منذ اشتعال الفتيل الأول للثورة السورية صبيحة الجمعة 15 مارس 2011، وقد سارعت الدول المجاورة والقوى الإقليمية والمؤسسات الأممية في اتخاذ مواقعها حيال ما يحدث على الأرض، كاشفة عن سياساتها وتوجهاتها إزاء الانتفاضة الشعبية التي كست شوارع دمشق وحلب ودرعا.
المملكة الأردنية الهاشمية تعد من الدول القلائل التي آثرت الحياد والوقوف على نفس المسافة من جميع الأطراف المتنازعة، آملة أن يكون هذا التوجه “جواز سفر” نحو الاستقرار، وعدم الزج بها في آتون الحرب والمعارك المشتعلة هنا وهناك.
وبعد مرور خمس سنوات تقريبًا على الأزمة السورية، ها هي الأردن تكتوي بنيران سياستها الحيادية، ولم يشفع لها تأرجحها ما بين الميل للحل السياسي للأزمة ومناهضة المعارضة في كثير من الأحيان في أن يجعلها بمأمن من توتر الأحداث داخل الجوار السوري.
وجاء تفجير “الركبان” الأخير والذي أودى بحياة 6 جنود وإصابة 14 قرب الحدود السورية، ليضع العديد من علامات الاستفهام حول مستقبل الوضع في الأردن لاسيما وأن هذا التفجير ليس الأول ومن الواضح أنه لن يكون الأخير، فهل تدفع الدولة الهاشمية ثمن سياستها الخارجية تجاه الأزمة السورية؟
الأردن وبراجماتيكية الموقف من الأزمة
تميّز الموقف الأردني من الأزمة السورية منذ اندلاعها 2011 بـ “البراجماتيكية العميقة”، وبالرغم من تأرجح الموقف بين الحين والآخر إلا أنه في نهاية الأمر يصب في صالح دعم نظام بشار الأسد، والحيلولة دون إسقاطه والقضاء عليه.
والمدقق لمحطات الخارجية الأردنية في تقييمها للموقف السوري يجد أن سلطة عبدالله الثاني قد اتخذت ثلاثة سيناريوهات متباينة، يتم التعاقب بينها تبعًا لتطورات المشهد الداخلي والخارجي هناك في دمشق.
– السيناريو الأول: دعم نظام بشار الأسد، وهو ما اتضح منذ بداية الأزمة، حيث أعلنت عمّان عن دعمها الكامل للنظام السوري القائم ورفضها لما أسمته بـ “الفوضى” حينها، واتهمت المعارضة السورية بالعمالة وأنها تعمل لحساب أجندات خارجية.
وقد تسبب هذا الموقف الداعم للأسد ورفاقه في إحداث حالة إيجابية في العلاقات مع روسيا وإيران في الوقت الذي انعكس سلبًا على العلاقات مع السعودية ودول الخليج فضلاً عن تيارات الإخوان والمعارضة الأردنية بالداخل.
وظلت الإدارة السياسة بالأردن حتى منتصف العام الحالي تعتقد أن بقاء نظام بشار الأسد أفضل من سيطرة جماعات دينية تراها “متطرفة” على السلطة في دمشق، تصبح سوريا في ظلها بلدًا ممزقًا، وتغرق في حرب أهلية لا تنتهي، ومصدر تهديد لدول الجوار، على حد قولهم.
عمّان ترى أن التدخل العسكري الدولي في سوريا أمر غاية في الصعوبة فضلاً عن استبعاده في الآونة الأخيرة، فكما يقول خبراؤها العسكريون: سوريا ليست ليبيا، وحلف “الناتو” سيفكر ألف مرة قبل أن يضغط على الأزرار، فالمعلومات المتوفرة للدول الغربية تؤكد بأن سوريا تملك منذ عامين تقريبًا أحدث منظومة للدفاع الجوي، ومن ثم وحسب كلام الخبراء العسكريين، لا شيء يمكن أن يدفع بالغرب لخوض مغامرة عسكرية، ولكن نتيجة التحولات الإقليمية والدولية وتغير أوراق اللعبة داخل المشهد السوري ما كان أمام عمّان سوى أن تعيد حساباتها وتنتقل على الفور للسيناريو الثاني.
– السيناريو الثاني: الانتقال السلمي التدريجي للسلطة، بعد مرور ثلاثة أعوام على الأزمة السورية خلفت وراءها سلسلة من الجرائم والانتهاكات بحق الملايين من السوريين في الداخل والخارج، وما نجم عنها من انحياز لبعض القوى الغربية لخيار تنحي الأسد، فضلاً عن عدد من التطورات الميدانية الأخرى، أدرك الأردن أنه لا مجال للاحتفاظ بالموقف السابق دون تطوير، ومن ثم لم يجد الملك عبدالله الثاني أمامه إلا التراجع خطوة للخلف، وإعادة حساباته مرة أخرى، ومن ثم تحول الموقف الأردني من الدعم المطلق لنظام بشار الأسد إلى إعطائه فرصة إكمال دورته الرئاسية الحالية وإجراء انتخابات رئاسية بعدها يعقبها انتقال سلمي للسلطة، مع التأكيد على رفض دعم المعارضة أو الاشتراك في أي عمل عسكري ضد جيش الأسد.
– السيناريو الثالث: دعم المعارضة السياسية، في الأشهر الثلاثة الأخيرة، وبعد انسحاب القوات الروسية – شكليًا – من الأراضي السورية، وما تلاه من لقاءات مكثفة بين الجانبين الروسي والأمريكي بشأن ضرورة خروج الأسد من المعادلة، والبحث عن انتقال سلمي للسلطة يضمن مشاركة كافة الإطراف، رأت الأردن أنه من الأفضل العودة للوراء خطوة أخرى، لتعلن استعدادها لدعم المعارضة المدنية سياسيًا، في مواجهة التيارات المتطرفة والناشطة عسكريًا.
الأردن البراجماتيكية أرادت أن تحافظ على ماء وجهها السياسي إثر التحولات المتباينة في مواقفها حيال الأزمة من خلال وضعها لعدة شروط في مقابل دعم المعارضة سياسيًا، منها، وحدة سورية أرضًا وشعبًا، وضمان مشاركة جميع مكونات الشعب السوري وطوائفه في تقرير مستقبل سورية، والمحافظة على الجيش السوري موحدًا وقوة وحيدة في البلاد، ومن ثم لم تجد عمّان غضاضة في إبداء استعدادها للتعاون مع شخصيات سياسية في المعارضة السورية من بينها رئيس الوزراء المنشق رياض حجاب الذي يدير من عمان سلسلة اتصالات لبلورة تصور لحل سياسي في سورية يوقف شلال الدماء ويضمن انتقالا كاملا للسلطة.
من الواضح أن عمّان بات لديها قناعة لا تقبل الشك أن النظام السوري يخسر بسرعة كثير من رصيده من العملات الصعبة، ويواجه صعوبات في تأمين احتياجاته من الطاقة، بينما هناك دعم محسوس للمعارضة في سورية، لكنها ترى أن سقوط نظام الأسد ليس بالأمر الهين لاسيما في ظل الدعم السوري والإيراني.
العاهل الأردني والرئيس الروسي وتطابق الرؤى حيال الأزمة السورية
انفجار الركبان وجرس الإنذار
في تمام الساعة 5.30 بتوقيت الأردن، 2.30 بتوقيت جرينتش، صباح اليوم الثلاثاء، قام مجهولون بتفخيخ سيارة تابعة للجيش في منطقة الركبان قرب الحدود الأردنية السورية، أسفرت عن مقتل 6 جنود وإصابة 14، حسبما أعلن الجيش الأردني
القيادة العامة للقوات المسلحة الأردنية – في بيان لها – أشارت إلى أن جميع القتلى والمصابين من منتسبي القوات المسلحة، وقد سقطوا في تفجير سيارة مفخخة على الساتر الترابي مقابل مخيم اللاجئين السوريين في منطقة الركبان شمال شرق البلاد، مع تأكيد البيان على أنه قد تم تدمير عدد من الآليات المهاجمة المعادية بالقرب من الساتر.
الجدير بالذكر أن هذا التفجير قد وقع في المنطقة المخصصة لإقامة ما يقرب من 70 ألف من اللاجئين السوريين، وهو ما تخشاه السلطات الأردنية بشأن وجود خلايا نائمة تابعة لتنظيم “داعش” الإرهابي بين هؤلاء اللاجئين، ويخططون لاستهداف المملكة بعمليات إرهابية مابين الحين والآخر.
كما أن هذه المنطقة الواقعة جنوب سوريا وشمال الأردن باتت خلال الأيام الماضية منصة لإطلاق الصواريخ الروسية ما بين الحين والآخر، مما تسبب في مقتل المئات من السوريين، فضلاً عن العشرات من تنظيم داعش، وهو ما يرجح احتمالات أن تكون هذه العمليات ضد الأردن رد فعل انتقامًا لما تقوم به القوات الروسية، لاسيما في ظل تطابق الرؤى بين عمّان وموسكو فيما يتعلق بمحاربة داعش وإجهاض المعارضة السورية.
العديد من التساؤلات فرضت نفسها عقب هذا الحادث لاسيما وأنه يأتي بعد أسبوعين فقط على هجوم استهدف مكتبًا تابعًا لدائرة المخابرات الأردنية شمال عمّان، وأوقع خمسة قتلى من رجال المخابرات، مما يشير إلى وضع المملكة تحت مجهر الاستهداف الإرهابي، وهو ما يرجح احتمالية وقوع مثل هذه التفجيرات مستقبلاً، لاسيما وأن الأردن إحدى الدول المشاركة في التحالف الدولي بقيادة واشنطن ضد تنظيم “داعش” في سوريا والعراق.
ليس الأول ولن يكون الأخير
بالرغم من أن الأردن تعد من الدول المصنفة كونها دولة “مستقرة” نتيجة ما تنتهجه من سياسات محايدة على طول الخط، إلا أن هذا لم يضمن لها الحماية الكاملة، ولم يكن حادث الركبان فجر الثلاثاء هو الأول من نوعه الذي تتعرض له عمّان، بل سبقه عدة حوادث وتفجيرات خلال السنوات القليلة الماضية، نبرزها في بعض النقاط.
– تفجيرات عمان 2005: في التاسع من نوفمبر من هذا العام استهدف تنظيم القاعدة عددًا من فنادق العاصمة الأردنية عمّان من خلال سلسلة تفجيرات صنفت بأنها الأعنف في تاريخ الأردن الحديث، أسفرت عن مقتل 57 شخصًا، سقط معظمهم أثناء حفل زفاف بأحد الفنادق، وتبنى التنظيم الهجوم بزعامة الأردني أبو مصعب الزرقاوي، الذي قتل لاحقًا في قصف أمريكي في العراق.
– استهداف السائحين 2006: في سبتمبر من هذا العام، وفي حادثة لم يعتدها الأردنيون حديثًا، استهدف شخص في حادثة إطلاق نار في عمان عددًا من السياح، وقتل في الهجوم سائح بريطاني وإصابة 5 آخرين من بينهم بريطانيتين وهولندي وأسترالية ونيوزلندية.
– هجوم مركز التدريب 2015: في التاسع من نوفمبر من العام الماضي، أطلق ضابط أردني النار على مركز تدريب للشرطة في الموقر قرب العاصمة عمان، وأسفرت العملية عن مقتل 6 أشخاص من بينهم أميركيين وجنوب إفريقي والجاني، وقد ذكرت مصادر أردنية حكومية في حينها أن الواقعة عمل فردي لا يحمل أي أبعاد سياسية.
– خلية إربد 2016: في الثاني من مارس الماضي، وقعت مواجهات مسلحة بين الأمن الأردني ومتطرفين أسفرت عن مقتل ضابط أردني و7 متشددين وأصيب آخرون، في عملية أمنية بمدينة إربد شمالي البلاد.
وقال رئيس الوزراء الأردني وقتها عبد الله النسور: “إن عناصر الخلية الإرهابية مرتبطة بتنظيمات إرهابية كانت خططت للتعدي على أمن الوطن والمواطنين”.
– هجوم البقعة 2016: منذ ما يقرب من أسبوعين تقريبًا وبالتحديد في السادس من يونيو الجاري استهدف مسلح مركزًا للمخابرات الأردنية قرب مخيم البقعة شمال عمان، أسفر عن 5 قتلى من عنصر المخابرات، وقد تم إلقاء القبض على المتورط في هذا الهجوم وتبين انتماؤه وتأييده لجماعات متطرفة.
رجال الأمن الأردنيون يطاردون المتورط في استهداف مركز المخابرات بالبقعة
ويبقى السؤال: وماذا بعد؟
لا شك أن السلطة الحاكمة في الأردن الآن أيقنت أن سياسة الحياد والوقوف على نفس المسافة من جميع الأطراف المتنازعة داخل الأزمة السورية لن يجعلها في مأمن من الاستهداف الإرهابي، وهو ما تكشف لها في أكثر من حادث في الآونة الأخيرة، ولم يعد أمام الحكومة الأردنية بعمّان سوى الإعلان صراحة عن موقفها السياسي في محاولة لاتخاذ كافة التدابير التي من شأنها حمايتها من الطعن في أي وقت، وذلك من باب القاعدة العسكرية: الهجوم خير وسيلة للدفاع.
كما أنه على القيادة الأردنية أن تعلم أن ملاصقتها للحدود السورية يتوجب عليها إعادة النظر في توجهاتها الحيادية مرة أخرى، إذ إنها باتت – برغبة منها أو عنها – طرفًا أساسيًا في الأزمة، وذلك على عكس الوضع في طهران أو الرياض أو موسكو أو واشنطن، فهل تستوعب عمّان الدرس جيدًا لتصبح طرفًا في الحل بدلاً من أن تكون طرفًا في الأزمة؟