برز الخطاب الفكري العربي في عصر النهضة جوهريًا من إشكالية الهوية والمغايرة، وقد كانت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على مصر والشام عام 1798م بداية التغير والتبدل الذي سمي بعصر النهضة العربية، فقد تعرض المشرق العربي لصدمة فكرية وثقافية واجتماعية عنيفة، ومن هذه اللحظة التاريخية حاول المفكرون العرب صياغة خطاب فكري يبرز الهوية العربية لرد التحدي الأوروبي وإعادة التوازن للذات من خلال أنماط الوعي والروابط الاجتماعية والسياسية القائمة.
كان للحملة الفرنسية النابليونية على مصر أثرًا هامًا لانبثاق عصر النهضة العربية، وإسنادًا لهذه الأطروحة يرى محمد الجابري أن مشروع النهضة العربية لم ينطلق إلا مع انطلاق حملة نابليون على مصر، ويماثله في الرأي فهمي جدعان الذي يرى أن حملة نابليون على مصر كانت لها آثار ثقافية عميقة تجلت فيما بعد بإرسال حكومة محمد علي البعثات العلمية إلى فرنسا، وفي نفس السياق فإن علي المحافظة وجد في الحملة الفرنسية على مصر انفتاحًا عربيًا على الحضارة الغربية الحديثة، بما اشتملت عليه من مبادئ سياسية ونظم إدارية وعلوم وآداب وغيرها.
يأتي الخطاب العربي النهضوي في سياق تاريخي معين وفي ظروف تاريخية معينة، حيث برز هذا الخطاب نتيجة التأخر التاريخي لحالة الشرق مقابل الغرب، إضافة إلى اللحظة الصدامية التاريخية بالاستعمار الفرنسي ممثلًا بحملة بونابرت والتي فرضت نفسها سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، من جانب آخر فرضت الحملة الفرنسية على مصر عوامل سياسية ثانوية أسهمت في بلورة الخطاب العربي النهضوي، أبرزها تعزيز الشعور الوطني والقومي المصري وضعف السلطة العثمانية التي كانت تكبح جماح النشاط الثقافي والفكري العربي.
تنسب التجربة التحديثية العربية الأولى إلى محمد علي باشا الذي أراد بناء دولة قومية على غرار النموذج الغربي، وتكمن سياسات محمد علي التحديثية في التغيرات النوعية التي طالت القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج بشكل أساسي وما رافقته من تغييرات تشريعية، ولم تقتصر منجزات محمد علي باشا على بناء مؤسسات الدولة الاقتصادية، بل رافق ذلك إنجازات اجتماعية، حيث استطاع محمد علي أن يخلق جوًا من الطمأنينة في كل المناطق المصرية عبر إلغاء القوانين التي تميز بين المواطنين وإعطاء الحرية لكل من يريد ممارسة الشعائر الدينية المختلفة جهرًا، وهذا ما أدى إلى هجرة العديد من المثقفين العرب من مختلف التيارات السياسية إلى مصر، كما كان هناك بناءً تعليميًا تكرس بتأسيس المدارس العمومية، إرسال البعثات العلمية إلى الخارج، تأسيس مطبعة بولاق، وإصدار جرائد مثل جريدة الوقائع المصرية، كل هذه العوامل أرست أسس النهضة العامة للحضارة العربية في العصر الحديث.
تبلور الخطاب الفكري العربي في عصر النهضة في خضم الصراع بين تيارات فكرية مختلفة، حيث برزت تيارات تدعو إلى الاستناد على الفكر الغربي كأساس منهجي عملي يساعد العقل العربي على الخروج من أزمته الفكرية، وهناك من رفض هذا التوجه ورأى أن الموروث العربي والإسلامي هو القاعدة التي لا بد الانطلاق منها في سبيل الحفاظ على الهوية العربية، وما بين الاثنين برز تيار توفيقي يدعو إلى التوفيق بين الفكر الغربي والتراث العربي في سبيل تنمية الفكر العربي وتحديثه.
يمكن تمييز تيارين رئيسيين نهضويين نشآ في الفكر العربي الحديث بعد الصدمة النابليونية أو صدمة الحداثة وهما:
التيار الإصلاحي الديني:
من أبرز دعاة هذا التيار جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، محمد رشيد رضا وآخرون، وفي سياق فهم الأسس والمنطلقات التي اعتمد عليها دعاة هذا التيار، فإن الأفغاني يرى بأن هناك خطرين يهددان العالم الإسلامي، الأول خارجي يتمثل بالاستعمار الغربي ونزعته للسيطرة على العالم الإسلامي، والآخر داخلي يتمثل بالانحطاط، التخلف واستبداد الحكم، وعليه دعا الأفغاني إلى تحرير الفكر الديني من قيود التقليد، وفتح باب الاجتهاد، ليتخلص المجتمع الإسلامي من الجمود والتقليد الأعمى الذي لا يتلاءم مع روح العصر.
وفي نفس السياق دعا محمد رشيد رضا إلى الابتعاد عن الجمود والتقليد الأعمى لما يمثله من خطر على المجتمع الإسلامي، ونادى بضرورة إجراء تعديلات في الشريعة الإسلامية، من خلال تأسيس مذهب إسلامي جديد مفهوم من قبل الجميع ويكون أكثر تلاؤمًا مع تطورات العصر، من جانب آخر دعا رضا إلى إقامة دولة إسلامية لا تفصل بين الدين والدولة كمنفذ وحيد لإصلاح الشريعة الإسلامية، معتبرًا بأن الإسلام دين السيادة والسياسة والحكم.
التيار العلمي العلماني (الليبرالي)
يصنف هذا التيار إلى صنفين رئيسيين: الأول تيار تغريبي وضعي يقلد التجربة الغربية ويرى فيها نموذجًا شاملًا للشعوب بكل ما نتج عنها من نظريات وأفكار، إضافة إلى مبدأ فصل الدين عن الدولة، ومن أبرز أتباع هذا التيار شبلي شميل، يعقوب صروف، فارس نمر وغيرهم، أما الثاني فهو تيار تغريبي تحريفي يسعى إلى محاولة التوفيق ما بين الإسلام والفكر الغربي، حيث يقوم فكر هذا التيار على الإيمان بأن التقدم العلمي والثقافة المعاصرة يستلزمان إعادة صياغة التعاليم الدينية التقليدية بناءً على المفاهيم العلمية والفلسفية السائدة، ومن أبرز مفكري هذا التيار رفاعة الطهطاوي، قاسم أمين، أحمد لطفي السيد، سعد زغلول وآخرون.
لقد وجد العرب أنفسهم عند يقظتهم نتيجة صدمة الحداثة الغربية أمام نموذجين حضاريين: الحضارة الغربية التي كانت تشكل لهم تحديًا ثقافيًا وعسكريًا، والحضارة العربية الإسلامية التي تشكل الأساس اللازم لترسيخ هويتهم وذاتهم ولمواجهة التحدي، وعلى ضوء هذين النموذجين فإن التعامل النهضوي العربي على صعيد الخطاب مع النموذج الأوروبي كان يتطلب منهم السكوت على الجانب الاستعماري فيه، ولكن بما أن الاستعمار يعوق نهضتهم، فإنهم مضطرون إلى مقاومته ومعارضته وفضح سياساته.
من جانب آخر فإن التعامل بشكل نهضوي مع النموذج الإسلامي يتطلب السكوت عن قرون طويلة من الجمود والتخلف، وفي نفس الوقت لا يمكن ذلك لأن تلك الفترة هي جزء من النموذج نفسه، ولا بد من حضورها بشكل أو بآخر في نفس الخطاب، إن هذا التناقض الوجداني انعكس أثره على الخطاب النهضوي العربي، فجعله خطابًا متوترًا غير مراقب الرقابة الكافية.
ألقت هذه الصدمة الغربية الحداثوية بالمثقف العربي في تناقض لا يسهل حله، فكان على هذا المثقف الذي تلقى تربية تقليدية أن يصلح مجتمعًا تقليديًا بتصورات تقليدية متقادمة، ولهذا كان عليه أن يبحث عن أشياء غير تقليدية في تراث تقليدي أو يبحث عنها لدى الطرف الغربي المتفوق عليه، ولهذا وجدنا الطهطاوي يبحث عن المعرفة لدى روسو ومونتيسكيو، وفرح أنطون يتعلم من نيتشه وماركس، وطه حسين يستفيد من منهاج ديكارت وغيرهم آخرون.
يشكل ما سبق المرحلة الأولى التي مر بها الخطاب الفكري العربي والذي تشكل في عهد الحكم العثماني وفي فترة هيمنة الاستعمار الغربي ولا سيما في مصر، أما المرحلة الثانية التي طرأ فيها تطورات على الخطاب الفكري العربي كانت ما بعد الاستعمار واتفاقيات التجزئة وإقامة الكيان الصهيوني، حيث بدأت بهذه المرحلة تتبلور ملامح فكرة الوحدة والتحرر السياسي من الاستعمار، وكانت هذه المرحلة مرحلة النهوض القومي.
جاء الخطاب الفكري القومي العربي نتاج لمجموعة من الأفكار والمبادئ المرتكزة على المبادئ الأولية للقومية العربية، وسعى هذا الخطاب إلى توصيف مشكلات الواقع العربي، إلا أنه كان يسعى في الآن نفسه إلى تقديم حلول لهذه المشكلات الأمر الذي جعل منه خطابًا مأدلجًا، من جانب آخر فإن الظاهرة القومية هي بالأساس ظاهرة نشأت في كنف الغرب الأوروبي، وهذا يعني أن الخطاب الفكري القومي العربي متأثر بالدور الغربي فيما يتعلق بإعادة ترتيب أصول الفكر الحديث والمعاصر، إلى جانب دوره في إعادة تركيب النظام العالمي في سياق التطور الذي حققه النمط الرأسمالي في القرن التاسع عشر وما تلاه من القرن العشرين.
توزع الخطاب القومي بين تيارات ثلاثة: الأول يمثله ساطع الحصري، والثاني يحمل لواءه قسطنطين زريق، والأخير قاده البعث ثم الناصرية، لقد رأى الحصري أن اللغة والتاريخ هما أهم مقومات القومية العربية وليس الدين، ودعا إلى فصل الدين عن الدولة لحل إشكالية الأديان والطوائف المتعددة.
من جانب آخر أكد زريق على أهمية العنصر الفكري الذاتي المتمثل بتكوين العقل الحديث في عملية بناء وتغيير المجتمع، وكان خطابه بذلك مخالفًا لخطاب الحصري الذي يرى أن التخلف موجود في النظام والبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قبل أن يكون حالة عقلية.
أما حزب البعث العربي الاشتراكي فكان خطابه يهدف إلى تقديم تصور شامل ومتكامل للأيدلوجيا العربية المنشودة، وتبنى الخطاب نظرية الاشتراكية بحيث تكون اشتراكية تتلاءم مع الواقع والتراث والقيم العربية، وأن تكون مرتبطة بالتراث العربي والإسلامي ارتباطًا عضويًا، وأن يكون الهدف من هذه الاشتراكية بناء حضارة عربية متكاملة في جوانبها المادية والروحية، وقد مثلت الناصرية أول تطبيق علمي للخطاب البعثي على الرغم من عدم انتسابها للبعث حينما نجحت في إقامة أول وحدة عربية في العصر الحديث بين مصر وسوريا عام 1958م، إلا أن فشل التجربة أحدث زلزالًا في الخطاب الفكري العربي وجعله يدخل في دائرة من الشكوك والتوتر.
يرى محمد عابد الجابري أنه لا يوجد حداثة مطلقة وإنما هناك حداثة تختلف من وقت لآخر ومن مكان لآخر وهي مشروطة بظروفها مثلها مثل أي ظاهرة تاريخية، لذلك فهو يؤكد أنه حتى و إن افترضنا جدلًا بأن الحداثة الغربية تمثل حداثة عالمية فإن مجرد انتظامها في التاريخ الثقافي الغربي، وإن كان في سياق التمرد عليه، يجعلها حداثة لا تستطيع محاورة معطيات الثقافة العربية بشكل نقدي وتمردي لكونها لا تنتظم في تاريخها، من جانب آخر سعى أدونيس لتأسيس حداثة عربية متجنبًا السقوط في محاكاة الغرب وذلك من خلال التمرد على النظام السائد وقيم الماضي، ورأى أدونيس أن الحداثة تقوم على هدم شامل لنظام الأفكار السائد على أساس المغايرة والمعاصرة والتجريب.
على ضوء ما سبق وبما أن أطروحة الحداثة في الخطاب العربي غريبة عن واقعه، وليست مستوحاة منه، ولأن أصولها تنبع من خارجه، وبما أنه لا يمكن تعميم الحداثة على جميع المجتمعات، فإنه ليس هناك حداثة عربية طالما أن أصول الأطروحات الحداثوية في العالم العربي مستوحاة من خارجه.
اصطدم الخطاب الفكري العربي منذ أواسط القرن التاسع عشر بجدل المنطلقات والأولويات وتناقضها، فنادى الإصلاحي الديني باستعادة الشريعة الإسلامية في التنظيم والعدل والسياسة، فيما رأى الإصلاحي الليبرالي أن اقتباس مبادئ الحضارة الأوروبية وقيمها السياسية والاجتماعية هو السبيل الأنجع لتجاوز محنة التأخر التاريخي والاندارج في نهضة العالم الحديثة.
وفي مقابل هذين الموقفين المتضادين خرج الإصلاحي التوفيقي الذي نادى إلى التوفيق بين الحضارتين الغربية والعربية الإسلامية بالطريقة التي تلائمنا وتفيدنا والتي لا تتناقض مع المسلمات الإيمانية والمثل الأخلاقية، وقد استمر هذا الجدل على مدى السنوات المقبلة بصور وأشكال مختلفة، فنادى القومي العربي إلى ضرورة التوجه نحو مشروع الوحدة القومية العربية كقاعدة أساسية لتحقيق قيم الحرية والتقدم والتنمية والاشتراكية، في حين رفع الاشتراكي العربي شعار “الاشتراكية أولًا” مبررًا ذلك بأن الطبقة العاملة هي وحدها المهيأة لتحقيق كل التحولات التقدمية المرجوة، وما لم تنتصر هذه الطبقة وتتسلم قيادة المجتمع فسيبقى العالم العربي محكومًا بأنظمة الاستبداد والفساد، أما العلماني فربط بين علمنة المجتمعات العربية وأي تقدم يمكن أن تشهده هذه المجتمعات، بحيث إن المساواة السياسية وعدم التمييز في الحقوق بين المواطنين هي الأدوات الوحيدة التي ستخرج المجتمع العربي من وحل الصراعات والعصبيات وترتقي به إلى إنشاء دولة مدنية.
أدت نكسة حزيران عام 1967م إلى انتكاس الخطاب الفكري العربي، فقد كان لهذا الحدث التاريخي أثرًا كبيرًا على الفكر العربي والإسلامي المعاصر وأعاد إنتاج إشكاليات عديدة في الخطاب والوعي العربي، وعبر محمد جابر الأنصاري عن تأثير الهزيمة في الخطاب العربي بأنها وضعته “تحت الحصار”.
ارتبط التراجع والانكسار الحداثي إلى حد بعيد بانكسار المشروع القومي نفسه خصوصًا بعد هزيمة 1967م، وإذا كان الخطاب الفكري العربي النهضوي قد بدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم، فإن هذا الخطاب قد دخل في مأزق من الصعب الخروج منه في ظل المعطيات القائمة، وفي ظل انكسار التوازن بين العرب من جانب والغرب المتفوق من جانب آخر.
ختامًا، فإن المعطيات القائمة والسياقات التاريخية والمفاهيمية المرتبطة بالخطاب الفكري العربي تدفع باتجاه افتراض أن الخطاب الفكري العربي النهضوي ليس حداثيًا وإنما على صراع مع ما يمكن تسميته بحداثي لأنه يعاني من تناقض على مستوى الصياغة والبناء ثم على مستوى الهيكل العام.