شهدت الحالة السياسية المصرية في الأشهر الأخيرة، تحولاً مهمًّا في هيكلية الأطراف الفاعلة والمتدافعة فيما بينها، وبالتالي في بُنية الصراعات الداخلية.
وملخص الصورة في الوقت الراهن، هو أن نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بمؤسساته وأطرافه وشخوصه، يخوض آخر ولعله أخطر صراعاته لتوطيد دعائم حكمه، وذلك في مواجهة لن نقول بقايا نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، وإنما هو نظام متكامل يملك الكثير من مفاتيح القوة والتأثير.
ولقد جاءت الأحكام الأخيرة فيما يُعرف إعلاميًّا بقضية “التخابر مع قطر”، والتي حُكِم فيها على الدكتور محمد مرسي، بحكمَيْن، أحدهما بالمؤبد والآخر 15 عامًا، مع تأكيد الحكم بالإعدام على ستة من رموز الإخوان المسلمين، وفتور ردود الفعل السياسية الداخلية والخارجية، بل وفتور رد الفعل من جانب الإخوان أنفسهم، ليطرح المزيد من التساؤلات حول موضع الإخوان من هذه المعادلة الصراعية التي بدأت تتزايد في الحالة السياسية المصرية.
وفتور ردة فعل الإخوان، هذه ملاحظة الـ “فرانس 24” و”بي. بي. سي”، ووسائل إعلام دولية أخرى وليست ملاحظتي الشخصية، لدرجة أن الـ “فرانس 24” تساءلت: أين الإخوان المسلمين من هذا الذي جرى، بينما لم تجد هيئة الإذاعة البريطانية شخصية إخوانية كبيرة تعقب على الفور على الحكم.
وهذا ليس استطرادًا في غير محله، وإنما له دلالة مهمة في الغرض الرئيسي الذي نناقشه في هذا الموضع؛ حيث إنه يؤكد أن المعادلة السياسية الراهنة في مصر، إنما باتت تنحصر، وبشكلٍ أخذ شكلاً صريحًا في المجال الإعلامي، بين نظام السيسي الذي يستند بشكل كامل إلى دعم المؤسسة العسكرية وقسم كبير من الدولة، بعد أن أحكم سيطرته على الجهاز البيروقراطي للدولة، وجهاز الشرطة (إلا قليلاً)، والإعلام الرسمي، ومفاصل أخرى مهمة في الدولة، وبين نظام مبارك، الذي لا يزال يملك الكثير من النفوذ الذي كان يملكه طرفان أساسيان في عهده، رجال الأعمال والحزب الوطني المنحل الذي تصدر الحياة السياسية المصرية لعقود طويلة.
نظام مبارك: خريطة تفصيلية
تكمن مصادر قوة الطرف الأول، رجال الأعمال، بالأساس، في سيطرتهم على الإعلام الخاص بوسائطه المختلفة المقروءة والمرئية والإلكترونية، وامتلاكهم سيولة هائلة تمكنهم من ممارسة تأثير ونفوذ كبيرَيْن، في ظل استمرار الفساد الذي تمأسس في عهد مبارك بشكل غير مسبوق، بما في ذلك شراء ذمم الكثيرين داخل أجهزة الدولة السيادية نفسها.
ولعل الثروات الهائلة التي يملكها هؤلاء خارج الإطار الرسمي – سيولة نقدية مخزَّنة بمعنى الكلمة، غير موضوعة في البنوك، وإنما في أماكن خاصة ويُخرَج منها عند الحاجة – هي أهم الأسلحة التي يمتلكونها، حيث تمكنهم من التحرك بالحرية والفاعلية الكافيتَيْن للتأثير بعمق، على موقف النظام.
بل إن تأثيرهم في المجال الإعلامي يكمن في امتلاكهم لكل هذه الثروات السائلة مجهولة المكان!
كما أن بعضهم يحمل جنسيات أخرى وعلى اتصال بدوائر حكم في الخارج مثل صلاح دياب وأحمد بهجت اللذَيْن يحملان الجنسية الأمريكية.
كان حرق مقر الحزب الوطني المنحل هو أحد أهم مشاهد وأهداف الثورة المصرية
أما تأثيرات الحزب الوطني المنحل تكمن في مجال أكثر خطورة بالنسبة للنظام الحالي في مصر، وهو المجال السياسي والاجتماعي.
فالحزب الوطني لم يمكن حزبًا ورقيًّا، أو من أحزاب المقرات التي سعى هو طيلة أكثر من 35 عامًا إلى تأطير الحياة الحزبية المصرية في سياقها من أجل الانفراد بالساحة الحزبية والسياسية في مصر.
وبالتالي فإن الحزب الوطني استند إلى قاعدة اجتماعية مهمة، وهي قاعدة أصحاب النفوذ، سواء في القاهرة الكبرى، أو في الأقاليم الريفية، في الوجه البحري والصعيد، باستثناء مناطق الأطراف، التي كانت السيطرة حصرية دائمًا عليها للقوات المسلحة وجزئيًّا للمخابرات العامة.
ومن بين هؤلاء كبار مُلاك الأراضي الزراعية والتُّجَّار وشيوخ العائلات وغيرهم.
واستند الحزب الوطني في هذا إلى أمر مهم، كان من بين سياسات الأمن القومي على المستوى الداخلي في العقود الطويلة الماضية، وهي توزيع المناصب المهمة في المستويات المحلية الأصغر، مثل العُمَد والمجالس المحلية التنفيذية وصولاً إلى مناصب رؤساء الأحياء ومجالس القوى، بشكل متوازن بين العائلات والكيانات الكبرى في هذه المناطق والمحافظات، لضمان حالة من السلم الأهلي والاجتماعي.
وكانت ولا تزال المخابرات العامة هي الجهة الرئيسية التي تقوم بهذه المهمة، وبطبيعة الحال، فإن الاختيارات وخصوصًا في مجال العُمَد، تخضع لاعتبارات عديدة، أهمها، أن يكون الشخص المختار صاحب سطوة ونفوذ وقادر على ضبط الأوضاع في الدائرة التي يسيطر عليها اجتماعيًّا قبل أمنيًّا، خصوصًا في المناطق التي تشهد نزاعات عائلية على الأراضي، أو حالات ثأر أو ما شابه ذلك من توترات، وهي نقطة سوف نعود لها فيما بعد لأهميتها.
وكان الحزب الوطني حريصًا طيلة العقود التي هيمن فيها على معادلة السياسة والحكم في مصر على أن يضم هذه الأسماء من كبار الرموز وأصحاب النفوذ في مختلف مناطق القطر المصري مهما كان صِغَر دائرتها.
وكان هؤلاء يحرصون على عضوية الحزب وخدمته، باعتبار أن ذلك يضيف الكثير من الوجاهة الاجتماعية والسياسية والنفوذ الفعلي لهم، بما يخدم – في المقابل – مصالحهم التي كانت في الغالب تتعلق بالجهاز البيروقراطي والأراضي الزراعية وممتلكاتهم وأنشطتهم الاقتصادية بشكل عام.
وكان الحزب الوطني من خلال تغوله على الجهاز التنفيذي للدولة في مختلف الوزارات والمصالح – وفق نفس المنطق الذي اتبعه مع هؤلاء – يقدم لهم الكثير من الخدمات التي تضمن له ولاءهم، وبالتالي، ندخل في دائرة التزاوج بين الثروة والنفوذ والسلطة، والتي هي أصل الفساد في مصر، وقادت إلى جعله مؤسسيًّا، أي أن له أبعاد مؤسسية ورسمية كذلك.
هذه الدوائر التي انضم إليها أصحاب نفوذ آخرين من أجهزة أمنية وسيادية، تلعب الآن أبلغ الأدوار في محاولة زعزعة الاستقرار الداخلي تحت أقدام نظام السيسي.
ولكن قبل التطرق إلى أشكال وطرائق ذلك، فإن هناك قصة يجب أن تُروى من أجل فهم أسباب الافتراق الذي وقع بين نظام السيسي ودولته، وبين نظام مبارك ودولته.
قصة الثورة وصفقاتها!
في مرحلة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، ومن أجل “تطويق” ثورة الشعب المصري في البداية، ثم التعاون مع العسكر للإطاحة بحكم الإخوان، استمرت الجبهة التي مثلت رموز الحزب الوطني ورجال أعماله وداعميه في أجهزة الدولة السيادية، في تماسكها في مرحلة ما بعد انقلاب 3 يوليو 2013م.
في البداية كان هدفها هو دعم الانقلاب باعتبار أنه سوف يعمل على استعادة النظام القديم، وتوطيد مناطق النفوذ التقليدية من جديد.
دعم الجيش الثورة في البداية ضمن مخطط سابق بسنوات لوقف مشروع التوريث.
إلا أن النظام العسكري الذي ورث مبارك بدلاً من مشروع توريث جمال مبارك، عاد إلى الخطة الأصلية التي تبلورت في العام 2007م، ودعم لأجلها فكرة الثورة الشعبية للإطاحة بمبارك، حيث كان من المفترض وفق المخطط، أن تحدث الثورة في فترة من صيف العام 2011م، ويكون الإخوان جزءًا منها، في مقابل تمثيل حكومي وبرلماني، بالإضافة إلى الحزب.
وهو ذات ما عرضه عليهم عمر سليمان نائب مبارك خلال اجتماع الأزمة الشهير في السادس من فبراير 2011م، الذي حضره الدكتور مرسي والدكتور محمد سعد الكتاتني، وكان ذلك في مقابل إنهاء مشروع التوريث الذي كان يدعمه حبيب العادلي وجهاز مباحث أمن الدولة، وجزء من بيروقراطية الدولة، في مقابل رفض الجيش والمخابرات العامة له.
وتنص الخطة الأصلية، التي انقلب عليها الإخوان في ربيع 2011م، على أن يستعيد الجيش السيطرة من قبضة رجال مبارك في الحزب الوطني ووزارة الداخلية وهيئات الأعمال والقطاع الخاص من أصحاب رؤوس الأموال والاحتكارات الجديدة، والتي كان من بين “خطاياها” بالنسبة للمؤسسة العسكرية، أن دخلتْ مجالات استراتيجية كان الجيش أميل إلى أن تكون إما في قبضته أو قبضة الدولة مثل صناعة الحديد والصلب.
رأى المجلس العسكري الذي اندلعت الثورة في عهده أن هذا المنحى الذي دعمه دخول رجال الأعمال للبرلمان والحكومة بقوة في العام 2005م، يهدد نفوذه في الدولة ومكتسبات المؤسسة العسكرية في المجال الاقتصادي خصوصًا.
تصرف الإخوان عكس ما كان متفقًا عليه قبل الثورة، ورتبته بعض الشخصيات القريبة من المؤسسة العسكرية ومن المحسوبين على مؤسسات سيادية أخرى، قامت بزيارات مكوكية لمكتب الإرشاد، في الفترة بين عامَيْ 2008م، و2009م.
ومن بين هؤلاء، كان ضياء رشوان، الذي كان نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والمقرب من المخابرات العامة، كمركز تفكير، ونذكر جميعًا ما قاله عن “القلب الصلب” للنظام، في مقاله الشهير، الذي كتبه في “المصري اليوم”، في 25 أكتوبر 2008م، بعنوان: “ملاحظات حول التعامل مع قضية مستقبل الرئاسة”.
الطريف أن التعليقات على المقال على موقع “المصري اليوم” الإلكتروني، ذكر بعضها في حينه (أكتوبر 2008م)، أن التغيير في مصر لن يحدث من خلال القلب الصلب للنظام، وإنما سيكون من خلال فوضى وثورة شعبية.
ولم يكن ذلك كله خافيًا على مبارك ولا مجموعة دعم التوريث في “البلاط” الجمهوري، باعتبار الدعم المعلوماتي الذي كان يقدمه حبيب العادلي وزير داخلية مبارك الأثير، حيث قام زكريا عزمي صاحب النفوذ الكبير في رئاسة الجمهورية، ورئيس مجلس الشعب وأمين التنظيم في الحزب الحاكم في حينه أحمد فتحي سرور، بزيارات مماثلة لجس نبض الإخوان فيما يُعرَض عليهم.
المهم، أن القصة لم تمض كما أرادها المجلس العسكري، وبدأ الإخوان المسلمون في التحرك من أجل مشروع التمكين، بعيدًا عن طرح المحاصصة الذي قدمته المؤسسة العسكرية قبل وأثناء الثورة، وهو ما قاد للصدام تاليًا بين الطرفَيْن.
في الإطار، وكما ارتكس الإخوان والعسكر على اتفاقهما المسبق قبل الثورة، ارتكست المؤسسة العسكرية على من دعم مخطط إسقاط الإخوان داخل الدولة العميقة، فلم يتم إطلاق سراح مبارك ونجليه ورموز عهد مبارك، واستمر التحفُّظ على أموال وممتلكات رجال أعمال عهد مبارك ومنعهم من السفر.
بل إن أحكام السجن في عهد السيسي على رموز عهد مبارك، أكثر بكثير من تلك التي صدرت بعد الثورة وفي العام الذي حكم فيه مرسي، بمن فيهم صفوت الشريف رجل النظام السابق القوي وأحد أهم مفاصل سيطرته السابقة.
بدأت الدولة في مرحلة ما بعد فض اعتصامَيْ رابعة والنهضة، في 14 أغسطس 2013م، في عملية ممنهجة لتمكين المؤسسة العسكرية من مفاصل الدولة، سواء بالتعيين في المناصب الكبرى والوسيطة في الجهاز الحكومي والمحافظات والإدارة المحلية بشكل عام، في مقابل حملة تطهير كبرى لم تستثن لا الإخوان ولا معارضي الحكم الجديد، حتى ممن دعموه في 30 يونيو 2013م، وما تلاه.
وهنا ثمة نقطة شديدة الأهمية، ربما مثلت فارقًا مهمًّا بين السيسي ونظام مبارك القديم، وهي المتعلقة بمساعي هؤلاء إلى بدء إجراءات إثبات تزوير انتخابات الرئاسة التي جرت في 2012م، وفاز بها مرسي، من أجل الدعوة بعد ذلك لعودة الفريق أحمد شفيق من منفاه في الإمارات، ووضعه من جديد في معادلة السلطة في مصر.
خرج السيسي وقتها بمفاجأة كبرى، عندما أكد بنفسه أن مرسي كان رئيسًا شرعيًّا منتخبًا للبلاد و”لكنه فرط وخرج الشعب عليه بثورة أطاحت به”، وكان مبرر السيسي في ذلك، هو الدفاع عن الدولة المصرية في مواجهة من يتهمونها بتزوير نتائج الانتخابات “حتى لو كان ذلك لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي”، كما يروج خصوم الإخوان، الذين يقولون إن الإخوان و”أعوانهم” في الجماعات المتشددة، سوف ينفذون أعمال عنف واسعة، فيما لو كان المجلس العسكري السابق، قد أعلن فوز شفيق في انتخابات الرئاسة.
لم تقف إجراءات نظام السيسي على تمكين العسكريين من المناصب الكبرى والوسيطة، وإنما جعل جهاز الخدمة الوطنية وجهاز المشروعات العامة والهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة، هي المقاول الأول لمشروعات الدولة، بدعوى أن الفساد يضرب بأطنابه في المؤسسات المدنية، وأن المؤسسة العسكرية هي الأكثر ائتمانًا على أموال الشعب والدولة الموظَّفة في المشروعات القومية، وأن المؤسسات العسكرية أقدر على التنفيذ بشكل أكفأ وأسرع.
كان ذلك ضربة في الصميم لرجال أعمال مبارك، الذين شعروا بأن مصالحهم مهددة، وأن عملية تطويقهم لصالح مصالح المؤسسة العسكرية قد وصلت لمرحلة متقدمة.
كما أن بعضهم كان ولا يزال على ولائه لمبارك، حيث رأى في اتفاق العسكر والإخوان قبل الثورة، خيانة لمبارك وانقلابًا عليه، وأنه قاد الوضع في الدولة للأزمات والانقسامات الراهنة.
الصراع على الشارع والاستقرار!
يعمل نظام مبارك بمكوناته السابقة الذكر، على توظيف نقاط قوته التي تم التفصيل في بعضها فيما سبق على ممارسة شكل من أشكال التعطيل والممانعة في الشارع المصري، من خلال أكثر من استراتيجية.
الأولى والأهم أو الأخطر بالنسبة للنظام، هي استراتيجية صناعة الفوضى، ويتم ذلك من خلال ممارسة تأثيرات في مجال حالات الثأر والخلافات بين العائلات في الوجه البحري والقبلي.
ولعل المطلع على تقارير الإعلام المصري في الآونة الأخيرة، سوف يجد أكثر من حالة ثأر ونزاع عائلي مسلح تجددت في أكثر من محافظة في الوجه البحري والصعيد، وخصوصًا في قنا، التي سقط فيها قتلى في أكثر من حالة في الأسابيع الأخيرة، وذلك من أجل التأثير على حالة الاستقرار والأمن الداخلي، في إطار المجتمعي، وبالتالي السياسي.
ويتم التعامل مع هذه الحالات بطريقتَيْن لتحقيق الفاعلية المطلوبة، الأولى، هو “الحرص” على سقوط قتلى، وهو ما له وقع كبير على الرأي العام، وينقل الأمر لتسويقه في وسائل الإعلام الأجنبية، وأن تشمل مثل هذه الحوادث، بعض الأمور التي لا يمكن إخفاؤها، مثل إطلاق النار بجوار مزلقانات وخطوط السكك الحديدية، بما يؤدي إلى تعطيلها، وهو ما يقود إلى المزيد من التأثير السلبي وإشاعة روح من الخوف وعدم الاستقرار في أوساط المواطنين.
في الجانب الإعلامي أيضًا، يأتي الترويج لهذه الحالة من عدم الاستقرار، وتسويقها لدى الجمهور العام، مع ممارسة حرب تكسير عظام ضد السيسي ونظامه و”إنجازاته”، من خلال تجاهلها فيما يتم التسويق لأية مشكلات تهم المواطن، مثل اختفاء بعض السلع الاستراتيجية، وأزمة الأدوية وارتفاع أسعارها، واختفاء ألبان الأطفال المدعمة من الصيدليات، وأزمة القمح.
أما الواجهة الإعلامية الأهم، التي يتم تنسيقها ضد نظام السيسي من جانب وسائل الإعلام التابعة لرجال الأعمال، هي الحوادث الأمنية، سواء تلك التي تخص صراعات العائلات والثأر وما شابه، كما تقدم، أو الحرائق “الغامضة” التي تندلع من آنٍ لآخر في بعض الأهداف ذات الطابع الرمزي الشديد التأثير، مثلما وقع في الرويعي، وفي أسواق “تحيا مصر” في المحلة، وفي كنيسة مارمينا في شبرا، وغير ذلك.
ويفسر هذا الصراع، عبارة قالها السيسي أكثر من مرة، وهي أن في مصر الآن “شبه دولة”، وليس دولة كاملة الأركان، فهو يدرك أكثر من غيره، أن مؤيدي مبارك لا يزالون موجودين وفاعلين في مراكز مهمة وحساسة من أجهزة الدولة، ويتعاونون في هذا المخطط “الهدام”، الهدام بالنسبة له ولنظامه بطبيعة الحال.
في المقابل يستمر نظام السيسي في تنفيذ أجندته وخططه، فرفع رواتب ومعاشات الشرطة والقضاة، من أجل ضمان ولائهم لنظامه ودولته، مع الاستمرار في مخطط عسكرة المناصب الرئيسية في الدولة، والسيطرة على أموال رجال أعمال مبارك من خلال حملة معلنة ضد الفساد، شملت بعض رموز الجهاز البيروقراطي والحكومي، كما في حالة وزير الزراعة السابق، صلاح هلال ومعاونيه، وبعض رجال الأعمال، مثل عمرو النشرتي، وأحمد عز، وغيرهما.
وللافتة الفساد دلالة مهمة للغاية في هذا الصدد، حيث إنها تضمن دعم الرأي العام لنظام السيسي، وللإجراءات التي يتبناها ضد خصومه في الدولة والمجتمع، كما أنها تجعل معارضته والعمل ضده في الشارع على النحو السابق الإشارة إلى بعض من معالمه، في صالحه وليس ضده، حيث إن ذلك أمام الرأي العام يبدو وكأنه ثمن سعي السيسي ونظامه إلى تطهير مصر من الفساد ورموزه.
وهي طريقة فعالة بالفعل في الشارع المصري، فالحملات الإعلامية الراهنة التي نراها في شهر رمضان، لمكافحة الفساد وإعادة بناء الدولة وضرورة تشارك الجميع فيها، لها مردودها على المواطن المصري، بل وعلى رجال الأعمال أنفسهم.
فبعد سلسلة من الاجتماعات تمت معهم في جهاز المخابرات العامة، لمعرفة حقيقة موقفهم، كما تسرب مؤخرًا، بدأ بعضهم في دعم مبادرات الدولة في مجال الرعاية الصحية، وتطوير العشوائيات، وتحسين الوضع الخدمي في القرى المهمشة.
الطريقة الأخرى التي يمارسها النظام الحالي في مصر ضد خصومه، ترتبط برمزية أخرى مهمة، مثل مكافحة الفساد، وهي “الحرب” على رموز عهد مبارك، باعتبار أن ذلك كان أحد أهم مطالب ثورة يناير.
محاكمات رموز نظام مبارك من أهم الأدوات التي يستند إليها السيسي في تعزيز سلطته
وهو ما يفسر سلسلة القضايا التي لا تنتهي، والتي يتم فتحها من آن لآخر ضد أحمد عز، وضد علاء وجمال مبارك من أجل استمرار حبسهما، والأحكام التي صدرت على صفوت الشريف وآخرين من رموز عهد مبارك، وأخيرًا رفض جهاز الكسب غير المشروع، رفع التحفُّظ على أموالهم وممتلكاتهم.
في الأخير، تبقى القصة أطول من أن يتم سردها في هكذا موضع، ولئن كان هناك ما تبقى من حديث، فإن الأمور في الوقت الراهن تسير إلى مصلحة تمكين السيسي ونظامه، في ظل نجاحه في السيطرة على مفاصل الدولة الأهم، وتوظيف سلوك خصومه لصالحه، وحرصه – في حقيقة الأمر – على معالجة المشكلات التي تهم المواطنين، أو على الأقل إظهار حرصه على ذلك، وتبنيه مشروعات جماهيرية لها صداها.
هذا لا يعني أنه لا يواجه مشكلات، فقضية الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة، في مقابل تدني قيمة الجنيه الشرائية، وتدني الأجور، وضعف معدلات النمو الاقتصادي، وبالتالي عدم قدرة الاقتصاد الوطني على توليد وظائف جديدة، كلها تبقى تحديات كبرى أمام نظام السيسي.
وفيما لا يزال في الساحة خصومه من حلفائه القدامى، يبقى الإخوان خارج المعادلة بالكامل، إلى أن يأذن الله تعالى، وتنتهي مشكلاتهم الداخلية.. متى؟! قد لا يكون ذلك قريبًا!