حصل تغير مفاجئ ليلة أمس في استطلاعات الرأي في بريطانيا بخصوص استفتاء يوم 23 يونيو/ حزيران، حيث عادت نسبة الراغبين في البقاء للارتفاع على من يود الخروج من الاتحاد بحسب صحيفة الديلي تلغراف البريطانية، حيث حصلت حملة البقاء على 53% في حين أن الخروج وقف عند 46% بعدما كانت نسبة التصويت في الأسبوع الماضي تشير إلى تفوق حملة المغادرة على البقاء بفارق نقطة مئوية في 13 يونيو.
ونتجية هذا التحسن في استطلاعات الرأي تحسنت أسواق الأسهم المحلية وانعكس على أداء الإسترليني دولار بشكل إيجابي حيث ارتفع الزوج إلى 1.46 من أقل سعر حققه يوم الخميس الماضي عند 1.40.
الخروج قد يجلب “الجمعة السوداء” لبريطانيا في أول يوم تداول بعد ظهور نتيجة الاستفتاء
توقع العديد من المحللين حول العالم أن استفتاء الخروج في بريطانيا سيؤدي لأضرار بالغة على مستوى الاقتصاد تبدأ بخروج الشركات الأجنبية وبالتالي فقدان ما يقرب من نصف مليون وظيفة في سوق التوظيف البريطاني بحسب وثيقة تم توقيعها من قبل قادة 30 من حزب العمال، إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي 5-6% خلال العامين المقبلين حسب وزير المالية البريطاني، وآخرها انهيار في سعر صرف الجنيه الإسترليني أمام الدولار والعملات الأخرى بمعدل 20% من قيمته.
المضارب العالمي المعروف جورج سوروس كتب يوم أمس لصحيفة الغارديان البريطانية أن الخروج قد يجلب “الجمعة السوداء” لبريطانيا في أول يوم تداول بعد ظهور نتيجة الاستفتاء، وقد يكون الانخفاض أكثر من الذي حصل في الأربعاء الأسود 1992 عندما خرجت بريطانيا من آلية الصرف الأوروبية، كما أن انخفاض الإسترليني لن يكون له فوائد على الاقتصاد الوطني كما يعتقد البعض من أنصار حملة الخروج الذين يعتقدون أن الصادرات الوطنية ستكسب ميزة تنافسية من انخفاض أسعار منتجاتها أمام المنتجات الأخرى فضلاً عن عائد السياحة.
ومن المتوقع أن يهبط سعر الإسترليني أمام الدولار في اليوم الأول بعد الاستفتاء إلى حدود 1.36 ويستمر في الهبوط في الأيام التالية إلى 1.15 حسب مؤسسة “إنتر ماركت استراتيجي”.
الأربعاء الأسود 1992
دخلت بريطانيا في العام 1990 في منظومة آلية الصرف الأوروبية الثابتة المسماة ERM والتي أسست في 1979 تمهيدًا لإدخال العملة الاوروبية الموحدة، حيث تم تثبيت سعر صرف الجنيه الإسترليني مقابل المارك الألماني بحيث كل 1 جنيه = 2.95 ماركًا مع هامش بسيط لتقلب سعر الصرف بين العملتين.
لكن لم تدم بريطانيا في هذه الآلية طويلاً، ففي 16 أيلول 1992 تخلصت منها بعد تعرض الجنيه الإسترليني لعمليات بيع هائلة من قبل مجموعة من المضاربين من بينهم جورج سوروس في سوق العملات الأجنبية بهدف تحقيق أرباح سريعة مستفيدين من نقاط ضعف نظام سعر الصرف الثابت، حيث لاحظ أولئك المضاربون في أيلول 1992 أنه تتم مبادلة الجنيه الإسترليني في مقابل المارك الألماني بيعًا وشراءً عند الحدود الدنيا لسعر صرف الإسترليني حسب الاتفاقية (1 جنيه = 2.3 مارك) ما دل على ضعف نسبي للجنيه ناجم عن ضعف أداء الاقتصاد البريطاني مقارنه مع أداء الاقتصاد الألماني خلال تلك الفترة، فتوقع المضاربون أن الجنيه سيستمر بالتراجع في مقابل المارك الألماني، فقاموا بشراء ماركات ألمانية بالجنيه الإسترليني ليعودوا ويبيعوا المارك لاحقًا للحصول على الإسترليني لكن بسعر منخفض.
لكن بنك إنجلترا المركزي سيتدخل ليحمي الجنيه من الانخفاض عند مستوى معين وبالتالي سيحول ذلك دون نجاح المضاربين في تحقيق أرباح كبيرة، لذا اعتمدوا على عرض كميات كبيرة جدًا من الجنيه للبيع بما يفوق طاقة بنك إنجلترا المركزي على إعادة شرائها من السوق لحماية الجنيه من التدهور.
وبسبب الملاءة المالية الضخمة لهؤلاء المضاربين وضعف القوانين المصرفية التي لم ترصد تلك المضاربات السلبية الهائلة إلا بعد وقوعها، فقد استطاع المضاربون الحصول على قروض بالجنيه الإسترليني بما يقارب الـ 10 مليار بهدف المضاربة بها، فقاموا بشراء المارك الألماني بالجنيهات وفقًا للسعر الذي حددته منظومة سعر الصرف الثابت ERM وهو 1 جنيه = 2.5 مارك، واستنادًا إلى توقعاتهم بأن عمليات البيع الضخمة هذه ستؤدي إلى انخفاض سعر صرف الإسترليني مقابل المارك وفق قانون العرض والطلب في السوق، وفي حال حدث ذلك فإنهم سيقومون بإعادة شراء الجنيه الذي انخفض سعره تجاه المارك باستخدام الماركات الألمانية التي حصلوا عليها من عمليات بيع الإسترليني قبيل انخفاض سعره تجاه المارك، وبالتالي يجنون أرباحًا خيالية من الفارق في سعر الإسترليني تجاه المارك. وحصل هذا بالفعل حيث وصلت أرباح جورج سوروس وحده 1.1 مليار دولار حققها على حساب انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني!
من المتوقع أن يهبط سعر الإسترليني أمام الدولار في اليوم الأول بعد الاستفتاء إلى حدود 1.36 ويستمر في الهبوط في الأيام التالية إلى 1.15.
فعليًا أخذ سعر صرف الجنيه بالتدهور مقابل المارك إلى مستويات خطيرة بسبب الكميات الهائلة من الإسترليني التي طرحت للبيع؛ ما اضطر بنك إنجلترا المركزي للتدخل في تلك السوق لحماية قيمة الجنيه من الانخفاض أكثر، حيث استهلك البنك المليارات من احتياطي النقد الأجنبي بسبب محاولته شراء الجنيه من المضاربين الذين كانوا يبيعونه وذلك لإبقاء سعر صرف الجنيه ضمن الحدود التي وضعتها اتفاقية ERM.
إلا أن ذلك لم يفلح تمامًا في حل مشكلة تدهور سعر صرف الجنيه، ما دفع بنك إنجلترا للجوء إلى السياسة النقدية كوسيلة أخرى للدفاع عن الجنيه تمثلت برفع معدل الفائدة من 10% إلى 12% ثم إلى 15% دفعة واحدة وخلال يوم واحد، لإقناع المستثمرين والمضاربين بإعادة شراء الجنيه والاحتفاظ به من جديد في مقابل العملات الأخرى، ولكن الخطوة جاءت متأخرة وعمليات بيع الجنيه استمرت بوتيرة متزايدة بسبب تردد بنك إنجلترا المركزي في رفع سعر الفائدة بشكل فوري أو قيامه بتعويم الإسترليني مباشرة لحماية احتياطياته.
وفي مساء يوم 16 أيلول 1992 سمي ذلك اليوم بالأربعاء الأسود حيث قررت بريطانيا الانسحاب من اتفاقية ERM لتثبيت سعر الصرف، ليتخذ الجنيه الإسترليني قيمته الحقيقية في سوق العملات الأجنبية والتي انخفضت إلى حدود 2.2 مارك للجنيه الإسترليني الواحد بعدما كان يعادل 2.95 في ظل اتفاقية ERM وبهذا تولت قوى العرض والطلب في السوق دور تحديد سعر الصرف الحقيقي للجنيه آنذاك من دون تثبيت مسبق.