“الجهاديون يعلنون الخلافة! .. هل يمكن هزيمة الإرهابيين؟ .. الفوضى تجتاح محافظة الانبار!” .. يمكن لهذه العناوين أن تظهر بسهولة اليوم على الشاشات كما ظهرت قبل عشر سنوات. فعندما كنت قائدا لكتيبة في مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار في بداية ما أصبح يعرف باسم صحوة الأنبار، كنت على الخطوط الأمامية للمعركة ضد الجهاديين السنة، وشاهدت مباشرة ما احتاجه الأمر لهزيمة تنظيم القاعدة في العراق.
ويحتاج العراق بشدة إلى تعلم الدروس المستفادة من تلك الحقبة للفوز في حربه ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). اليوم، تحولت مدينة الرمادي إلى أطلال بعدما انتزعتها القوات العراقية بدعم من القوات الجوية الأمريكية، وبعض مقاتلي العشائر السنية، وقوات الحشد الشعبي الشيعية من سيطرة الدولة الإسلامية. لقد تم تدمير المدينة التي يقطنها 400000 نسمة من أجل تحريرها، والآن تواجه الفلوجة مصيرا مماثلا، حيث توغلت القوات العراقية أكثر إلى داخل المدينة على مدار الأسبوع. وتشي الأخبار القليلة القادمة من هناك بالفظائع التي تتم ضد المدنيين عن طريق كل من تنظيم الدولة الإسلامية والميليشيات الشيعية.
لا ينبغي أن تسير الأمور على هذا النحو. وفيما يلي ثلاثة دروس تعلمتها في الرمادي ينبغي أن يتم استحضارها في المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية اليوم:
أولا: القضاء على قادة الإرهابيين ما هو إلا تشفي على المدى القصير. ففي اليوم الذي تولت فيه كتيبتي مسؤولية تطويق المداخل الغربية لمدينة الرمادي في يونيو 2006، قتلت قوات التحالف أمير تنظيم القاعدة في العراق أبا مصعب الزرقاوي، في غارة جوية. وكان الزرقاوي شخصا عنيفا وقادرا على استخدام وسائل الإعلام ببراعة لصالحه: فخلال الأشهر التي سبقت وفاته، قام بنشر أشرطة فيديو تحتوي على ذبح الغربيين والعراقيين على حد سواء على شبكة الإنترنت، وبث الخوف في الشعب العراقي، وتمكن من تعزيز مكانة تنظيمه. ولم تحر قوات التحالف جوابا على هذا الزخم الإعلامي، والنجاح يولد النجاح. وتوافد جهاديو العالم على تنظيم القاعدة في العراق، ودخلت البلاد في مزيد من الفوضى.
وفي الرمادي، رأينا العدو يحاربنا منقسما بين جماعتين. فقد كان هناك جماعة العراقيين العلمانيين السنة الذين تم حرمانهم من حقوقهم بسبب سياسات التحالف المعادية للبعث، وقد أطلقنا على هذه الجماعة جماعة المجاهدين. بينما كانت الجماعة الأخرى تتمثل في المقاتلين ذوي الدوافع الدينية المنتمين إلى حركة الجهاد العالمي. وعندما وصلت كتيبتنا إلى الرمادي، كانت جماعة المجاهدين تحت سيطرة رجال تنظيم القاعدة الأشداء في العراق. وكان السكان المحليون يخافون الحكومة العراقية التي يقودها الشيعة والتي تهيمن عليها إيران أكثر من خوفهم من حكم الجهاديين السنة، وقبلوا على مضض حكم الجهاديين السنة بينما سعوا إلى إيجاد وسيلة للخروج من هذا الموقف.
ولم يكن أبو أيوب المصري ،خليفة الزرقاوي، على نفس الدرجة من قوة سلفه. وخلال فترة توليه زعامة تنظيم القاعدة في العراق شهد التنظيم اثنان من الأحداث التي لم يتمكن أحد من التنبؤ بها بسهولة كانا سببا في تدمير التنظيم. كان أول هذه الأحداث تشكيل مجلس صحوة الانبار، تحت قيادة عبد الستار أبي ريشة، الذي وحد زعماء العشائر السنية لمواجهة الجهاديين. وقد تطلب هذا الأمر إعادة بناء المؤسسات السياسية والأمنية، مثل قوات شرطة المدينة المحطمة والتي أثبتت كفاءة استثنائية في اقتلاع جذور الإرهاب. وقد تحدث أبو ريشة إلى العراقيين بلهجة لم تكن قوات التحالف قادرة على استخدامها، وشحذ عزيمة الشعب باقتباسه من القرآن، وقال لهم إن الشوارع ستمتلئ بدماء أعدائهم. وقد ساعد خطاب مجلس الصحوة على حشد الناس في الرمادي، ثم محافظة الأنبار، ثم التقاء السنة والشيعة على رؤية دولة عراقية أكثر سلاما وديمقراطية.
بينما كانت الانتكاسة الثانية لتنظيم القاعدة في العراق متمثلة في “الطفرة” التي بدأت في يناير 2007، عندما رفع الرئيس جورج دبليو بوش عدد القوات الأمريكية في العراق عندما دعا الرأي العام الأمريكي للانسحاب من الصراع. وقد استفاد هذا الهجوم العسكري الجديد من النجاح السياسي لصحوة الأنبار، وقام بتعزيزها في جميع أنحاء البلاد. وسوف يواصل المصري وتنظيمه محاربة قوات التحالف وترويع العراقيين لمدة ثلاث سنوات أخرى. ولكن بحلول وقت وفاته في العام 2010، كانت مكافأة التحالف للقبض على المصري قد انخفضت من 5 ملايين دولارا إلى 100000 دولارا . وأصبح تنظيم القاعدة في العراق مطاردا مع وجود عدد قليل فقط من المؤمنين به ينتشرون في جميع أنحاء البلاد.
ومع ذلك، بعد أربع سنوات من وفاة المصري، أصبح تنظيم القاعدة في العراق أكثر فتكا من أي وقت مضى. وسيطر التنظيم على الفلوجة والموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، كجزء من مداهمات العراق وسوريا غير المسبوقة. واليوم، أثبت الزعيم الجديد للتنظيم ،أبو بكر البغدادي، أنه أكثر قدرة، وأكثر صلابة، وأكثر ذكاء إعلاميا من معلمه الزرقاوي.
وتحاول الحكومة العراقية الآن استعادة السيطرة على محافظة الأنبار دون الكثير من الأدوات التي امتلكتها القوات الأمريكية وحلفاؤها العراقيون في عامي 2006 و 2007. حيث تفتقر إلى السردية القوية المناهضة للجهاديين، والتي وفرها مجلس الصحوة سابقا. والأهم من ذلك، أنها تفتقر إلى قوات قوية من السنة لدعم الحكومة، ويرجع ذلك إلى السلوك الطائفي للقادة العراقيين في بغداد منذ العام 2011. وعلى الرغم من أن الحكومة العراقية قد تكون ناجحة على المدى القصير في دحر تنظيم الدولة الإسلامية – و قد تنجح حتى في قتل البغدادي – إلا أن نقاط الضعف هذه تشير إلى أنها سوف تعاني من أجل احتواء من يحل محله.
ثانيا: قبل إمكانية إحلال السلام، يجب أن يكون هناك حل سياسي. في عام 2006، كان لدينا مهمة واضحة المعالم: تأسيس عراق ديمقراطي آمن. فعن طريق المواقع القتالية الصغيرة، والعمل مع القادة المحليين، وإعادة تأسيس قوات الأمن العراقية، وتحديدا الشرطة المحلية، كنا قادرين على تحويل دفة الأمور في محافظة الأنبار. وفي غضون سنة من وصول القوات الأمريكية، تحولت مدينة الرمادي من أخطر مدينة في العالم إلى مدينة آمنة بما فيه الكفاية للعراقيين لكي يقيموا فيها سباقا بطول خمسة كيلومترات.
ومع ذلك، عمد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى تحطيم المناخ الذي عملنا بجهد من أجل خلقه. وبعد يوم من انسحاب القوات الامريكية في ديسمبر عام 2011، كرر المالكي تصرفات أسوأ من تصرفات سلطة الائتلاف المؤقتة، وبدأ استعداء الاقلية السنية من خلال توجيه الاتهامات ضد نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، وتجريد زعماء السنة من المناصب العسكرية والحكومية وإرسال الجيش العراقي إلى محافظة الأنبار لقتل “الإرهابيين”، وهم السنة من وجهة نظره. ويرجع صعود الدولة الإسلامية مباشرة إلى قرارات المالكي المشؤومة خلال هذه الفترة.
وقد استغلت البقية الباقية لتنظيم القاعدة في العراق هذه الفرصة. وواجه أهالي محافظة الأنبار مرة أخرى خيارين: الاصطفاف إلى جانب الحكومة الشيعية التي تسيطر عليها إيران والتي يعتقدون أنها عازمة على قمعهم، أو الوقوف مع الشيطان الذي يعرفونه: الجهاديين السنة.
وقد استغل البغدادي وأتباعه بخبرة تخوفات المواطنين العاديين لتوسيع سلطتهم. وعندما سقطت الفلوجة في أيدي الدولة الإسلامية في يناير عام 2014، لم يكن هناك سوى بضع مئات من المقاتلين الجهاديين المتشددين في المدينة. وكانوا يحاربون كلا من قوات الحكومة العراقية وقوات مجلس الصحوة القبلية، التي انتهجت نهجا سلميا غالبا مع الحكومة العراقية. وللأسف، انضمت بعض القوى القبلية السنية لاحقا – بعد أن نفد صبرها من الوسائل السلمية لمجلس الصحوة – إلى الدولة الإسلامية لمقاومة حكومة بغداد غير الشرعية حسبما يرونها.
وبحلول موعد استقالة المالكي في شهر أغسطس، كانت الدولة الإسلامية قد سيطرت على مساحات واسعة من العراق. وجاء رئيس الوزراء الجديد، حيدر العبادي، الى السلطة بوعد تشكيل حكومة أكثر شمولا، ولكنه لم يتمكن من تغيير صورة حكومة بغداد التي لا تستجيب لمصالح أقليات العراق، وخاصة العرب السنة. وبالنظر إلى اقتحام أتباع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر مؤخرا للبرلمان العراقي، لازال العبادي يعمل على تأسيس شرعيته بين المجتمعات الشيعية في العراق، فضلا عن السنية.
ويبدو أن تحول العبادي مؤخرا من مطاردة الدولة الإسلامية في الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، إلى تطهير الفلوجة – وهو تحول ليس عسكريا بالضرورة – محاولة من جانبه لحشد دعم القاعدة الشيعية العازمة على الانتقام من السنة بسبب قرون من الاضطهاد والاختلافات الدينية الأساسية.
ثالثا: تحقيق الاستقرار في العراق هو التزام على المدى الطويل. إذ لا يمكن أن يتم الربط بين حل مشاكل العراق وبين الجدول الزمني للدورات الانتخابية الأمريكية. لقد هاجمنا العراق في الداخل والخارج على مدى 25 عاما مضت، بدءا من عملية عاصفة الصحراء، انتهاء الآن بعملية الحل المتأصل.
هزيمة الدولة الإسلامية هدف مهم، ولكن ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ فوجود عراق تهيمن عليه إيران سوف يكون بمثابة أرض خصبة للجهادية السنة ويساعد على إشعال الحرب الطائفية بين السنة والشيعة في المنطقة. ومثلما أدت هزيمة تنظيم القاعدة في العراق أو قتل أسامة بن لادن إلى تحول أشكال التهديد فقط، فإن هزيمة الدولة الإسلامية يمكن أن تؤدي فقط إلى وجود جماعة جهادية جديدة تحل مكانها.
تحتاج الولايات المتحدة إلى الاعتراف بأن المشكلة الجهادية لا يتم حلها. وسوف تتطلب هزيمتها التزاما مستمرا من قبل تحالف دولي – يضم الدول الإسلامية تحديدا – لوقف السرطان من النمو. وهذا هو ما حدث بشكل مصغر في الرمادي في عامي 2006 و 2007. إحلال السلام في انحاء العراق سوف يستغرق سنوات ، تماما كما استغرق استقرار ألمانيا واليابان وإيطاليا وكوريا الجنوبية في القرن العشرين عشرات السنين.
المصدر: فورين بوليسي – ترجمة: إيوان 24