كانت اتفاقية دولما باهتشي التي تمت بتاريخ 28 فبراير 2015، بين ممثلين عن الحكومة التركية وحزب الشعوب الديمقراطي “الكردي”، المعروف بقربه لحزب العمال الكردستاني، هي آخر اتفاقية خاصة بعملية السلام الداخلي في تركيا.
شملت الاتفاقية 10 مبادئ خاصة بعملية السلام وآليات إجرائها، وقد نقلت صحيفة ميلييت التركية العشرة مبادئ في تقريرها المقتضب “تصريحات تاريخية في دولما باهتشا” والمنشور بتاريخ 28 فبراير 2016، على النحو الآتي:
ـ إعادة تعريف محتوى العملية السياسية الديمقراطية.
ـ تعريف الأبعاد المحلية والوطنية للحل الديمقراطي الخاص بالمشكلة الكردية.
ـ دسترة حقوق وحريات المواطن بشكل حضاري.
ـ تحديد العلاقة بين الدولة والسياسة الديمقراطية والعمل على تضمين هذه العلاقة بأبعاد مؤسساتية.
ـ تحديد الأبعاد السياسية والاقتصادية لعملية السلام.
ـ تحديد العلاقة بين الإجراءات الأمنية والديمقراطية بشكل يخدم الحريات العامة لكافة المواطنين بلا استثناء.
ـ وضع ضمانات قانونية للحقوق الثقافية والاجتماعية وحقوق المرأة.
ـ الاتجاه للمفهوم الديمقراطي التعددي فيما يتعلق بالهوايات الثقافية والعرقية المتنوعة الموجودة في تركيا.
ـ إعادة تعريف مصطلح الجمهورية الديمقراطية.
ـ دستور جديد يكفل كافة الحملات الديمقراطية التي تم الاتفاق عليها خلال عملية السلام.
ولكن على الرغم من إبرام الاتفاقية من قبل الحكومة التركية، إلا أن رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان أبدى اعتراضه الشديد على شكلها والمواد التي تضمنتها، مدعيًا أنه “حرص كل الحرص خلال رئاسته للحكومة على عدم قبول حزب العمال الكردستاني والأحزاب السياسية الكردية، مشيرًا إلى حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يمت لحزب العمال الكردستاني بصلة كممثل شرعي ورسمي للأكراد، ومنوّهًا إلى أنه عمل على مفاوضتهم من خلال جهاز الاستخبارات وتم منح الحقوق للمواطنين الأكراد من خلال التشاور تحت قبة البرلمان وليس عبر اتفاقيات تعترف بشرعية حزب العمال الكردستاني وسليله من الأحزاب الأخرى على أنها الممثلة الشرعية للمواطنين الأكراد في تركيا، وكأنهم مواطنون مستقلون ذاتيًا.
وفيما يتعلق بالأسباب التي تقف وراء فشل الاتفاقية، فيمكن سردها على النحو الآتي:
ـ الاعتراض الشديد لرئيس الجمهورية على الاتفاقية وتفاصيلها، أردوغان رجل تركيا الأول ويحظي بكاريزما وقوة تأثيرية مبينة على حزب العدالة والتنمية الذي قام بتأسيسه والذي ما زال يعد الحزب الحاكم في تركيا.
برز تضاد إعلامي بين أردوغان وداود أوغلو – رئيس الوزراء الأسبق – على خلفية إمكانية العودة إلى مفاوضات عملية السلام، في مطلع أبريل المنصرم، إذ صرح داود أوغلو بأنه من الممكن العودة إلى طاولة الحوار في حال تخلى حزب العمال الكردستاني عن سلاحه وأخرج عناصره من تركيا بشكل كامل، ولم يلبث أن صرح داود أوغلو بذلك، حتى ظهر أردوغان أمام شاشة التلفاز، في اليوم التالي، مبديًا اعتراضه الشديد على أي خطوة جديدة تجاه التفاوض مع حزب العمال الكردستاني، مجددًا عدم اعترافه باتفاقية دولما باهتشي التي تم عقدها بين رواد الحكومة وممثلين عن حزب الشعوب الديمقراطي.
انبلجت قوة أردوغان الكاريزمية في مطلع الشهر الماضي، مايو، حيث طلب شخصيًا من أعضاء الهيئة المركزية العليا لحزب العدالة والتنمية بسحب بعض الصلاحيات من زعيم الحزب وقتئذ أحمد داود أوغلو، الأمر الذي أدى إلى امتعاض الأخير وإعلانه عن عزمه تقديم استقالته، وقد تم ذلك بتاريخ 22 مايو 2016، وحل محله بن علي يلدرم المعروف بإخلاصه الشديد لأردوغان، كما حل محل يالجين أق دوغان، مهندس اتفاقية دولما، “ور الدين جانيكلي المعروف بصرامته تجاه حزب العمال الكردستاني.
تغيير الحكومة والشخصيات المسؤولة بشكل مباشر عن اتفاقية دولما نبع عن إرادة أردوغان التامة، وهذا يُشير إلى أن اعتراض أردوغان لعب دورًا مباشرًا في إفشال اتفاقية دولما التي رأى منها أردوغان خطأ جسيم يمكن له أن يبرز اعتراف الحكومة التركية بحزب العمال الكردستاني على أنه الممثل الشرعي الرسمي للمواطنين الأكراد، وهذا ما لم ترد تركيا إبرازه خلال مجريات عملية السلام.
ـ مخالفة الاتفاقية للأعراف القانونية: يوضح هذه النقطة الباحث السياسي الحقوقي أحمد ترك، عبر مقاله “لماذا لم يكتب لاتفاقية دولما باهشي أن تكون اتفاقية؟” والذي نُشر عبر صحيفة “وحدت”، بتاريخ أبريل 2016، حيث يُشير إلى أنه “لم يرد في التاريخ أنه تم عقد اتفاقية مبادئ متبادلة بين الحكومة وإحدى الأحزاب السياسية البرلمانية، مؤكّدًا أن هيكلية وشكل الاتفاقية مخالفان للأعراف الدولية، وبالتالي لا يمكن قبول مشاوارات دولما على أنها اتفاقية مصالحة أو غير ذلك”.
ـ وجود نوايا مبيتة لدى حزب العمال الكردستاني للانقلاب على عملية السلام، وما يدلل على ذلك هو أنه على الرغم من فوز حزب الشعوب الديمقراطي بنسبة عالية في انتخابات 7 يونيو البرلمانية، وعلى الرغم من تعهد حكومة حزب العدالة والتنمية بالاستمرار نحو منح المواطنين الأكراد المزيد من الحقوق، إلا أن حزب العمال الكردستاني لم يكترث بذلك وانقض على عملية السلام، معتقدًا أن عدم الاستقرار السياسي الذي أصيبت به تركيا سيعطل تحرك الجيش ضد تأسيسه للحكم الذاتي في بعض المدن والنواحي، وهذا ما جعل جميع المشاورات المتبادلة بين الحكومة والعمال الكردستاني بما فيها اتفاقية دولما باهتشي التي حضرها حزب الشعوب الديمقراطي بالنيابة عن العمال الكردستاني، تنهار بشكل جذري.
ـ المواد المدرجة في إطار اتفاقية دولما باهتشي غير مناطة بالموافقة البرلمانية، ووفقًا للدستور التركي لا يمكن أن توصف هذه المواد على أنها اتفاقية.
ـ مخالفة بعض مواد الاتفاقية للمصالح التركية: إذ إن بعض مواد هذه الاتفاقية تمثل رؤية حزب العمال الكردستاني، مثل التفاصيل الكامنة في المادة الثانية والتي تنص على الاستقلال الذاتي لكافة مؤسسات الدولة تقريبًا، باستثناء التمثيل النيابي، وقد ظهر واضحًا كيف أن حزب العمال الكردستاني يستخدم بعض بلديات جنوب شرقي تركيا المستقلة إداريًا للقيام بأعماله الإرهابية، وهو ما أبرز حجم الضرر الذي عادت به مواد الاتفاقية المذكورة على المصالح القومية لتركيا، وجعلها اتفاقية مشؤومة لا يمكن القبول بها.
تسير الحكومة التركية، اليوم، على أساس إعادة التأهيل الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين الأكراد، حيث ترى أنه المبدأ الأمثل لحل المشكلة الكردية بشكل جذري، إذ يعتقد رواد الحكومة التركية الحاليين بأن الإهمال الاقتصادي والاجتماعي المتعاقب للمناطق ذات الكثافة الكردية، هو السبب الرئيسي في ظهور الأعمال الإرهابية للسطح، وللقضاء عليها لا بد من إعادة تأهيل تلك المناطق اقتصاديًا واجتماعيًا، لأنه بحصول الشباب على العناية الاجتماعية والفرص الاقتصادية سينأون بأنفسهم عن دعم الأعمال الإرهابية سواء على الصعيد الفعلي أو على الصعيد العاطفي حتى.
إثبات نجاح هذا المبدأ الجديد منوط بتجربته العملية التي تظهر مع مرور الوقت.