مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تحمل في طياتها عدة وجهات نظر، وهي صحيحة في مجملها عند الجانبين: الداعي للخروج والمؤيد للبقاء.
وإن كانت آراء السياسيين تتميز عادةً بالديماغوجية لدعم مقترحاتهم، وتمرير أجنداتهم بتركيزهم على الجانب الاقتصادي، فإن قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تبدو أكثر تعقيدًا من مجرد مخلفات اقتصادية، متعلقة بالموازنة والتبادل الحر ستجني بريطانيا خسائرها أم مكاسبها، فالقضية في عمقها الاستراتيجي، لا تتوقف على الجوانب الاقتصادية فقط، بل تتعداه إلى جوانب أخرى تاريخية وسياسية وثقافية.
وبعيدًا عن الجانب الاقتصادي، توجد جوانب أخرى تبدو ذات أهمية عند العقل البريطاني، الذي لا يريد أن يكون مجرد رقم عادي في معادلة أوروبية كل قرارتها تأتي من بروكسيل بتوافق فرنسي – ألماني، وهذا ما جعل ديفيد كاميرون – في مرحلة أولى قبل تغيير وجهة نظره بعد إصلاحات الاتحاد الأوروبي – يتلمس ذلك ويتحرك مطالبًا بوضع خاص ومترأسًا بنفسه (في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2015) حملة لإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مهددًا بالانسحاب في حال عدم تحقق مطالبه الداعية إلى إعطاء بريطانيا دور أكبر داخل الاتحاد الأوروبي، وعدم التمييز بين دول منطقة اليورو وغيرها.
فالمعروف عن بريطانيا أنها ليست على توافق سياسي تام مع دول الجنوب الأوروبي المتوسطية، والتي تُعتبر المستفيد الأول من فكرة الاتحاد الأوروبي، أمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، ونذكر هنا بالأخص فرنسا، التي تعتبر المُسير الفعلي للاتحاد الأوروبي، والدور الذي تلعبه داخله قد يفوق أحيانًا حتى دور ألمانيا المُنكسرة عسكريًا وسياسيًا منذ خسارتها الحرب العالمية الثانية، وهذا الدور الفرنسي يبدو مزعجًا للعقل البريطاني الذي لا يريد أن يعود إلى أحد أهم العوامل التي تسببت في إشعال شرارة حرب “المائة عام” (1337-1453)، والتي قامت بسبب مطالب بريطانية بوجوب التخلص من التبعية السياسية والاقتصادية لفرنسا.
كما أن فكرة تأسيس الاتحاد الأوروبي تعود للفرنسي جان موني، والذي وضع أساساتها على أرض الواقع هو الفرنسي روبرت شومان، ولا تعود فِكرتها لوينستون تشرشل كما يتم تداوله عادة، فتشرشل هو مؤسس “مجلس أوروبا” والذي لا يندرج ضمن برامج الاتحاد الأوروبي، بل يعتبر تجمع أوروبي للدفاع عن الحقوق الإنسانية والمسائل القانونية، وليس له علاقة بالشؤون الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية، كما هو الحال بالنسبة الاتحاد الأوروبي.
وجاءت تصريحات الرئيس الفرنسي شارل ديغول الرافضة لانضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي لتزيد العلاقات بين بريطانيا وفرنسا وأوروبا توترًا، ما جعل جزءًا كبيرًا من الساسة البريطانيين لا يؤيدون منذ البداية فكرة التوحد مع أوروبا، وهذه الرؤية القديمة في التوجه نراها مستمرة اليوم عند عدد كبير من السياسيين البريطانيين، كرئيس بلدية لندن السابق بوريس جونسون، حينما صرح في مقابلة صحفية بشهر مايو/ أيار 2016 “أن الاتحاد الأوروبي يسير على خطى أدولف هتلر ونابليون بونابرت في سعيه لتشكيل دولة أوروبية كبرى”، ويُعتبر بوريس جونسون أحد أهم الأصوات الداعية للخروج من أوروبا، وأهمها مناهضة للتحولات في توجهات ديفيد كاميرون إلى المعسكر المؤيد للبقاء بعد الإصلاحات، التي توصل إليها مع الاتحاد الأوروبي في فبراير/ شباط الماضي، وهذه التوجهات لم تشفع لكاميرون لا داخل محيطه في الحزب المحافظ ولا داخل حكومته، اللذان انقسما بين مؤيدٍ للإصلاحات ومعارضًا لها، ولا عند حزب الاستقلال وزعيمه نايجل فاراج والذي صرح أن إصلاحات “كاميرون – أوروبا” تدعو للشفقة.
كما أن صديق القضية الفلسطينية جورج غالاوي وهو نائب سابق، وعضو حزب العمال سابقًا، قبل أن يتم فصله بتهمة الإساءة لسمعة الحزب بعد انتقاداته للحرب التي قادها توني بلير في العراق، له أراء تدعم فكرة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويُعتبر من أبرز المعارضين لسياسات بروكسل، في حين يقف رئيس الوزراء السابق توني بلير مع فكرة البقاء داخل الاتحاد الأوروبي.
كما أن الأطراف الدولية، ومن خلال تصريح معظم ساساتها (العلنية على الأقل) في العالم، تبدو أنها تقف مع فكرة بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، ونذكر هنا فرنسا وألمانيا والسويد والولايات المتحدة واليابان، ومؤخرًا انضمت لهذه الكوكبة دولة روسيا من خلال تصريحات المستشار الاقتصادي للكرملين أندري بيلوسوف – الذي كانت تصريحاته صارمة في السابق عند الرد على عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا -، عندما أعلن بتاريخ 17 يونيو/ حزيران الحالي أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوف تكون له أضرار على روسيا كذلك.
في حين، صرح السفير الروسي في بريطانيا ألكسندر ياكوفينكو، بتاريخ 16 يونيو/ حزيران الحالي، أن روسيا مستعدة لتقبل أي نتيجة لاستفتاء البريكسيت مهما كانت، ويبدو أن المستفيد (الحكومي والرسمي) الوحيد – على الأقل المُعلن – من خروج بريطانيا إلى غاية الآن، هي دولة سويسرا ومصارفها، التي ستستفيد من تدفق الأموال الأوروبية كما صرح – بدون حيادية هذه المرة – رئيس جمعية المصارف الخاصة السويسرية غريغوار بوردييه بتاريخ 10 يونيو/ حزيران الحالي.
ويتوافق في ذلك – في الجانب غير الرسمي – مع أفكار مؤسس منظمة كشف الفساد “ويكيليكس” جوليان أسانج، الذي يؤيد بقوة فكرة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بسبب سياسات أوروبا القانونية التي عرقلت استقلالية العدالة البريطانية، مما تسبب بالمطالبة بمحاكمته، وبقائه محتجزًا داخل سفارة الإكوادور بلندن.
كما سيزداد الاستفتاء تعقيدًا الآن مع الصدمة التي أَطلق عليها ديفيد كاميرون “المأسّاة”، بعد مقتل الناشطة العمالية والنائبة في البرلمان جو كوكس والتي يبدو أنها ذهبت ضحية لأفكارها المناهضة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وزادت الشرطة البريطانية الطين بلة، في الطريقة التي تعاملت بها مع القضية من خلال رفضها مناقشة الدوافع المحتملة وراء الحادثة رغم التأكيدات عن وجود ارتباط (أو على الأقل تعاطف) بين الجاني طومي ماير وجماعات يمينية متطرفة.
ويبدو أن أسبوع بريطانيا والعالم سيكون ساخنًا قبل هذا الاستفتاء التاريخي الذي سيُنظم يوم الخميس 23 يونيو/ حزيران المقبل، وإن لم يتأكد بعد وبصورة رسمية إجرائه إلى غاية اللحظة، وذلك بسبب بعض الأصوات الضاغطة والمُطالِبة بتأجيله إلى تاريخ آخر بعد مقتل النائبة جو كوكس، ويبدو أن نتائج هذا الاستفتاء سيكون مفتوحًا على كل الاحتمالات.