هل سيكون خروج بريطانيا من أوروبا جيدًا لأمريكا؟

ترجمة مصطفى عبدالوهاب
شارك في كتابة التحليل ديجي نوردقيست:
في الثالث والعشرين من هذا الشهر ربما سيتقرر مصير الاتحاد الأوروبي، هل ستبقى أوروبا كتلة واحدة في السراء والضراء، أم هل تبدأ بالتفكك؟ وإذا صوّتت المملكة المتحدة على مغادرة الاتحاد الأوروبي، سيؤثر هذا الخروج بشكلٍ كبير على الاقتصاد العالمي برُمّته وتحديدًا أسواق المال.
تُظهر استطلاعات الرأي الأخيرة إمكانية فوز خيار “المغادرة” في هذا الاستفتاء، وهو أمر لم يكن يخطر على بال أحد منذ بضع سنوات، ولكن ربما تكون الأزمات المالية المتلاحقة (في البدء الأزمة المالية العالمية التي بدأت هنا في الولايات المتحدة وبعد ذلك أزمة الدَين العام التي بدأت في أوروبا) غيرت الرأي العام البريطاني في جدوى البقاء في مشروع أوروبا السياسي الكبير.
وكما يُعد ملف الهجرة الملف الأبرز في السجال السياسي في أمريكا، فإنه يلعب دورًا محوريًا في نظيره البريطاني، فالمخاوف حول الهجرة غير الشرعية (المهاجرين واللاجئين) تهيمن على الساحة في كلا البلدين، ولكن الناخبين في بريطانيا قلقون أيضًا من مواطني دول الاتحاد الأوروبي الذين يهاجرون بطريقة شرعية إلى بريطانيا.
ويفاقم هذه المخاوف إشارات على تقدم مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مما أدى إلى تخوف بعض المواطنين البريطانيين، فإذا انضمّت إلى الاتحاد، ستكون تركيا أكبر دولة بعد ألمانيا في الاتحاد الأوروبي، كما أنّ الأجور فيها منخفضة وستكون الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة في الاتحاد الأوروبي.
والنقاط الأخرى التي تذكرها حملة “لنغادر” تتركز حول نقل السيادة والسلطة إلى “بيروقراطيين غير مساءلين” في بروكسل ومحكمة العدل الأوروبية في قضايا عديدة، مما دفع الكوميديان جون كليز إلى التعبير عن الرأي الشعبي حول مصادرة البيروقراطية الأوروبية لأي شكل من أشكال المساءلة الديمقراطية.
أما حملة “لنبقَ” فتركزعلى مميزات عضوية الاتحاد الأوروبي، وهي عديدة وأغلبها ذي طابع اقتصادي، فلقد قدّرت وزارة المالية البريطانية كلفة مغادرة الاتحاد بـ 4300 جنيه إسترليني لكل أسرة بريطانية، وهذا مبلغ كبير إذا أخذنا في الحسبان أن 50% من الأسر البريطانية تربح 25000 جنيه إسترليني أو أقل كل عام، كما أنّ مغادرة الاتحاد ستؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد البريطاني مما سيؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي بحوالي 6% مع حلول العام 2020، وفوق ذلك ربما ستتعاطى الأسواق بطريقة غير متوقعة مع مغادرة بريطانيا للاتحاد مما سيؤدي لانخفاض كبير في قيمة الجنيه الإسترليني، وقد قدّر بعض المحللين أنّ الانخفاض سيكون بمعدّل 10%، وهذا سيزيد من أسعار الواردات بدرجة كبيرة في نفس الوقت الذي ربما سيحصل انكماش اقتصادي إنْ غادرت بريطانيا الاتحاد.
وتتسم بريطانيا تقليديًا بكونها بين أمريكا والقارة الأوروبية، ليس فقط جغرافيًا ولكن أيضًا على صعيد السياسات، فعلى الصعيد العام تختلف بريطانيا عن القارة الأوروبية في نواحي عديدة مثل سوق عمل أكثر مرونة، أسواق مالية أكثر تقدمًا، وتدخل حكومي أقل في تنظيم الاقتصاد.
فلقد اختارت بريطانيا الحفاظ على عملتها الخاصة ولم تنضم إلى منطقة اليورو، محافظةً على الجنيه الإسترليني الذي انخفض إلى أدنى مستوياته في الآونة الأخيرة نتيجةً للشكوك حول مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي.
وستُحْدث مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي بلبلة كبيرة في الأسواق العالمية والمؤسسات الاقتصادية والشركات التي ستغادر لندن على الأغلب، فالأسواق تفضّل الاستقرار ولا تريد أو تتوقع مثل هذا النوع من التحديات، والأسواق قلقة من الآن بالفعل، فالأسهم تتراجع، والأموال تتدفق في شراء سندات الدَين العام ذات المخاطر المنخفضة، فالعائدات المتوقعة من شراء أذون الخزانة الأمريكية بلغت أدنى مستوياتها خلال عشر سنوات، كما أنّ عائدات أذون الخزانة الألمانية بلغت رقمًا قياسيًا جديدًا: عائد سلبي نظرًا لشدة الإقبال عليها.
فالمستثمرون في أوروبا قلقون لدرجة تدفعم لدفع المال على مدى عقد من الزمن، فقط للحفاظ على الدَين الألماني، كما ستتغير العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي وباقي دول العالم، مؤثرةً بذلك على عوائد الاستثمار وأسعار الأصول، لكن لا أحد يعلم كيفية ونسبة الزيادة، فببساطة ليس معلومًا كم من الوقت ستأخذ إعادة تحديد وترسيم العلاقات، وهذه البلبلة هي التي تؤثر حاليًا على الأسواق.
ولقد تحدث مارك كارني محافظ بنك إنجلترا، عن العواقب الوخيمة المترتبة على مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي التي ستترك أثرًاعلى الاستقرار المالي مع “مخاطر نابعة من ارتفاع عجز الميزانية الحالي، أسواق العقارات، السيولة وامتداد هذه التأثيرات السلبية إلى باقي دول الاتحاد الأوروبي”، كما أيدت جانت يلن محافظة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وجهة النظر هذه.
ولكن يعتقد البعض أنّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيأتي بالنفع على الولايات المتحدة على المدى القصير خصوصًا إذا تم خفض نسبة الفائدة مما سيؤدي إلى رفع مستوى التنافسية الأمريكية في الخدمات المالية مقارنةً بلندن، مركز أوروبا المالي، وعلى المدى القصير ستستفيد بعض القطاعات الأمريكية وتحديدًا وول ستريت والقطاع المالي في نيويورك الذي سيعزز موقعه مقابل لندن كعاصمة العالم المالية.
وكما أنّه من المستبعد أنْ تغادر شركات عديدة لندن بالكامل، لكنها ستقلل من حجم تعاملاتها الآن وفي المستقبل، ولدى بريطانيا أعلى نسبة أوروبية للوظائف في قطاع المال من مجموع الوظائف الكلّي، والعديد من هذه الشركات ليست فقط أوروبية ولكن من كل أنحاء العالم، فالموظفون من بلاد مثل فرنسا، ألمانيا، إيطاليا وأميركا سيعودون إلى بلادهم، مما سيؤدي إلى ظاهرة “هجرة/ استنزاف عقول” في بريطانيا.
وسيُحْدث خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي انخفاضًا عالميًا في أسعار الأسهم نظرًا لتخوف المستثمرين من آثار هذا القرار على الاقتصاد البريطاني، وربما يؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي على طريقة تساقط أحجار الدومينو، ويجب أنْ نتذكر أنّ التصويت على المغادرة سيكون فقط الخطوة الأولى في طريق خروج بريطانيا من الاتحاد.
وعن تفاصيل الخروج فيجب أنْ تتفق عليها جميع الأطراف وربما تكون هذه البنود هي المقياس الذي سيتبعه الأعضاء الذين سيريدون لاحقًا الخروج من الاتحاد، وربما يعاقب الاتحاد الأوروبي بريطانيا على خروج، ولكن مع ذلك ربما تختار بعض الدول أنْ تحذو حذو بريطانيا: اليونان، بلاد أخرى؟ وإذا اختارت بريطانيا المغادرة، ربما لن تختار جميع مكوناتها الجغرافية الخروج كذلك، فوفقًا لاستطلاعات الرأي فـ 60% من الناخبين في إسكتلندا يفضلون البقاء في الاتحاد الأوروبي مقابل 43% فقط يوافقونهم الرأي في إنجلترا، وفي حالة الخروج، فإنه ليس من المستبعد أنْ تحاول إسكتلندا إجراء استفتاء جديد حول الانفصال عن بريطانيا وسيؤثر ذلك أيضًا على إيرلندا الشمالية التي تمتعت بهدوء نسبي في الفترة الأخيرة، وهذا بالإضافة إلى إشعال فتيل النزعات الانفصالية في باقي أرجاء أوروبا.
والأهم من ذلك يجب علينا النظر إلى التصويت على المغادرة بعين الحذر وأنْ نحثهم على البقاء، فاقتصادنا لا يحتاج أزمة عالمية أخرى، وضعف الاقتصاد العالمي والبلبلة في الأسواق المالية ليست الوصفة المثالية لنمو اقتصادي قوي، فالتغيير الذي سيحدثه خروج بريطانيا سيكون أثره مضاعف علينا (الولايات المتحدة).
وبينما ننتظر نتيجة التصويت، ربما يجدر بنا أنْ نتذكر تجربة مرت بها الولايات المتحدة، فخلال الأزمة المالية في ٢٠٠٨ عارض الرأي العام فكرة إنشاء برنامج لإنقاذ الأصول المتعثرة، حيث رآه الناس كإنقاذ لـ وول ستريت من تجاوزاتها من خلال أموال عامة الناس، وفي مفاجأة مدوية للأسواق والزعماء السياسيين في الكونجرس، فقد قام مجلس النواب الأمريكي برفض هذا البرنامج في سبتمبر 2008.
ولم تتأخر ردة فعل السوق، فهبط مؤشر داو بأكثر من 750 نقطة، مسجلًا بذلك أكبر انخفاض في تاريخ السوق خلال يوم واحد، وبعدها بأيام قليلة وافق نفس المجلس على المشروع بعد تغير نظرة الرأي العام تجاه المشروع بعد صدور تعديلات جعلته أكثر وضوحًا.
ويَجمع الولايات المتحدة وبريطانيا أحد أقوى العلاقات وأكثرها استقرارًا وجلبًا لمنفعة متبادلة بين بلدين في تاريخ البشرية – إذا استثنينا فترة قيام الجمهورية الأمريكية -، ولقد أنفقت أمريكا مواردًا طائلة خلال القرن العشرين حين كان الأوروبيون يحاربون بعضهم البعض، وكانت دائمًا تقف في صف بريطانيا دعمًا “للعلاقة المتميزة”، وإذا غادرت بريطانيا الاتحاد الأوروبي، فإنّ ذلك يزيد فرص حصول أزمة جديدة في أوروبا ربما تمتد إلى الولايات المتحدة، فبكل بساطة ليس من مصلحتنا – الولايات المتحدة – رؤية بريطانيا تخرج من الاتحاد الأوروبي.
المصدر: معهد بروكنجز