القرآن الكريم، كتاب مكنون، وهو يتكشف عبر العصور عن مكنوناته؛ ليستوعب مشكلات وقضايا العصور كلها وبحسب سقوفها المعرفية وعلى اختلاف أنساقها الثقافية والحضارية، فهو مصدق ومهيمن ومستوعب ومتجاوز، وفي استيعابه يستطيع أن يستوعب الكون وحركته، والعالم وأزماته وإشكالاته، وليقوم القرآن بذلك لا بد لتاليه من” التدبر” في آياته للتعرف على معانيه ومراميه والعمل بها (ص 13).
وقارئ القرآن لا يستطيع الاستغناء عن”تدبر آياته”، تدبرًا دائمًا متكررًا ومستمرًا، بحيث يصبح “التدبر” عنده قرين القراءة، والمصاحب الدائم لها، فلا يفارقها بحال من الأحوال، ولا ينفك عنها، لأن مجرد الغفلة عن التدبر تؤدي إلى انغلاق قوى الوعي الإنساني وفي مقدمتها القلب وإقفالها بوجه الفهم والفقه في القرآن، والأخذ عنه، لتوقف وسائل ومراتب الإدراك (ص 22).
فالتدبر ضرورة لقارئ القرآن، ليس لأنه يعطى للتلاوة حقها فحسب، بل لأن التلاوة، لا تعد تلاوة أعطيت حقها، إلا إذا اقترنت بالتدبر الواجب، ولا يكون “التدبر” تدبرًا حقيقيًا، إلا إذا كان وفقًا للمنهج الذي رسمه القرآن المجيد ذاته للتدبر (ص 15).
مفهوم التدبر
مفهوم التدبر، مفهوم قرآني محوري، فيه من المعاني ما يجمع بين مفاهيم “التفكر والنظر والتذكر والتعقل والعلم” ومن أبرز معانيه المتبادرة إلى الذهن هو: النظر في مآلات الأمور في بداياتها بقدر أكبر من العناية والاهتمام لتحسن مآلاتها، وتستقيم خواتمها، مما يجعل الإنسان قادرًا على أن ينفذ إلى ما وراء المعاني الظاهرة أو المتبادرة إلى الأذهان البسيطة، فيتفجر في قوى وعي من آتاه الله الاستعداد، ينابيع الحكمة في قلبه.
فالتدبر هو الوسيلة الأساسية لتلاوته “حق تلاوته” وهي التلاوة التي تزيد إيمان المؤمن، وتخبت لها قلوب المؤمنين، وتجعل من القرآن مصدر شفاء وعلاج لما في الصدور، ولما في العقول والقلوب والنفوس، ولما في الأسرة والمجتمع والدول والأوطان، كما أن تدبر القرآن المجيد يعد من أهم وسائل التربية والتنمية والتزكية وصناعة الحياة الطيبة.
من التدبر إلى التدبير
“التدبير” هو التخطيط للخروج من الأزمات والمشكلات، ويفترض أن يكون ناتجًا وحاصلاً ينتج عن “التدبر”، فلا تدبير بلا تدبر، بل ارتجال وتخبط، والقرآن، كتاب حياة واستخلاف، نتدبره لندبر بهدايته وأنواره شؤون وشجون الحياة، فـ “التدبير” أهم مقاصد “التدبر”.
القرآن يعرف أهله
إن لهذا القرآن، قوى وعي وطاقات يميز بها بين من يخاطبهم، ففريق يشفي صدورهم ويغمرهم بالرحمة يعرفهم القرآن ويعرفونه، فتخبت له قلوبهم عندما يطل عليها وقد “تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله”، ويقرأه آخرون، فيزيدهم ضلالاً على ضلالتهم، وخسارة وحيرة وتيها “ولايزيد الظالمين إلا خسارا” (ص 23-24).
أم على قلوب أقفالها؟
“أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها”، هذه الآية الكريمة تجعل أقفال القلوب وإقفالها مقابلاً لعدم التدبر، فإما تدبر وإما إغلاق القلوب، ووضع الأقفال عليها لتصبح مجرد مضغة ومضخة للدم لا غير، فعدم تدبر القرآن، ينسي الناس أنفسهم، ويجعلهم يغفلون عن بدهيات الحياة الطيبة، فيبقوا مقيمين على أمراضهم، يتخبطون فيها، ولو تدبروا القرآن لشفاهم من أمراض قلوبهم (ص 30-31).
التدبر وقوى الوعي الإنساني
التدبر هو مفتاح “قوى الوعي الإنساني” فلا مفتاح غيره لهذه القوى، ولا سبيل لمس معاني هذا الخطاب الإلهي إلا ذلك السبيل، فبالتدبر وحده تفهم أبعاده المتنوعة، فالتدبر علاج هام جدًا يؤدي إلى الخشوع لله والإخبات له، والتخلص من “قسوة القلوب” التي أصابت الأمم من قبلنا.
وهو، أيضًا، يضاعف طاقات الإنسان العقلية والنفسية، ويشحذ قوى الوعي الإنساني ويجعلها قادرة على التفتح بالقرآن على الكون وما فيه، والزمان والدوائر التي ينظمها، والمكان وما يشتمل عليه، ويحيط به، فيدرك المتدبر قدرات القرآن الهائلة على “التصديق والهيمنة والاستيعاب والتجاوز” (ص37).
فريضة محتمة
تدبر القرآن، ليس نافلة أو سنة يمارسها من شاء على سبيل التطوع والندب، بل هو فريضة محتمة، وواجب لازم، والعناية بالقرآن ينبغي أن تكون عناية بلفظه وبمعناه ثم باتباعه والعمل بما جاء فيه، وتيسير القرآن للذكر شامل لتيسير ألفاظه وماعنيه واتباع قرآنه (ص47-48).
عندما نبدأ في القراءة، عليك بهذه الأمور مجتمعة:
– القراءة باسم الله وبمعيته، مستحضرًا الأمر بالجمع بين القراءتين (قراءة القرآن وقراءة الكون معًا).
– التنزيل على “القلب”، فالقرآن المجيد، لا بد أن ينزل على القلب قبل أن ينزل على اللسان، وقبل أن ينزل على الأذن، فالتنزيل على القلب، هو القراءة الدقيقة السليمة التي تؤدي إلى الثمرات التي ورد بها القرآن المجيد.
– القراءة المتأنية المتريثة التي لا تشوبها عجلة من أي نوع، فجمعه في القلب الذي اجتمع لقراءته، إقرار معانيه فيه، رهن بعدم العجلة في قراءة وحيه.
– الارتقاء والعروج النفسي إلى عالم التلقي النبوي واستحضار الإحساس والشعور بتلقي الملقي الأول صلى الله عليه وسلم وكيفية ذلك التلقي.
– مداومة الصلاة به، فالصلاة تركيز خشوع وإخبات لله تساعد على حسن التدبر وتعمقه.
– التزود بالعلم والمعرفة، بكل أنواعها، ليتمكن من صياغة أسئلته بدقة والتوجه بها إلى القرآن المجيد.
– استحضار أسمائه وصفاته وأسماء سوره فهو مما يعين على تدبره.
– العمل على رصد جميع مداخله بقدر المستطاع.
أنواع القراءات
أولاً: قراءة التعبد ابتغاء الثواب بالقراءة.
ثانيًا: قراءة معرفة الحلال والحرام.
ثالثًا: قراءة معرفة تاريخ البشرية وتطورها.
رابعًا: قراءة المعاني اللغوية وبدقة اللفظ وجمال الأسلوب وبراعة النظم.
خامسًا: قراءة معرفة مصير البشرية ومآلها.
عقبات تحول دون التدبر
– الذنوب.
– اتخاذ أحكام مسبقة من خارج القرآن قبل القراءة.
– الاختلاف بين القارئين وجدالهم.
– غموض الغاية من القراءاة: فهل أنت طالب هداية، أم تعبد وثواب، أو طالب علم ومعرفة وتاريخ، وهو ما يسمى بالنية.
مداخل التدبر
– مدخل الأزمات والأسئلة التي يفرزها الواقع فينزل القرآن الكريم المجيد لحلها ويستوعبها ويتجاوزها، وهذا يحتاج لصياغة الأسئلة بشكل صحيح، حتى نحصل على الأجوبة السليمة.
– مدخل العلم والمعرفة.
– مدخل التعبد.
– مدخل القيم العليا الحاكمة: التوحيد والتزكية والعمران بعد استيعابها وفهمها متدبرين، حتى نستطيع فهم ما نقرأ ومعرفة معانيه.
– مدخل الوحدة البنائية للقرآن، فهو بمثابة الجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة.
– مدخل عمود السورة المنطلق من وحدة السورة الخاصة في إطار الوحدة البنائية لمجمل القرآن، فلكل سورة عمود يقوم عليها.
– مدخل التصنيف الموضوعي لموضوعات القرآن، مما يساعدنا على فهم كل موضوع في كليته دون الوقوع في عملية التجزئة.
– مدخل البحث في المناسبات.
– مدخل عالم الغيب والشهادة.
– مدخل التدافع بين الحق والباطل.
– مدخل تصنيف البشر بحسب مواقفهم من رسالات الأنبياء.
– مدخل اللغة والسياق وإدراك التناسب.
– مدخل قيام الحضارات وتراجعها.
– مدخل تنزيل القرآن على القلب.
– مدخل تثوير القرآن.
علم قائم بذات
تدبر القرآن المجيد، بعد ترتيله ترتيلاً وتلاوته حق التلاوة، يصلح أن يكون علمًا قائمًا بذاته من جانبين: جانب نظري كما أوضح الكتاب، وجانب تدريبي تطبيقي يقوم عليه مدربون تربويون أكفاء كابدوا وجاهدوا أنفسهم وعقولهم وقلوبهم حتى لانت لكلمات الله، وأخبتت وخشعت لجلال هذا القرآن وجماله وبهائه (ص 208).
خاتمة
التدبر، مهم وضروري وواجب، على كل مسلم ومسلمة، بقطع النظر عن التخصص والدرجات العلمية ومستويات المعرفة والذكاء، فلكل نصيبه من القرآن، والمسلمون اليوم بحاجة إلى كسر وإزاحة سائر الحواجز بينهم وبين القرآن المجيد: القديم منها والجديد، الموروث منها والمعاصر، وأن يدركوا أن هجر القرآن، هو أهم مداخل الشيطان، وهو أهم أسباب عجزنا وتخلفنا وجهلنا وأمراضنا، وأن أسوأ أنواع الهجر هو هجر”تدبر القرآن المجيد”.