بالرغم من غيابها مؤقتًا عن الأنظار، وعدم تسليط الضوء على حضورها القوي داخل القارة الأفريقية خلال السنوات الأخيرة، إلا أنها تعد واحدة من القوى العالمية التي فرضت نفسها وبقوة على الساحة الإفريقية – اقتصاديًا وسياسيًا – لما تمتلكه من مقومات النجاح وبذور التقدم والتطور، لأجل هذا استحقت “ماليزيا” أن تفوز وبجدارة بلقب “الشريك الإفريقي”.
نجحت كوالالمبور بفضل إدارتها السياسية الواعية نهاية العقد الماضي وبدايات العقد الحالي في التفوق على نظيراتها من القوى الاقتصادية الناشئة حينها في التواجد الإفريقي لاسيما الصين والهند وإندونيسيا، إلى الحد الذي تمكنت فيه من التربع في المرتبة الثالثة في سلم كبار المستثمرين الأجانب في إفريقيا بعد فرنسا والولايات المتحدة، ولكن خلال الخمس سنوات الأخيرة تراجعت ماليزيا مؤقتًا عن الحضور الإفريقي إعلاميًا، وسنحت الفرصة للقوى الأخرى من التواجد المكثف بما يضع العديد من علامات الاستفهام.
“نون بوست” من خلال هذه الإطلالة السريعة يسعى للوقوف على الحضور الماليزي في إفريقيا، وما العوامل التي ساعدت كوالالمبور على التفوق على القوى الدولية الأخرى، إضافة إلى أبعاد التراجع المؤقت لهذا التواجد ومبرراته، واحتمالات استعادة ماليزيا لريادتها الإفريقية مرة أخرى.
العلاقات الماليزية – الإفريقية
نجحت ماليزيا في كسب احترام وتقدير الأفارقة – حكومات وشعوب – من خلال مواقفها السياسية الواضحة تجاه ما كانت تتعرض له دول القارة من ظلم واضطهاد وتنكيل، بل كان الموقف المؤيد والداعم بصورة معلنة لنضال شعب جنوب إفريقيا خلال مرحلة الفصل العنصري نقطة الانطلاقة الأولى نحو بناء علاقات إيجابية وقوية بين ماليزيا ودول القارة، انعكست بعد ذلك على الجانب الاقتصادي بعد نهاية مرحلة العنصرية في أفريقيا، وهو ما ترجمته الإدارة السياسية في كوالالمبور إلى واقع عملي من خلال تبادل الزيارات الرسمية بين الجانبين والتي كان لها مفعول السحر في تصدر الدولة الناشئة اقتصاديًا قائمة الدول العظمى الحاضرة بقوة في القارة السمراء.
كما جاءت تصريحات رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد بشأن تعزيز العلاقات بإفريقيا لتمثل نهجًا سياسيًا اقتصاديًا لدى كوالالمبور حيال القارة الغارقة في مستنقع الفقر والجهل والمرض، وهو ما تجسد في حرص مهاتير والذي يعد من بين كبار شخصيات حركة عدم الانحياز على إيجاد دور للقارة السمراء في القضايا الدولية بالتعاون مع الدول الأسيوية ليقدم إفريقيا للعالم بوجه سياسي مختلف.
ماليزيا: الثالثة إفريقيًا و”مهاتير محمد” كلمة السر
في مفاجأة من العيار الثقيل كشف عنها تقرير نُشر قبيل اجتماع قمة مجموعة “البريكس” المشكلة من بعض القوى الاقتصادية الناشئة والساعية إلى مواجهة التحالفات الاقتصادية الغربية في جنوب إفريقيا 2013 بشأن حجم الاستثمارات الماليزية في إفريقيا والتي أهلتها لتربع المرتبة الثالثة في قائمة المستثمرين الأجانب في القارة بعد فرنسا والولايات المتحدة، لتضع العديد من علامات الاستفهام وتصيب الكثير من القوى الاقتصادية الأخرى بالصدمة.
التقرير الذي أصدره بيت الخبرة الاقتصادي التابع للأمم المتحدة (يونستاد)، أشار إلى أن حجم الاستثمارات الماليزية في إفريقيا تجاوزت 19.6 مليار دولار بنهاية 2011، مقارنة بـ 16مليار دولار للصين و14 مليار دولار للهند وهو ما دفع مجتمع الاقتصاديين العالميين لدراسة هذه الظاهرة الفريدة من نوعها لاسيما بعدما ظلت ماليزيا خارج دائرة الحسبان لدى مؤسسات الاستشارات الاقتصادية الدولية.
وفي خطوة للوراء قليلاً نجد أن الاهتمام الماليزي بالقارة الإفريقية لم يكن حديث النشأة كما يردد البعض، بل يعود إلى ثمانينات القرن الماضي، في بدايات عهد مهاتير محمد، رئيس الوزراء الأسبق، والذي يعد العقل الاقتصادي المميز الذي ساهم في إحداث نقلة نوعية غير طبيعية للاقتصاد الماليزي وضعها في مصاف الدول المقدمة، كما وضع بلاده تحت مجهر الاهتمام الدولي بعد عقود طويلة من التجاهل.
اعتمد مهاتير محمد على الاستثمارات الأجنبية كأحد أبرز مقومات النهوض الاقتصادي، لاسيما وأنه كان يمتلك رؤية قومية للعالم تعلي مصلحة ماليزيا فوق كل اعتبار، وقد استغل ذلك في الجمع بين الدفاع عن دول العالم الثالث وتطويع الدبلوماسية التجارية لدعم الاقتصاد الماليزي، ومن ثم كان دخول ماليزيا الساحة الاستثمارية الإفريقية، في الوقت الذي بدأت تتلمس فيه ثمار تحولها نحو نمط الاقتصاد الصناعي من اقتصاد البلاد الزراعي الذي كان سائدًا قبل هذا التاريخ.
كما قدم رئيس الوزراء الماليزي الأسبق خدمة عظيمة للقارة السمراء، إذ ساعدها على تقديم نفسها للعالم كونها سوقًا واعدة مليئة بالخيرات غير المستغلة، كما أنها مستقلة وغير خاضعة لأي مؤسسات دولية، وفي المقابل كانت السوق الإفريقية فرصة جيدة للشركات الماليزية لتطوير نفسها وإكسابها الخبرة التجارية الدولية بما ساهم بشكل كبير في دعم التطور الاقتصادي الماليزي خلال فترة مهاتير وما بعدها.
مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق ورائد النهضة الاقتصادية
الاستثمارات الماليزية في إفريقيا
نجحت ماليزيا في تحقيق طفرة استثمارية متنوعة في السوق الإفريقي، حيث اقتحمت كافة المجالات، النفط والغاز ومشتقاتها، إنتاج زيت النخيل، والصيرفة والتمويل، كذلك قطاع العقارات، وإنشاء وتشغيل البنى التحتية كالطرق السريعة وخطوط سكك حديدية، إضافة إلى حقول الاتصالات وتقنية المعلومات والبث التلفزيوني، والشحن الجوي والبحري وإدارة المطارات والسياحة والترفيه، بما هيأها لتصبح الحاضر الدائم في شتى ميادين الاستثمار داخل القارة الأفريقية.
وفي إحصاء حكومي، فإن 70% من إجمالي الاستثمارات الماليزية في الخارج والذي يبلغ 106 مليار دولار، ثم توجيهه نحو اقتصاديات الدول النامية، كان لإفريقيا منها 15% ، ثم زادت في الخمس سنوات الأخيرة إلى 24% من إجمالي استثماراتها الخارجية.
أما فيما يتعلق بأبرز الشركات الماليزية العاملة في إفريقيا، فقد أشارت الأمانة العامة للاتحاد الإفريقي، بأن مؤسسة الاتصالات الماليزية تيلكوم، ومؤسسة النفط الوطنية الماليزية بيتروناس، ومجموعة سيمي داربي القابضة، قد سيطرت على 50% من عمليات الاستحواذ والاندماج بين الشركات الإفريقية الأسيوية المتعددة الجنسيات خلال الفترة من عام 1987 وحتى 2005.
وفي 2008 تمكنت كوالالمبور من الاستحواذ على شركة خدمات توزيع المشتقات النفطية في زيمبابوي من شركة شيل النفطية، كما باعت شيل حصتها البالغة 80% من أسهم أكبر شركات المصافي النفطية في جنوب إفريقيا “شركة إنجن” لشركة بتروناس الماليزية، التي يُعدّ السوق الإفريقية السوق الأهم بالنسبة لها خارجيًا إذ يمثل ثلث الاستثمارات الخارجية للشركة و10% من إجمالي الإنتاج.
كما تعد صناعة زيت النخيل من الفرص الاستثمارية التي حققت أرباحًا طائلة للمستثمر الماليزي في إفريقيا، حيث تطورت تلك الصناعة في الآونة الأخيرة لتصل إلى 50 مليار دولار سنويًا، مع توقعات بنمو مطرد لها في العقد القادم، لاسيما وأن إفريقيا هي ثالث أكبر سوق لهذه الصناعة في العالم بعد الهند وإندونيسيا.
وعربيا تعد ماليزيا ثاني أكبر مستثمر في القطاع النفطي السوداني، كما حصلت على حصة بمقدار 35% من أسهم شركة الغاز الطبيعي المسال المصرية، كما تسعى في الآونة الأخيرة لاختراق أسواق شمال إفريقيا للبحث عن فرص استثمارية جديدة لاسيما في الجزائر وتونس والمغرب.
شركة بتروناس الماليزية أكبر شركات المصافي النفطية في افريقيا
لماذا تفوقت ماليزيا على الصين والهند؟
في مقال منشور بمجلة ” THE DIPLOMAT“، تحت عنون “ماليزيا.. الشريك الصامت لإفريقيا”، أشار الكاتب تيم ستينك إلى أبرز أسباب التفوق الماليزي على الصين والهند فيما يتعلق بالاستثمار في إفريقيا، ومنها حرص كوالالمبور على تنويع محفظتها الاستثمارية، فضلاً عن سياسة القوة الناعمة التي تنتهجها مع الدول الإفريقية.
الكاتب الأمريكي يشير أيضًا إلى استغلال ماليزيا للتواجد الإسلامي الكثيف في إفريقيا لتسويق مشاريعها الاستثمارية، حيث إن حوالي 45-50% من سكان القارة من المسلمين، ما يجعل ماليزيا تتفرد بميزة أخرى تجعلها تتفوق في مجال الاستثمارات الإفريقية، فكونها دولة مسلمة يجعلها قادرة على دخول سوق الصكوك الشرعية، وتوفير الخدمات والسلع الحلال.
كما وظفّت ماليزيا الخطاب الإسلامي المعتدل القائم على مفاهيم الوحدة والتآخي والتعاون فيما بين أبناء الدين الواحد في الترويج لنفسها استثماريًا داخل القارة، كما قدمت نفسها بوصفها ليس بوابة للتمويل الإسلامي العالمي فحسب، ولكن أيضًا مصدرًا للبضائع والسلع الحلال، مما يخلق أمامها فرصًا استثمارية هائلة لا تتوفر لمنافسيها من القوى الاقتصادية الأخرى، وفي مقدمتهم الصين والهند.
ماليزيا الطموحة لم تسع إلى التسويق لنفسها اقتصاديًا داخل القارة السمراء فحسب، بل تمتلك مشروعًا ثقافيًا آخر يسعى لتسويق تراثها الفكري والحضاري، وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء الماليزي نجيب رزاق في مقال نشره بإحدى صحف جنوب إفريقيا عام 2013 حيث دعا فيه دول القارة إلى محاكاة النموذج الماليزي، بانتهاج سياسات السوق المفتوحة ودعم دور القطاع الخاص في التطور الاقتصادي، والدور المحوري للشفافية والمساءلة، وينظر ساسة إفريقيا إلى ماليزيا بوصفها مثالًا على أن الصادرات السلعية يمكنها أن تتكامل مع تصدير الخدمات.
ولازال “ستينك” يعدد مقومات ماليزيا الجاذبة لأنظار الدول الإفريقية، فهي في الأصل دولة إسلامية معتدلة، لديها تعداد سكاني معقول، ونظام سياسي مستقر، ومحفظة استثمارات متنوعة في إفريقيا، كما أنها أرض خصبة لتنوع الأعراق والثقافات هناك، فضلاً عن تسهيل إجراءات دخول المسلمين إليها، كما أنها تتمتع بنظام تعليم عالي المستوى وغير مكلف بالنسبة للطلاب الأفارقة، وهو ما أدى إلى ارتفاع عدد الطلاب الأفارقة الملتحقين بالجامعات الماليزية منذ عام 2010.
الكاتب نوه في مقاله إلى عقبة قد تعرقل خطوات ماليزيا نحو التوغل داخل القارة الإفريقية، تتمثل في محدودية الدبلوماسية الماليزية داخل القارة، وهو ما يتجسد في اقتصار التمثيل الدبلوماسي الماليزي في إفريقيا على 13 دولة فقط، مقارنة بـ 49 دولة للصين، و39 دولة لتركيا، مناشدًا إياها في حالة رغبتها في المنافسة داخل القارة فعليها تنشيط وتفعيل تحركاتها الدبلوماسية إفريقيًا بما يسمح لها فتح صفحات جديدة مع الدول التي لا يوجد بها مكاتب تمثيل دبلوماسي، مما ينعكس على حضورها الاقتصادي هناك.
اعتناق ما يقرب من نصف القارة للدين الإسلامي أبرز أسباب التفوق الماليزي
مما سبق يتضح أن السوق الإفريقية تمثل رافدًا هامًا وحيويًا للاقتصاد الماليزي، وقد أثبت الأخير حضورًا غير مسبوق في أفريقيا طيلة السنوات الماضية، تصدر في كثير من سنواتها قائمة الدول الأكثر استثمارًا بها، إلا أن الاستمرار في هذا التفوق يتطلب خطوات جادة للحفاظ عليه واستعادة مرة أخرى بعد أن سحبت الصين والهند البساط من تحت الأقدام الماليزية خلال العامين الماضيين، فهل تنجح ماليزيا في الانخراط الدبلوماسي في القارة السمراء بما يسمح لها بالمنافسة مرة أخرى أم ستكتفي بما هو عليه الوضع الآن لاسيما بعد إيمان الإدارة الماليزية بالتوجه المحبذ لدعم الاستثمار المحلي على حساب الاستثمار الخارجي، مما ينعكس سلبًا على التواجد الماليزي على خريطة الاستثمارات الإفريقية؟