لم يعد من الكافي وصف طبيعة تطورات الوضع السياسي في تركيا بـ”غير الطبيعية”. لقد قام حزب العدالة والتنمية بتغيير رئيسه بجانب تعديل كبير في مكونات أماكن صنع القرار في الحزب. علاوة على ذلك، فقد شكل رئيس الحزب الجديد، الذي أصبح بالتالي رئيساً للوزراء، حكومة جديدة بتغييرات وزارية كبيرة. حدث كل ذلك في فترة قصيرة جداً من الوقت ودون إحداث الكثير من الضوضاء.
تعين على “أحمد داوود أوغلو”، رئيس الوزراء الناجح والمحبوب، الذي حصل مؤخراً في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على 49.5% من الأصوات في الانتخابات، أن يغادر موقعه دون أن يقدم هو أو حزبه سبباً مقنعاً لذلك. حتى وإن سجل استياءه من إجباره على الرحيل بقوله أن مغادرته لم تكن باختياره، ما أدى إلى جدل واسع بين العامة، إلا أن رحيله مضى نسبياً بسلاسة ولم يسبب أية اضطرابات كبيرة داخل الحزب. وتم اختيار وزير النقل السابق وصديق “أردوغان” منذ وقت طويل، “بن علي يلدريم”، لكلا المنصبين في مؤتمر الحزب الاستثنائي الثاني بسهولة. وخلال كل تلك الخطوات المتسارعة، ظل “أردوغان” هو صانع القرار في نهاية الأمر.
بديل من الداخل
شدد “أوغلو” بشكل متكرر على أن مغادرته لمنصب رئيس الوزراء لا يعني انتهاء مهمته السياسية، بل على العكس، لقد تعهد بمتابعة رحلته السياسية. ويظهر من أسلوب الرجل وبياناته أنه حريص وعاقد العزم للحفاظ على العلاقة الطيبة مع القاعدة الإجتماعية لحزب العدالة والتنمية بينما يحاول نقش أسلوب خاص وفريد وحجز مكان لنفسه بين القيادة العليا والنخبة. بكلمات أخرى، يريد “أوغلو” أن يمثل صوتاً مختلفاً، وحتى سياسات مختلفة، عن هؤلاء الذين كانوا في المكان في السنوات الأخيرة، بينما يظل تحت المظلة السياسية لحزب العدالة والتنمية، وهذا ما يسمى “بديلاً من الداخل”.
السؤال هنا، كيف سيرى الناخبون “داوود أوغلو” من جديد في دائرة الضوء السياسية؟ للإجابة على هذا السؤال سيتحتم علينا الانتظار لنرى كيف ستتطور السياسة التركية من هذه النقطة. إذا نجح “أردوغان” في تغيير النظام السياسي التركي من النظام البرلماني إلى الرئاسي، فمن غير المحتمل أن يكون هناك بحثاً عن صوت جديد أو أسلوب جديد من السياسيات داخل حزب العدالة والتنمية، ولا سيما على المدى القصير. أما إذا فشل الحزب في مسعاه، فمن المحتمل أن يحدث مثل هذا البحث.
قبل التفكير في سيناريوهات المستقبل، توجد قضايا أخرى ملحة للتعامل معها. ماذا يعني ذلك الحراك والتغيير بالنسبة لحزب العدالة والتنمية؟ ما هو الشكل السياسي الذي يبدو أن “أردوغان” يجهز من أجله؟.
كان حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه أكثر من مجرد حزب، لقد كان حركة شملت حزباً بداخلها. وأحد أسباب عدم ظهور هذا الفصل بين الاثنين أن “أردوغان” كان في السابق هو زعيم الاثنين، الحزب والحركة، لكن بمجرد انتخاب “أردوغان” رئيساً لتركيا وأصبح ملزماً بشكل دستوري بقطع علاقاته مع أي حزب سياسي، ظهر هذا الاختلاف على السطح. أصبح “داوود أوغلو” رئيساً للحزب ولمجلس الوزراء، لكن “أردوغان” ظل يمثل شخصية الزعيم بالنسبة للقاعدة الاجتماعية العريضة للإسلام المحافظ في تركيا. أظهر ذلك مركزين للقوى: الأول كان قانونياً ودستورياً ويتمثل في “داوود أوغلو”، والآخر كان اجتماعياً وسياسياً متمثلاً في “أردوغان”. لم يكن “أردوغان” على استعداد للتخلي عن زعامته الاجتماعية والسياسية للقاعدة الاجتماعية والكوادر السياسية للحزب، ولم يكن “أوغلو” مستعداً للتخلي عن سلطته القانونية والدستورية.
ظل التحدي في كيفية إدارة هذا الوضع المختلف مع الحفاظ على التماسك السياسي للحزب، وتعزيز دعمه العام. ويبدو أن حزب العدالة والتنمية و”أردوغان” قد وصلا للاستنتاجات التالية أثناء نقل قيادة الحزب منه إلى “أوغلو”:
أولاً: لابد من وجود رئيس وزراء قوي لتعزيز الدعم العام للحزب ونجاحه الانتخابي. وبالرغم من القدوم من نفس الخلفية السياسية، إلا أنّ رئيس وزراء قوي يعني بطبيعة الحال أنه يملك رؤيته وقناعاته السياسية.
ثانياً: يحتاج الحزب للتأكد من أن هذا الاختلاف في الأسلوب والسياسات لن يبلغ ذروته ليؤدي في النهاية لتفتيت الحزب، والقطاع الأكبر من الإسلام المحافظ في المجتمع.
يمكن للمرء أن يجادل بشكل معقول أن “داوود أوغلو” سعى بجد للنجاح في كلا الحسابين. لقد مثل صوتاً جديداً، بتعبيره الخاص، وسياساته وأسلوبه السياسي، لكنه سعى بجد أيضاً للتأكد أن هذا الاختلاف في الأسلوب والسياسات لن يؤدي إلى أي تمزق داخل الحزب. من الاستفادة من التجارب السابقة، يبدو أنه قد نجح في النقطة الأخيرة على مستوى القاعدة الاجتماعية للحزب أكثر مما فعل فيما بين النخبة.
ساعد هذان العاملان في النظر إلى “أوغلو” كرئيس مخلص للحزب ولمجلس الوزراء من قبل الكثيرين. ويبدو أن القاعدة الاجتماعية للحزب قد قدرت موقفه تقديراً جليلاً، حيث كانت شعبيته عالية. فقد أعلن دعمه لتغيير النظام السياسي في تركيا، وتحدث بشكل عام أنه على نفس الخط مع “أردوغان” فيما يخص معظم القضايا السياسية الأخرى. على الرغم من ذلك، لم يكن دعمه دون شروط. ويبدو أن “أردوغان” وقطاع من نخبة حزب العدالة والتنمية قد اعتبر هذه المشروطية مقرونة بالشعبية العالية لـ”داوود أوغلو” بمثابة تفاوت متنامي في الرؤى السياسية التي من المحتمل أن تثبت أقدامها داخل الحزب. ويظهر أن هذه القراءة قد لعبت الدور الرئيسي في إزاحة “داوود أوغلو”.
خلطة جديدة
ويبدو، بعد تجربة إزاحة “أوغلو”، أن الحزب وأردوغان قد غيرا من سياستهما. لقد تم تغيير الخلطة السياسية من رئيس قوي مع رئيس وزراء قوي إلى خلطة أخرى تحوي رئيساً قوياً مع رئيس وزراء تكنوقراط. سيكون “يلدريم”، رئيس الوزراء الجديد، تكنوقراطي أكثر ولاءً، ويبدو أنه سيترك القضايا السياسية الهامة داخلياً وخارجياً لـ”أردوغان”. وبالإضافة لهذا المستوى من الإلتزام الشخصي، فقد أعاد “أردوغان” تشكيل الكيانات الداخلية الأكثر قوة في الحزب، وعين وزراء جدد الذين من المفترض أن يسمحوا له بسيطرة هيكلية على كلاً من الحزب والحكم. أسست هذه العوامل لممارسة واقعية للنظام الرئاسي/نصف الرئاسي في تركيا، في حالة ما إذا فشلت الحكومة في تغيير النظام السياسي دستورياً.
الفصل بين مناصب الحزب والمناصب الوزارية
أحد التطورات الهامة التي حدثت نتيجة إعادة تشكيل الحكومة هو الفصل بين مناصب الحزب والمناصب الوزارية. في مجلس الوزراء السابق كان الأغلب العام، وإن لم يكن الكل، من الوزراء يشغلون مناصب في المجلس المركزي التنفيذي، أرفع هيئة دائمة لصنع القرار في الحزب. لكنّ ذلك قد تغير، فمن بين 26 وزيرا باستثناء رئيس الوزراء، 5 هناك وزراء فقط يشغلون مناصب بالمجلس المركزي التنفيذي. يأتي هذا متناقضاً مع تكوين كل الحكومات السابقة. وتأتي سمة أخرى لهذه الوزارة أن أغلب الوزراء من صغار السن الأقل شهرة الذين يرجع الفضل لـ”أردوغان” على معظمهم بالنسبة لحياتهم السياسية. ويمكن لعدد قليل منهم نسبياً أن يدّعي أن له تاريخاً سياسياً سابقاً بحزب العدالة والتنمية. ونتيجة أن أردوغان قد أتاح لهم تلك الفرص السياسية، فهم يقدرون أيضاً أنه كلما زادت القوة السياسية المركزية التي يتحصل عليها “أردوغان”، كلما سنحت لهم آفاق وظيفية أفضل في المستقبل. وهذه الصورة ،بغض النظر عن موقعه، تعطي “أردوغان” سلطة مطلقة على الحزب.
على الجانب الآخر، لقد تخطت تركيبة مجلس الوزراء، التي تم الإعلان عنها في 24 مايو/أيار، التوقعات. فهي تشكيلة من ذوي الخبرات وذات سيرة رفيعة المستوى نسبياً. وفوق ذلك، فمن الواضح أنها حكومة تكنوقراط وتهدف إلى تقديم الخدمات. بينما تضمن قيادة الحزب الصغيرة في السن نسبياً وذات الولاء لـ”أردوغان” من إحكام أردوغان لقبضته الكاملة على الحزب، كما أن هذه الحكومة قد تشكلت لضمان استمرار وتعزيز الدعم العام للحزب.
الأيدلوجية والرؤية ضد النجاح الإنتخابي
بالنظر إلى أن “داوود أوغلو” كان رقماً رئيسياً في معادلة الرؤية السياسية والنزعة الأيدلوجية لحزب العدالة والتنمية، ولا سيما بخصوص السياسة الخارجية، فلا يمكن أن يدرس رحيل “أوغلو” بشكل منفرد من خلال التنقل بين مصطلحات السلطة، فهذا الرحيل ينبني عليه أيضاً بعض العواقب على الرؤية السياسية للحزب. وإذا تحدثنا بشكل عام، فإنّ كل الأحزاب السياسية تكتسب شرعيتها من رؤيتها السياسية وأيدلوجيتها وأدائها السياسي.
يستمد حزب العدالة والتنمية الجزء الأكبر من شرعيته من كلاً من نجاحاته الانتخابية ورؤيته التصورية لمستقبل تركيا. لقد عنى ذلك أشياء مختلفة لمجموعات مختلفة. على سبيل المثال، بينما رأى الأكراد هذه الرؤية كتعزيز لحقوقهم السياسية والثقافية، من الممكن لشخص متدين أن يفسرها كتوسع في حدود الحريات الدينية. ولوقت طويل، خدم حزب العدالة والتنمية الاتجاهين، فقد أدى بشكل ناجح في كل الانتخابات المتعاقبة بينما يقوم بإشباع الطموحات السياسية المتنوعة لقاعدته السياسية.
على الرغم من ذلك، وفي السنوات الأخيرة، طغت النجاحات الانتخابية لحزب العدالة والتنمية على رؤيته السياسية كعامل رئيسي في إضفاء الشرعية بين القاعدة السياسية والاجتماعية الواسعة التي تلتف حول الحزب. وإذا نظرنا إلى التخفيض الدرامي في عدد الرموز السياسية البارزة الذين يمثلون الرؤية السياسية السابقة للحزب من الهيئات الإدارية للحزب وزيادة الطبيعة التكنوقراطية في مجلس الوزراء، فإن كلا الأمرين يثبت هذا الإتجاه. ويبدو أن النجاح الانتخابي قد أصبح عامل الجذب لداعمي الحزب أكثر من رؤيته السياسية.
ترجع أفضلية حزب العدالة والتنمية أن قاعدته متحركة وتسعى للتقدم الإجتماعي والإقتصادي. في الوقت نفسه، فإنّ الأحزاب المنافسة في طور الاحتضار، ولا تستطيع إقناع نفس الناس بأنها الأقدر على خدمة رغبتهم في التقدم الإجتماعي والإقتصادي. وبالنسبة لهؤلاء المصوتين، فإنّ “أردوغان” يمثل تجسيداً لهذا التقدم الإجتماعي والإقتصادي، ويرون أن دوره حيوياً في استمرار هذا الإتجاه، لكن دعمهم ليس بدون شروط. فلدى حزب العدالة والتنمية كتلة كبيرة من المصوتين الذين يصوتون من خلال الأداء، من المحتمل أن تصل نسبتهم من 20 إلى 25% من دائرة أصوات الحزب. وتأرجح نسبة التصويت للحزب (من 40.7% تقريباً في انتخابات 7 يونيو/حزيران إلى 49.5% في انتخابات 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على التوالي) ومستوى الدعم (الذي يصل لحوالي 40%) الذي توجد المؤسسات الإحصائية أنهم يؤيدون تغيير النظام السياسي في تركيا، يمثل ذلك بصورة أو بأخرى الحجم العام لهذه القاعدة. وتطلب هذه القاعدة تفسيرات وتتوقع حجج مقنعة من الطبقة السياسية التي تدعمها. سيظل التساؤل حول السبب المنطقي لـ”رحيل أوغلو” يتردد وخصوصاً من قبل هؤلاء المصوتين. ويحتاج حزب العدالة والتنمية، بصورة أو بأخرى، إلى إرضائهم من خلال خطابه وسياساته.
المصدر: جيرمان مارشال فاند – ترجمة: الخليج الجديد