ترجمة وتحرير نون بوست
مع اقتراب موعد استفتاء بريطانيا لمغادرة الاتحاد الأوروبي أو البقاء ضمنه، يتساءل الكثيرون في الشرق الأوسط عن الكيفية التي أوصل من خلالها الاتحاد الأوروبي نفسه إلى مثل هذا المعضلة، وعن الدروس والآثار التي قد تنعكس على دول مجلس التعاون الخليجي.
بطريقة أو بأخرى، ومن أكثر من وجه، يبدو بأن استفتاء 23 يونيو يتعلق باستراجع السلطة، فالاتحاد الأوروبي وسّع نفسه بشكل كبير، ومع كل إصلاح، استقطب المزيد والمزيد من السلطة، لكنه بذات الوقت، تنامى بالفوضى واختلال المهام الوظيفية.
بعد وصولي إلى بروكسل في عام 1994 للعمل كمراسل أجنبي، كنت مستغربًا من الكيفية التي عمل بها نموذج الإجماع داخل الاتحاد الأوروبي على تهميش دول مثل بريطانيا بشكل متزايد، وإلى أي مدى كان المشروع غير قابل للاستمرار بشكل جوهري، حيث استند بقاء الاتحاد الأوربي على أمرين رئيسيين: التحرك بسرعة ثابتة، حيث تخشى نخبة اليورو بأن توقف الاتحاد الأوروبي عن زخمه للحظة سيسفر عن وفاته، والأمر الآخر هو الضرورة المطلقة لنقل السلطة ببطء بعيدًا عن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
كان إدخال اليورو تحركًا سياسيًا كبيرًا نحو تعبئة اليوتوبيا الفيدرالية لدول أوروبا، وحتى يومنا هذا، ما زال الزخم، المستمر حتى الآن من خلال توسيع الاتحاد الأوروبي، جزءًا كبيرًا من أسباب بقاء مشروع الاتحاد الأوروبي على قيد الحياة حتى الآن.
أتذكر أنني كنت في مؤتمر صحفي في بروكسل عندما كُشف النقاب عن اليورو في عام 1999 من قِبل مجرد موظف فرنسي، وحينها اتضح بأنه لم يتم مناقشة الاقتصاديين للإعداد لأي خطة طوارئ، وفي الواقع، لا تزال أزمة اليورو اليوم موضع نقاش كبير سيما في ظل عدم وضع بروكسل لأي خطة بديلة.
شهدت من موقعي أيضًا انهيار المفوضية الأوروبية بعد فضيحة الفساد التي طالتها في ذات العام، حين عبّر جاك سانتر، رئيس المفوضية، على مدى صعوبة التلفظ بكلمة “آسف” من خلال همسه إياها في مؤتمر صحفي يعج بالصحفيين والمراسلين.
الكتلة المرهقة
ذات هذا الانفصال عن الواقع يبدو واقعًا اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ فبدلًا من العمل على وضع خطة للتخفيف من وطأة السلطوية والتحول لشكل إداري أكثر حداثة وانسجامًا مع الجمهور، ذهب الاتحاد الأوروبي في الاتجاه المعاكس تمامًا.
لذا، وبشكل ملحوظ، في مرحلة ما بعد 23 يونيو، يستعد الاتحاد الأوروبي لخطوة أكبر منه من خلال استمراره قدمًا في خطط تأسيس جيش الاتحاد الأوروبي، بهدف مواجهة الدول الأخرى المتشككة بالاتحاد، كهولندا والدنمارك اللتان تتحدثان اليوم فعلًا عن استفتاء بقاء أو خروج من الاتحاد الأوروبي.
كان الهدف من النموذج الفيدرالي الأوروبي الوصول إلى سلطة لامركزية في أوروبا تنافس الولايات المتحدة وروسيا، ولكن هذه الرؤية لم تتحقق بأي جانب منها، حتى من وجهة النظر الاقتصادية؛ حيث يعد الاتحاد الأوروبي التكتل التجاري الوحيد في العالم الذي لا يتمتع بأي نمو تقريبًا، كما فشل مشروع اليورو فشلًا ذريعًا في إسبانيا والبرتغال وقبرص واليونان، وكانت الفائرة الوحيدة في منطقة اليورو هي ألمانيا.
من هذا المنطلق، يبدو مفهومًا سعي الألمان اليائس لإقناع البريطانيين بعدم الخروج من الاتحاد الأوروبي تبعًا للضربة القاصمة التي سيواجهها الألمان جرّاء ذلك، وبالمثل، تتميز حجج المعسكر المؤيد للبقاء بالاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة بانتفاء المنطق واعتواره؛ فما أدهشني في الأسابيع الأخيرة هو كيف تراجع شعار “الاتحاد الأوروبي يمكن إصلاحه” أمام طغيان الشعار الآخر “لا تغادروا، لأن كامل بيت الورق سيتهاوى”.
ولكن الحجة الرئيسية هي أنه وفي حال انسحبت المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فإن الجزء الأكبر من التجارة التي تمارسها مع كتلة الاتحاد الأوروبي سوف تتوقف.
ولكن من المنطق المعاكس، فإن آخر أمر يرغبه الاتحاد الأوروبي هو قطع أحد أطرافه ليسجل نقطة تعنت فظة فقط، وبالمثل، فإن فرنسا لا يمكنها أن تقول لمزارعيها بأنها لا تستطيع بيع خضرواتهم أو خمورهم للمملكة المتحدة، وألمانيا لن تتوقف عن بيع سياراتها إلى إحدى أكبر عملائها في أوروبا.
آفاق دول مجلس التعاون الخليجي
ولكن يبقى السؤال ما الذي يجب على دول مجلس التعاون الخليجي أن ينتظروه من المملكة المتحدة؟ في الآونة الأخيرة، تصدت تشاثام هاوس لهذا الموضوع، حيث جادلت – بحق – بأن بريطانيا بعد الاستفتاء للخروج “ستوقف مؤقتًا عملية السلام في الشرق الأوسط”، وستبقى منطقة الشرق الأوسط مركزًا هاما للتجارة البريطانية، سيّما وأن حوالي 18 مليار دولار من صادرات المملكة المتحدة السوقية ذهبت إلى الشرق الأوسط في عام 2014.
ستعزز بريطانيا من الصفقات التجارية القائمة مع عملائها في المنطقة، وخاصة المملكة العربية السعودية، كما ستعمد إلى فتح باب إعادة التفاوض لابتدار صفقات تجارية مع دول المنطقة التي تغطيها اتفاقات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي مسبقًا.
وهنا، يبقى الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو التأثير الذي سيعكسه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على طموح الاتحاد لاغتنام موقع القوة العظمى في منطقة الشرق الأوسط، ومن وجهة نظري، سوف تسفر طموحات الاتحاد الأوروبي بالاستيلاء على السلطة عن نتائج عكسية على بروكسل، وحينها ستعمد لتخفيض سقف طموحاتها في خضم العملية برمتها.
لا مراء بأن التكتيك السابق هو الحل الوحيد الذي يمتلكه الاتحاد الأوروبي للبقاء على قيد الحياة إذا أسفرت مغادرة بريطانيا، كما يقول الكثيرون، عن نهاية الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي يجد صداه في تصريحات وزيرة الخارجية السويدية مارغو والستروم، والنائب البريطاني المتشدد نايجل فاراج، عندما وصفا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي بأنه “نهاية الاتحاد الأوروبي كما عرفناه من قبل”.
بعد خروج بريطانيا، سينشأ اتحاد أوروبي جديد، بعدد أقل من الأعضاء، وبسلطة وأنشطة أضعف، وأول شيء يجب أن يتم تفكيكه هو ملف السياسة الخارجية الذي أوهم الاتحاد نفسه بنجاعته، بما في ذلك جيش الاتحاد الأوروبي.
جميع هذا يعني أمرًا واحدًا لمنطقة الشرق الأوسط، عجز النفوذ الأجنبي لبروكسل؛ ولذلك، فإن دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى الرغم من تعرضها لانخفاض أسعار النفط، سوف تكون في وضع جيد لاستبدال موقع بروكسل كأخ أكبر جديد.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية