عادة ما يتم الحديث عن كرة القدم في العصر الحديث باعتبارها وسيلة لتقارب الأمم ومحاولة لإزالة السدود بينهم وتقريب وجهات النظر المختلفة أو طرح المشكلات السياسية بعيدًا لمدة ساعة ونصف، كل هذا عن طريق النموذج الأخلاقي الذي تحاول الكرة تقديمه من خلال روح التنافس الشريف وما يسمى بأخلاق الرياضة إلى آخر الديباجات التي تساق في هذا المجال.
لكن، سواء وجدت تلك الديباجات صادقة وتلعب دورًا حقيقيًا في عملية إزالة الخلافات بين البشر المختلفين أم أنها مجرد ترهات تُقال ليتم تسويق وجه أخلاقي للكرة وتقليل التنافس والحدة داخل المباريات، فإن هذا لن يغير من حقيقة أن كرة القدم قد تسببت يومًا ما في إشعال فتيل حرب بين شعبين.
…
العوامل الأولية: مهاجرون ونزاعات على الأراضي
في مطلع القرن العشرين، بدأت أعداد كبيرة من المواطنين السلفادوريين في السفر إلى الهندوراس، التي كانت أكثر تقدمًا وازدهارًا اقتصاديًا عن جارتها، بحثًا عن لقمة العيش وحياة كريمة، لكن في ستينات القرن الماضي، ازدهر المجتمع السلفادوري في الداخل الهندوراسي لدرجة أدت إلى تملك المهاجرين مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية السلفادورية، وهو الأمر الذي أغضب أهل البلد الأصليين الذين اعتقدوا أن ما يحدث هي عملية سرقة ممنهجة من قبل السلفادوريين لأراضيهم.
وبسبب هذا الاعتقاد السائد، فلقد أسس كبار ملاك الأراضي من الهندوراس ما يسمى بالاتحاد الوطني للمزارعين والثروة الحيوانية، وكان هدف هذا الاتحاد في منتهى الوضوح وهو منع المزيد من السلفادوريين من تملك الأراضي، وفي هذا الإطار، فلقد عمل الاتحاد بكل قواه لتمرير قانون الأراضي الجديد حينها، والذي ينص على “سحب الأراضي من السلفادوريين وإعادة توزيعها على السكان الأصليين”.
لكن لتمرير قرار كهذا وتسويقه على المستوى الشعبي كان لزامًا على الاتحاد التسويق له باعتباره قضية أمن قومي لا يمكن التنازل عنها قيد أنملة، بالإضافة إلى إعلاء الحس الوطني للمواطنين على حساب قيم أخرى مثل التسامح والانفتاح على الآخر، وبالفعل لم يتأخر الجواب، حيث بدأت عمليات تحرش لفظي وبدني من قبل المواطنين تجاه المهاجرين، تلاها انتشار عنصرية واضحة في أوساط المجتمع بالإضافة إلى جرائم الكراهية التي صارت جزءًا لا يتجزأ من حياة السلفادوريين المغتربين أيضًا.
لكن للأسف الشديد، فإن الأمور كانت قد خرجت عن السيطرة في المجتمع الهندوراسي حيث بدأت عمليات تعذيب للسلفادوريين بما في ذلك النساء والأطفال وتم البدء في ترحيل بعض السلفادوريين قسريًا من البلاد، لكن ما زاد الطين بلة، هو عرض جرائد سلفادورية لصور مسربة من الداخل الهندوراسي لبعض المواطنين السلفادوريين الذين تم تعذيبهم بشكل بشع وقاسٍ، مما أشعل الشارع والسلطة السلفادورية على حد سواء وأدخلهم في فورة غضب لا يمكن حسبان عواقبها.
المنتخب السلفادوري الفائز بالمباراة الفاصلة
“أستطيع أن أتذكر أن والدي أخبرني ذات مرة، أن ركلة بداية في مباراة في أمريكا الشمالية أشعلت حربًا حقيقية”.
الكاتب الصحفي دارين تالفورد
تدور أحداث القصة فيما بين الثامن من يونيو إلى السادس والعشرين من ذات الشهر عام 1969، عندما أوقعت قرعة التصفيات النهائية لكأس العالم الهندوراس والسلفادور وجهًا لوجه، المباراة الأولى كان مقررًا لها أن تقام في العاصمة الهندوراسية تيجوسيجالبا، وقبل المباراة لم تتوقف مضايقات الجمهور المستضيف للاعبي الفريق الضيف بدءًا من الهتافات المناهضة والشتائم طوال ليلة المباراة في بهو الفندق وصولًا إلى رشق النوافذ بالحجارة، ويبدو أن هذه الأساليب قد آتت أُكلها حيث انتهت المباراة بفوز الهندوراس بهدف مقابل لا شيء.
لكن توابع المباراة لم تتوقف عند هذا الحد، حيث إن هذه الخسارة لم تكن فقط مجرد هزيمة في مباراة لكرة القدم لكن كان لها أبعاد أخرى، أبعاد تمس الوطنية والكرامة والشعور بالذات وهو الأمر الذي لم تستطع المشجعة السلفادورية إيميليا بولانيوس احتماله فقامت بقتل نفسها، مما أقام الغضب في السلفادور عن بكرة أبيها ولم يقعدها وتحولت بذلك مباراة الإياب إلى معركة حربية لا تقبل القسمة على اثنين.
قبل المباراة الثانية في السلفادور، كانت الأجواء مخيفة أكثر منها حماسية حيث بدا أن السلفادور بأكملها على استعداد تام لفعل أي شيء للفوز بتلك المباراة، فتم وضع المنتخب الهندوراسي في فندق يسهل وصول الجماهير الغاضبة إليه والتي انتهزت الفرصة وبدأت بالفعل في الهتاف والصراخ والسباب ضد المنتخب الهندوراسي، ثم بدأت في كسر زجاج نوافذ غرف اللاعبين وقذف البيض الفاسد والجرذان الميتة وقطع القماش العفنة إلى غرف اللاعبين.
وبالفعل لم يستطع اللاعبون النوم تلك الليلة، ليذهبوا إلى أرض اللقاء فيفاجأوا أن “المعركة” لم تنته بعد، حيث وجدوا جماهيرًا تملأ الاستاد عن بكرة أبيه، ضجيجها لا يتوقف، تبدو وكأنها قد فقدت عقلها، عندما بدأ عزف النشيد الوطني الهندوراسي كانت السخرية منه على مرأى ومسمع من الكل، وبالفعل نجحت السلفادور في الفوز في تلك المباراة بنتيجة ثلاثة أهداف مقابل لا شيء، ليذهب الفريقان إلى مباراة فاصلة على أرض محايدة، كما كانت تنص قواعد الفيفا حينها.
يقول مدرب منتخب الهندوراس حينذاك “ماريو جريفين” عن تلك اللحظات العصيبة:
لقد كنا محظوظون بشكل كبير أننا خسرنا، هذا لأنه إذا كنا قد فزنا فإنني لم أكن على يقين أننا سنخرج أحياءً من الملعب، يكمل عن سبب الخسارة: إن اللاعبين لم يفكروا لوهلة في المباراة، لقد فقدوا عقولهم، جلّ ما كانوا يفكرون فيه هو أن يبقوا على قيد الحياة.
تم تحديد السادس والعشرون من يونيو، في المكسيك، لإقامة المباراة الفاصلة بين الفريقين، لكن قبل المباراة بعدة أيام أعلنت السلفادور قطعها لكافة العلاقات الدبلوماسية مع الهندوراس بسبب ضعف الحكومة الهندوراسية في التصدي للجرائم والأعمال الوحشية التي ترتكب ضد المهاجرين السلفادوريين، لتقرر بذلك تصعيد حالة التوتر والغضب المتبادلة إلى مستوى جديد.
انتهت المباراة الفاصلة بين البلدين بفوز المنتخب السفادوري بثلاثة أهداف مقابل هدفين.
وفي الأيام التالية للمباراة، وبعد إعلان السلفادور قطعها للعلاقات الدبلوماسية مع الهندوراس، بدأ صوت طبول الحرب يعلو شيئًا فشيء، حيث بدأ الأمر بوقوع عدة مناوشات في بضعة نقاط تقع على الشريط الحدودي الفاصل بين الدولتين، واستمر الشد والجذب حتى جاءت لحظة الحقيقة، حينما قامت السلفادور بقصف المطارات الحربية في الهندوراس، هذه الضربة الموجعة، رفعت من طموحات القادة السلفادورين الذين بدأو في الاقتحام البري وغزو الأراضي الهندوراسية، لكن الهندوراس كانت قد بدأت في الاستفاقة واستطاعت إعادة سلاحها الجوي من جديد، حيث قامت بقصف المنشآت النفطية الرئيسة في السلفادور، في ضربة سببت الكثير من الأضرار للسلفادور التي صارت عاجزة عن إيصال الإمدادات إلى جبهتها الأمامية، مما أدى إلى تعثر مشروع غزوها البري، لكن قواتها كانت قد قطعت الحدود الهندوراسية بالفعل.
في يوم الخامس عشر من يوليو، أي بعد يوم واحد فقط من بدء الاعتداء السلفادوري على الهندوراس، تدخلت “منظمة الدول الأمريكية” وطالبت السلفادور بسحب قواتها من الهندوراس لإيقاف الصراع، لكن السلفادور رفضت الانسحاب حينها حتى يتم دفع تعويضات مجزية للسلفادوريين المهجرين قسريًا من الهندوراس إضافة إلى تقديم ضمانات لضمان سلامة المواطنين العالقين في الهندوراس، وبسبب التعنت السلفادوري، اضطرت المنظمة إلى التهديد بتوقيع عقوبات قاسية على الجانب السلفادوري في حالة عدم الالتزام بالهدنة التي تم إعلانها في الثامن عشر من يوليو، وبالفعل فلقد تم سحب القوات مع الحفاظ على أرواح السلفادوريين المتواجدين في الهندوراس.
لكن هذه الهدنة جاءت متأخرة كثيرًا، حيث كانت الحرب قد خلفت وراءها، قرابة الستة آلاف قتيل وأكثر من خمسة عشر ألف مصاب، إضافة إلى آلاف المشردين الذين دمرت منازلهم، كل هذا حدث في ظرف “100 ساعة” فقط، ولهذا يطلق على هذه الحرب أيضًا “حرب المائة ساعة”
أما رحلة المنتخب السلفادوري في مونديال 1970 فكان الفشل حليفها، حيث غادرت البطولة من الدور الأول، دون أن تحرز هدف يتيمًا.
أجزاء من هذا التقرير مترجمة من تقرير موقع فوتبول بايبل