لا حديث في تونس هذه الأيام إلا عن المبادرة التي أعلن عنها رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي حول دعوته لتشكيل حكومة وحدة وطنية تساهم في الخروج بالبلاد من الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الصعب الذي تعيشه خصوصًا مع مؤشرات الفشل الواضحة على الحكومة الحالية رغم تسلمها سدة الحكم منذ مدة طويلة.
فمنذ إعلان الباجي قايد السبسي عن هذه المبادرة في حوار إعلامي حتى أصبح الاسم الذي ستوكل له مهمة تكوين هذه الحكومة محور حديث التونسيين الأساسي رغم مشاغلهم الرمضانية المتعددة، ومنذ تلك اللحظة أصبحنا نرى أفواج السياسيين يحجون إلى قصر قرطاج الذي أصبح القبلة الأولى هذه الأيام لمعظم السياسيين التونسيين أملاً في لقاء الرئيس ونيل رضاه وأخذ نصيب أحزابهم من هاته الكعكة.
ورغم أن الأصل في السياسة يقول بأن الدعوة إلى حكومة وحدة وطنية يكون جرس إنذار في العادة حول المرحلة التي وصل إليها البلد والحاجة الملحة لتوحد كافة السياسيين والأحزاب وجمع شمل جميع الأطياف السياسية في حكومة توحدهم أمام نداء الوطن وتعمل على تحقيق نتائج سريعة تساهم في طمأنة الشعب وتهدئة الأوضاع، إلا أن الواقع في تونس يختلف عن هذا الأصل تمامًا.
فما إن أعلن رئيس الجمهورية عن مبادرته حتى تحولت حكومة الوحدة الوطنية المزمع إنشائها إلى حكومة تفرقة ومحاصصة حزبية حتى قبل اختيار اسم الشخص الذي سيدعى لتكوينها، لتتدافع الأحزاب جميعًا من الائتلاف الحكومي الحالي ومن المعارضة إلى محاولة أخذ نصيبها من هاته الحكومة إما عبر مرشحها للرئاسة أو حول عدد الحقائب الوزارية التي ستمنح لها أو حتى للدعوة لتغيير التحالفات الحزبية وإشراكها في هذه الحكومة.
وقد مثل الاسم الذي سيكلف بشرف تكوين حكومة الوحدة الوطنية أكثر القضايا التي أظهرت سعي الأحزاب والسياسيين إلى أخذ نصيبها منذ البداية، فتعددت المواقف والتصريحات حول مواقف هاته الأحزاب من إقالة أو استقالة رئيس الحكومة الحالي الحبيب الصيد وتعويضه باسم آخر لتكوين الحكومة أو دعوته لتكوين حكومة جديدة رغم ما يعتبره البعض فشلاً في اختياراته للحكومة السابقة، فحتى داخل الائتلاف الحكومي الذي يجمع الأربعة أحزاب الأولى في تونس، فقد تعددت المواقف وأظهرت ضبابية كبيرة واختلاف مصالح رغم أن الحكومة السابقة كانت تجمع هذا الرباعي المتكون من أحزاب نداء تونس والنهضة وآفاق تونس والاتحاد الوطني الحر.
فداخل الحزب الحاكم والحزب الأول في تونس نداء تونس تعددت الشقوق حول مواقف قيادات الحزب من بقاء الحبيب الصيد من عدمه، فبعد نفي العديد من القيادات دعوتها لاستقالة الحبيب الصيد وقولها بأنه من الممكن حتى أن يقوم هو مرة أخرى بتكوين حكومة وحدة وطنية، خرجت قيادات أخرى لتكشف عن اسم وزير المالية الحالي في تونس سليم شاكر كمرشح الحزب لتكوين الحكومة، وهو مثل محور لغط كبير داخل هذا الحزب الذي لا تقف الصراعات عن الاشتعال داخله، مع تأكيد بعض التسريبات من داخل الحزب أن اسم سليم شاكر ليس سوى الاسم الذي اقترحه نجل الرئيس الحالي حافظ قايد السبسي والذي أوهم به رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في لقاء سري بأنه يمثل أيضًا مرشح السبسي المفضل لتشكيل الحكومة وهو الذي لم ينل في الحقيقة حتى الإجماع داخل حزب نداء تونس.
أما داخل حركة النهضة فلا موقف معلن ولا موقف واضح وذلك إحدى عادات الحركة المفضلة، فرئيس الحركة راشد الغنوشي أبدى ترحيبه بمبادرة حكومة الوحدة الوطنية لكنه لم يتحدث مطلقًا عن التخلي عن الحبيب الصيد، بل أكد أن الحركة ستظل داعمة لحكومته، فيما اختلفت آراء القيادات الأخرى بين متحدث عن وجوب إقالة الصيد وبين مؤكد على عدم تخلي النهضة عنه، ليضاف إلى ذلك ما تروجه المصادر القريبة من الحركة حول عدد من الأسماء التي تدعمها الحركة لتكوين حكومة وأبرزها السياسي المخضرم أحمد نجيب الشابي، أما الحزبان الآخران في الائتلاف الحاكم وهما آفاق تونس والاتحاد الوطني الحر فقد أعلنا دعمهما لمبادرة السبسي لكن دون تحديد موقفهما من إقالة الحبيب الصيد من عدمها ومعتبرين أن ذلك يبقى بيد القوى السياسية الأكثر تمثيلاً في البرلمان.
من جهتها وحدت أحزاب المعارضة مواقفها هذه المرة وأعربت عن استعدادها للمشاركة في هذه الحكومة شريطة أن تتوفر بعض الضوابط والشروط بل تجاوزت ذلك إلى مرحلة صياغة برنامج مشترك يتضمن الأولويات التي يجب معالجتها ومحاولة تقريب وجهات النظر والمواقف بخصوصها مع المنظمات الوطنية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، رغم أنها اعتبرت في البداية أن هذه المبادرة تكشف عن فشل الائتلاف الحكومي في الخروج بالبلاد من أزمتها ودعت رئيس الجمهورية إلى عدم تحميل الآخرين مسؤولية الأخطاء التي ارتكبها هو وحلفاؤه، وهو ما يكشف عن تغير كبير في مواقف المعارضة من هذه المبادرة.
ليس غريبًا أن يكون تعامل كل القوى السياسية في تونس مع هذه المبادرة التي أعلن عنها رئيس الجمهورية بهذه الشاكلة، وهي التي عودتنا طويلاً بعد الثورة بسعيها الدؤوب إلى تغليب مصالحها الحزبية على المصالح الوطنية التي تقتضي الظروف أن تكون الأهم خصوصًا في هذه الفترة الصعبة من تاريخ البلاد، إلا أن أحزابنا في تونس تتغير فيها كل الأشياء إلا صفة الانتهازية التي يتبناها قادة هاته الأحزاب، حيث يعمدون دائمًا إلى محاولة استغلال كل الفرص المتاحة من أجل الركوب على الموجة وأخذ نصيبهم من الكراسي التي طالما أغرتهم، وهو ما جعل كل الحكومات بعد الثورة تفشل في أن تكون موحدة للتونسيين بسبب قيامها على المحاصصة وعلى تغليب المصالح الشخصية والحزبية، وبسبب سعي كل الأحزاب للمشاركة في هاته الحكومات فقط من أجل المشاركة دون برامج واضحة ولا استراتيجيات ولا حتى الاتفاق على نقاط أساسية للعمل عليها.
ويبدو أن الحال لن يتغير هذه المرة أيضًا وأن هذه الحكومة ستكون مثل سابقاتها في الفشل حيث لا يستقيم الظل والعود أعوج، خصوصًا أن كل الحكومات السابقة شهدت هاته المهاترات والانقسامات والتجاذبات التي تسبق تكوين هذه الحكومة وهو ما جعلها تلد ميتة ولا تقدر على تجاوز الحسابات الضيقة التي بنيت عليها، ومهما طال أمد بقائها فإنها تكشف عن الخور الذي يدور داخلها وسرعان ما تسقط، وهو ما ينبئ بأن هذه الحكومة أيضًا ستكون فقط مجرد مسكن وقتي سرعان ما سينتهي مفعوله، وسرعان ما ستعود الأحزاب إلى نقطة الصفر التي طالما انطلقت منها وهي السعي إلى أخذ نصيبها من الكعكة القادمة مرة أخرى.