بالرغم مما قيل عنها إنها دولة نامية، تعاني من مثلث (الفقر – الجوع – الجهل) إلا أنها نجحت في أقل من عشر سنوات في تخطي كل هذه العقبات، لتفرض نفسها على الساحة الدولية كواحدة من أهم الاقتصاديات العالمية لاسيما في مجال التكنولوجيا والبتروكيماويات.
لم تكتف الهند بهذا التفوق على المستوى الداخلي فحسب، بل تخطت حدودها، لتبحث عن موطئ قدم جديد لها خارج إطارها الجغرافي، حيث كانت أفريقيا أبرز محطاتها الخارجية، أسوة بمثيلاتها من القوى الدولية الأخرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن المنافس اللدود لها “الصين”.
“نون بوست” في هذه الإطلالة يتوقف عند أبرز ملامح الاستراتيجية الهندية في التوغل الإفريقي لاسيما في المجال الزراعي، والأهداف السياسية والاقتصادية التي تسعى لتحقيقها، وكيف تحولت القارة إلى ساحة صراع جديدة بين الخصمين الشقيقين (الهند والصين).
العلاقات الهندية – الإفريقية
تتميز العلاقات الهندية الإفريقية عبر تاريخها الطويل بالقوة والتاريخ المشترك، لاسيما فيما يتعلق بمسيرات النضال والتحرر من العبودية، ومناهضة الحركات الاستعمارية، حيث يعد الزعيم الهندى “المهاتما غاندى” الذي بدأ نضاله ضد احتلال الإمبراطورية البريطانية في جنوب إفريقيا الأب الروحي لكثير من الأفارقة.
وظلت العلاقات الهندية الإفريقية تحيا حالة من الجمود النسبي وبرود العلاقات لعقود طويلة، فتحت الباب خلالها للغول الصيني في فرض سيطرته على القارة، مما دفع الهند إلى إعادة النظر في سياساتها الخارجية تجاه القارة السمراء، ومن هنا كانت البداية.
يعد العام 2008م هو نقطة الانطلاق الحقيقية للهند نحو القارة الإفريقية، حيث انعقاد أول قمة هندية إفريقية في 8 و9 أبريل من هذا العام بمشاركة 15 رئيس دولة إفريقية لتضع نيودلهي أولى أقدامها في القارة، خاصة وأن هذه القمة جاءت بعد أقل من عام واحد فقط على القمة الأوروبية الإفريقية الثانية، وقبيل شهر واحد من انطلاق مؤتمر التنمية الإفريقية في اليابان.
ثم جاءت القمة الهندية – الإفريقية الثانية في 2015 بمشاركة أكثر من 40 رئيس دولة إفريقية لتضع الخيوط العريضة لحجم الاستثمارات الهندية داخل إفريقيا وهو ما تجسد في تجاوز حجم التجارة البينية بين الدولتين رقم 70 مليار دولار خلال 2014، تسعى نيودلهي إلى مضاعفته خلال العشر سنوات القادمة.
القمة الإفريقية الهندية في نيودلهي 2015
ويبقى السؤال: لماذا إفريقيا؟
لم يكن اختيار إفريقيا كوجهة جديدة للمارد الهندي اختيارًا عشوائيًا، بل هناك عدة دوافع – سياسية واقتصادية – بعضها معلن والآخر خفي وراء هذا الاختيار، فحين نعلم أن حجم سكان الهند سيصل خلال 2050 إلى مليار ونصف مواطن كان لا بد من البحث عن أسواق جديدة وزيادة عمليات التبادل التجاري وإيجاد فرص استثمارية متنوعة في الداخل والخارج، ومن ثم فلم تجد الهند أفضل من القارة “البكر اقتصاديًا” و”المتخمة ” بمواردها الاقتصادية المتنوعة لتكون الوجهة الجديدة لنيودلهي.
أضف إلى ذلك تراجع الأسواق المستوعبة لمنتجات الهند البترولية والكيماوية والجلدية والتكنولوجية، مما كان البحث عن سوق جديد لتصدير هذه المنتجات أمر في غاية الأهمية، وتعد إفريقيا من الأسواق الواعدة القادرة على استيعاب هذه البضائع لاسيما ومن المتوقع أن يصل حجم السوق الإفريقي خلال 2050 إلى مليارين ونصف إفريقي.
ومن ثم فالاستراتيجية الهندية تقوم على تقديم المساعدات لبعض دول إفريقيا من أجل الحصول على البترول، والإنفاق على برامج التنمية البشرية للأفارقة، لاسيما وأن هناك ما يقرب من 3 ملايين هندي مقيمين في إفريقيا.
أما سياسيًا، فكان اختيار الهند لإفريقيا كمحطة جديدة لها خارج حدودها الجغرافية، خطوة هامة نحو تحقيق الحلم الهندي في الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، حيث إن الحضور الإفريقي الدولي له ثقل كبير قادر على ترجيح كفة الهند حال الاتفاق على ذلك.
ولأجل هذا فقد اتخذت الإدارة السياسية في نيودلهي عددًا من الخطوات لتحقيق أهدافها بشقيها السياسي والاقتصادي، منها، دعم وتمويل عدد من المشروعات في المجالات الحساسة التي تركز على تنمية الموارد البشرية وبناء القدرات وقد تم اعتماد أكثر من خمسمائة مليون دولار في السنوات الخمس القادمة، كذلك مساعدة الدول الفقيرة في القارة من خلال تخفيف قيود الاستيراد الهندي، إضافة إلى زيادة الفرص الممنوحة للطلاب الأفارقة من أجل استكمال دراساتهم العليا في الهند من 1100 إلى 1600 متدرب سنويًا، على اعتبار أن هؤلاء سيشكلون جسر التواصل بين الجانبين بعد عودتهم إلى بلدانهم.
وبالرغم من المساعي الهندية والأهداف الاستراتيجية المخطط لها وآليات التنفيذ التي وضعتها لترجمة هذه الأهداف، إلا أن الطريق ليس ممهدًا كما يظن المتفائلون من الجانبين، فهناك عقبتان رئيسيتان قد تتسببا في عرقلة الهند عن تنفيذ أهدافها داخل القارة السمراء.
الأول: الرسوم الجمركية المرتفعة المفروضة من الهند على الواردات الرئيسية الإفريقية، مما تسبب في تراجع نسبة الصادرات الإفريقية لأسيا بصورة عامة، والتي وصلت إلى 1.6% من إجمالي الصادرات العالمية لآسيا، مما له أثر سيء على التواجد الهندي بإفريقيا.
الثاني: المنافسة الصينية، حيث تعد الصين المنافس الأول للهند في إفريقيا وأحد أبرز معوقات عرقلة نيودلهي عن بلوغ أهدافها، ويمكن الوقوف على حجم هذه المنافسة الشرسة من خلال عدد من المؤشرات، منها، حجم المعونات الصينية لإفريقيا، فالصين وعدت بتقديم عشرين مليار دولار لتمويل البنية الأساسية والتجارة في إفريقيا في السنوات الثلاث القادمة، في حين أن الهند تعهدت بتقديم مليار دولار فقط لدول غرب إفريقيا مقابل الحصول على البترول، كما تعهدت الصين بمضاعفة مساعداتها للقارة السمراء في الفترة القادمة، وإسقاط الديون المستحقة عن 31 دولة (أي أكثر من 58%) والتي تقدر بملياري دولار، إضافة إلى ارتفاع حجم التبادل التجاري الصيني مع إفريقيا، والذي وصل إلى 200 مليار دولار، حيث تعد الصين ثالث أكبر شريك تجاري مع إفريقيا، وبلغ حجم هذا التبادل ضعف حجم التبادل الهندي الذي يقدر بثلاثين مليار دولار.
وبالرغم من نجاح الهند في التصدي للعقبة الأولى، ومحاولة التغلب عليها من خلال تخفيض الرسوم الجمركية على صادرات بعض الدول الإفريقية الفقيرة، إلا أنها لازالت تعاني من العقبة الثانية لاسيما وأن المارد الصيني يسير بخطوات ثابتة في التوغل داخل أدغال القارة السمراء.
200 مليار دولار حجم التجارة البينية بين الصين وإفريقيا
الاستثمارات الزراعية: بوابة الدخول الإفريقية
قد يتوهم البعض أن رقم الـ 70 مليار دولار حجم التجارة البينية بين الهند وإفريقيا رقمًا كبيرًا إذا ما قورن بدولة مثل مصر مثلاً وهي عضوه في اتحاد الكوميسا، ولم يتجاوزوز حجم التجارة بينها وبين دول القارة حاجز الـ 800 مليون دولار، إلا أن الإدارة السياسية في نيودلهي كان لها رأي آخر، إذ نظرت إلى هذا الرقم كونه لا يتناسب مع طموحات الدولة الصاعدة اقتصاديًا، خاصة إذا ما علمنا أن حجم التجارة بين الصين والقارة تجاوز حد الـ 200 مليار دولار، وهو ما دفع الهند إلى البحث عن فرص استثمارية جديدة تساعدها في اللحاق بركب خصمها اللدود وجارتها المشاغبة.
صحيفة “ذا إيكونوميك تايمز” الهندية نشرت في تقرير لها أن القطاع الزراعي في إفريقيا يعد من المجالات الحيوية التي من الممكن أن تستوعب حجمًا هائلاً من الاستثمارات بحلول عام 2030، وذلك بسبب الإمكانات الاقتصادية الكبيرة في هذا المجال.
الصحيفة الهندية ناشدت الحكومة في نيودلهي بإعادة النظر في تحركاتها الاستثمارية الإفريقية، حيث أشارت إلى أن الاستثمار في مجال الزراعة في إفريقيا فرصة جيدة لتوسع الشركات هناك، مطالبة التركيز في الخطط الاستثمارية الزراعية على بعض الدول الإفريقية مثل زامبيا وبوتسوانا وتنزانيا وجنوب إفريقيا التي تقع جميعها في منطقة الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي (سادك)، كما أن بنك الاستيراد والتصدير الهندي أصبح حريصًا على توجيه المزيد من الاستثمارات الهندية إلى منطقة الاتحاد الإفريقي، ويبدو أن المزيد من التركيز سيتعين على وضع الزراعة والصناعات الزراعية.
فهل تنجح الهند في تحويل دفة حضورها الإفريقي من مدارات التكنولوجيا والبتروكيماويات إلى الاستثمارات الزراعية لتحقيق العائد المطلوب – اقتصاديًا وسياسيًا -؟ وهل يمكنها تخطي تلك العقبات التي تواجهها لاسيما المنافسة الشديدة من قبل الغول الصيني؟ هذا ما ستكشف عنه السنوات الخمس المقبلة.