًا فإن زرت المحل مرّة، فقد تزوره كل مرّة، ثم ما إن تخرج حتى تجد المخبز بالقرب منك، يمكنك أن تشتري أي خبز شئت ولكن “الكعك المقدسي” هناك مختلف تمامًا ولعل طعمه لا يكتمل إلا في شوارع القدس، ويمكنك أن تقرأ في رواية “أمير الظل” لعبدالله البرغوثي كي تعلم ماذا يعني هكذا كعك بالنسبة لصاحب أعظم حكم سجن في التاريخ وهو 5200 عام!
بعد الكعك يمكنك أن تهرول في طريق الواد حتى تجد “فلافل الشيخ أمين” قبل سوق القطانين بقليل، ولو حظيت بلقائه فيمكنك أن تلقى من يرحب بك كزائر للقدس أجمل ترحيب، هكذا رجل يمكنه أن يعطيك درسًا كيف تبتسم رغم كل شيء، فكل الديون والتضيقات التي تفرضها “إسرائيل” على المقدسيين لم تسرق منه البسمة ولا حتى الإبداع، عنده تجد الفلافل على شكل “قلب حب” أو وردة ويمكنك أن تجدها محشوة بالجبنة أو البصل، يمكنك أن تختار ما يحلو لك، ومن الأسعار لا تقلق، فهي رخيصة جدًا مقارنة بعناء وهموم مقدسي مثله وفوق هذا يكفيك أن شعار المحل “فلافل الشيخ أمين كله فيتامين” ويكفيك أن تسمع منه وأنت تمد يدك إلى جيبك: “خليها علينا”!
ما دمت وصلت “الشيخ أمين” فهذا يعني أنك وصلت “سوق القطانين” وأن بينك وبين الأقصى خطوات معدودة فقط، هكذا سوق كان في أيام المماليك من أفخم أسواق القدس وأحسنها وأتقنها واليوم لا وجود للقطن ولا للقطانين وما السوق إلا بضعة مقاهي ودكاكين تحف وهدايا بسيطة والكثير من دكاكين الحلوى، هذه قد تثيرك فهناك “تَرَى كلَّ ما لا تستطيع احتِمالَه”!
بعد الحلوى، لست بحاجة أكثر من رؤية قبة الصخرة كي تكتمل الحلاوة، ولكن قبلها لا بد لك من وقفة تهز “عرش” عروبتك وجندي عربي صهيوني يسألك: “من أين أنت؟” إن أعجبه شكلك ونبرة صوتك واسم بلدك تدخل وإلا لا مفر من تفتيش أوراقك الشخصية، ويقال إنهم يتساهلون في رمضان وكأن البيت بيتهم ولكنهم يعملون بالغطرسة وحسب المزاج، لا يمكن أن تأمن مكرهم!
مهما استفزّك الجنود، لا تنس دعاء الدخول إلى المسجد احترامًا للجمال وخالقه، اصعد على الدرجات وتأمل قبّة الصخرة أمامك وسبيل قايتباي البديع عن يمينك، وهو من أبدع معالم الأقصى وعليه مكتوبٌ أنه شيّد “سنة سبع وثمانين وثمانمائة” ولا زال ينطق بالجمال منذ أكثر من 500 عام، مثله مثل المدرسة الأشرفية بالقرب منه والتي تعتبر “الجوهرة الثالثة” بعد قبّة الصخرة والمسجد القبلي والتي تستحق كذلك منك ولو صورة تذكارية أو نظرة على الأقل!
ولأن وقت الإفطار يقترب، لا بد لك من بقعة بديعة في هذا العالم، فإن أردت لإفطارك أن يكون أمويًا إبداعيا فليس لك إلا ساحة قبة الصخرة، وإن اردته بصبغة مملوكية فالرواق الغربي خيارًا ممتازًا، ثم لو أردته عثمانيًا فقد تغريك فكرة الجلوس عند قبّة عشاق النبي ولكن هذا ليس كل شيء، لأنك لو أردت كل هذا وأردت إفطارًا بنكهة الأقصى كل الأقصى فما عليك إلا أن تتخير شجرة زيتون تطل منها على المسجد القبلي وقبّة الصخرة والأروقة وكل الحاضر والماضي لتأكل وجبتك المقدسية والبسيطة والتي لن تنساها ما حييت أبدًا!