يذهب البريطانيون، اليوم، الخميس، 23 حزيران/يونيو، إلى صناديق الاقتراع لحسم واحدة من المسائل الكبرى في توجهات بلادهم: الموافقة على بقاء بريطانيا عضواً في الاتحاد، أو الخروج منه. كان رئيس الحكومة ديفيد كاميرون قرر دعوة البلاد للاستفتاء على علاقة بلاده بالاتحاد بعد أن أجرى سلسلة مباحثات مع القادة الأوروبيين، واستطاع في النهاية التوصل إلى اتفاق حول إعادة صياغة بعض جوانب موقع بريطانيا في الاتحاد. بتوقيع الاتفاق، حسب كاميرون أنه قام بما يكفي لكسب الرأي العام البريطاني لصالح المحافظة على عضوية بريطانيا في الاتحاد، ودعا، من ثم، إلى استفتاء شعبي لحسم المسألة.
ثمة جدل صاخب وبالغ الحدة ولدته الحملات الدعائية لكل من دعاة البقاء في، ودعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي. وبدا، أحياناً، أن هذا الجدل الانقسامي كان كامناً في الضمير الجمعي البريطاني، وأن الدعوة للاستفتاء لم تفعل سوى توفير المناخ والمساحة السياسية الكافية لتجليه.
وهذا صحيح إلى حد كبير. طاردت لعنة أوروبا كاميرون، كما كل قادة حزب المحافظين منذ مارغريت تاتشر؛ وقرر كاميرون، رئيس الحكومة المحافظ، التحرر من هذه اللعنة بالدعوة إلى استفتاء شعبي، قبل أن تنجح في تدميره وتدمير حكومته. ولكن الحقيقة التي لم يعد من الممكن تجاهلها اليوم أن الانقسام حول أوروبا طال معظم شرائح المجتمع البريطاني، وإن تفاوتت الموقف من العلاقة مع الاتحاد بين شريحة وأخرى.
ويمكن القول بشيء من التعميم أن الطبقة العليا من حزب المحافظين، بما في ذلك حكومة كاميرون، انقسمت مناصفة بين دعاة البقاء في الاتحاد والخروج منه؛ بينما انحازت أغلبية قيادة حزب العمال لمعسكر البقاء، ومعها كل قيادة الحزب الليبرالي، الأقل تأثيراً من الحزبين الرئيسيين. على مستوى طبقة رجال الأعمال والبنوك والصناعة والنقابات العمالية ودوائر الفنون والآداب، تقف الأغلبية إلى جانب البقاء. أما في المؤسستين العسكرية والأمنية، فيصعب معرفة حقيقة التوجهات، طالما أن مؤسسات الدولة البريطانية لا يفترض بها التعبير عن انحياز سياسي ما. وللوهلة الأولى، في بداية الحملة الانتخابية لكلا المعسكرين، بدا وكأن اتساع نطاق معسكر البقاء وتعدد أصواته من الثقل بمكان بحيث سيصعب على دعاة الخروج تقديم وجهة نظر قادرة على الصمود وحشد الرأي العام. ولكن، وبمرور أسابيع قليلة على الحملة، اتضح، وفي مفارقة اجتماعية صارخة، أن صوت دعاة الخروج، الذين ينحدر أغلبهم من الارستقراطية البريطانية والشرائح العليا من الطبقة الوسطى، كان الأعلى والأقدر على الوصول إلى الإنسان العادي، والطبقات العمالية على وجه الخصوص.
باتساع نطاق الانقسام المجتمعي حول العلاقة مع أوروبا، أخذت العقلانية في خطاب كلا معسكري الجدل في التراجع، وارتفعت وتيرة اللغة العاطفية. خلال الأسابيع الأخيرة من الحملة الدعائية، لم يكن خافياً أن كلا الطرفين يحاول الانتصار لقضيته بإثارة مخاوف الناخبين.
استدعى دعاة البقاء في الاتحاد الأوروبي آلة وزارة المالية البريطانية الهائلة، البنك المركزي البريطاني (الذي يفترض أنه ليس طرفاً في الصراعات السياسية)، بل وصندوق النقد الدولي، ليقنعوا الناخب بأن تكاليف الخروج من الاتحاد الأوروبي ستكون باهظة، اقتصادياً ومالياً. سترتفع الضرائب على الدخل بما لا يقل عن 2 بالمئة، قال وزير المالية منذراً، وستتأثر ميزانيات التعليم والصحة بصورة بالغة. ولم تتوان كبار الشركات الصناعية في بريطانيا عن تحذير العاملين بها من عواقب الخروج من الاتحاد؛ أما الشركات الصناعية الأوروبية، وحتى اليابانية، التي تحتفظ بفروع لها في بريطانيا، فهددت بنقل عملياتها إلى دول اوروبية أخرى في حال أدارت بريطانيا ظهرها للاتحاد.
في المقابل، وعلى خلفية من موجات اللاجئين التي تجتاح الحدود الأوروبية، لعب أنصار الخروج على مخاوف الطبقة العاملة المتصاعدة منذ أزمة 2008، راسمين سيناريوهات مخيفة من اجتياح المهاجرين الأوروبيين وغير الأوروبيين للجزيرة البريطانية. ولكن شيئاً ما لم يكن أكثر فعالية من إثارة المشاعر القومية للبريطانيين، السلاح الذي استله أنصار الخروج بلا حساب ولا تردد. ادعى هؤلاء بأن البقاء في الاتحاد الأوروبي يعني خسار بريطانيا لسيادتها، وتسليم قيادها لحفنة من الموظفين غير المنتخبين في بروكسل، لا يكاد الناخب البريطاني التعرف على أسمائهم.
وادعوا أن عضوية الاتحاد تكلف بريطانيا خمسين مليوناً من الجنيهات الاسترلينية كل صباح، وأن ما يعود عليها من هذه العضوية، في المقابل، لا يكاد يذكر. صور دعاة الخروج الاتحاد الأوروبي جسماً أمبراطورياً، لا يختلف عن إمبراطوريات القرن التاسع عشر، تقوده هيئة خيالية، بعيدة، متعالية، لا تكترث بمصالح الشعب البريطاني ورفاهه، ولا تملك لندن من وسيلة للتأثير في قرارها. وفي استعادة لأمجاد القوة البريطانية الآفلة، أشاعوا بأن بريطانيا قادرة، في حال خرجت من الاتحاد الأوروبي، على بناء علاقات اقتصادية ومالية فعالة مع كل مراكز القوة في العالم، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي ذاتها.
ظهر يوم الخميس، 16 حزيران/يونيو، وقد وصل الجدل الانقسامي ذروته، اقدم رجل يحمل سلاحاً نارياً وسكيناً على اغتيال النائبة البرلمانية جو كوكس في بلدة غرب يوركشاير. كوكس، التي لم يمض على عضويتها بمجلس العموم البريطاني سوى عام واحد، نظر إليها باعتبارها واحدة من ألمع نواب حزب العمال، أكثرهم إنسانية والتزاماً بخدمة أهالي دائرتها الانتخابية، والمحرومين والمعذبين في العالم، على السواء.
ما ذكره أحد شهود الحادث أن القاتل صاح وهو يهاجم النائبة كوكس قائلاً «بريطانيا أولاً». ولا يخفى أن «بريطانيا أولاً» هي الصيحة المستبطنة لحملة دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي. لا يعني هذا بالضرورة تحميل دعاة الخروج من الاتحاد مسؤولية اغتيال النائبة كوكس، فثمة أدلة مبكرة على أن للقاتل روابط ما مع دوائر قومية يمينة متطرفة ونازية جديدة في الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا. ولكن أحداً لا يمكنه تجاهل الأثر الفادح لعواقب تصعيد الخطاب القومي، الذي فجره جدل العلاقة مع أوروبا خلال الأسابيع القليلة التي سبقت اغتيال جو كوكس.
ما هو مؤكد أن خطابي كلا المعسكرين حمل من المبالغة أكثر مما حمل من الحقائق. فليس ثمة شك أن الاقتصاد البريطاني من القوة بحيث سيمكنه تجاوز أزمة الخروج من الاتحاد، إن كان هذا هو الخيار الشعبي. كما أن ادعاء دعاة الخروج بأن بريطانيا ستصبح اكثر قدرة على مواجهة موجات اللاجئين بعد أن تغادر الاتحاد الأوروبي هو مجرد وهم؛ لأن بريطانيا أصلاً هي الأقل عرضة لموجات المهاجرين، ولأنها ليست طرفاً في اتفاقية شنغن، لم تزل تحافظ على حدودها كما هي. أزمة اللاجئين هي أزمة نظام العالم كله، وليس ثمة وسيلة لأي دولة لمواجهتها منفردة. ف
وق ذلك، فليس صحيحاً أن عضوية الاتحاد تعني التخلي عن السيادة، ولا أن بريطانيا ليست شريكاً في قرارات الاتحاد، أو أن العضوية تفرض على بريطانيا إجراءات وإصلاحات منافية لمصالحها. بريطانيا، في الحقيقة، هي واحدة من أكثر الدول تاثيراً في سياسات الاتحاد وفي توجه أوروبا ككل.
الصحيح، خلف ذلك كله، أن عضوية بريطانيا في السوق الأوروبية المشتركة في 1973، التي تطورت إلى الاتحاد الأوروبي في 1993، لم تكن أصلاً محل إجماع بريطاني. واستفتاء اليوم ليس الأول حول مصير هذه العلاقة. في 1975، وبعد عامين فقط من الالتحاق بالسوق، اضطر رئيس الوزراء هارولد ويلسون إلى الدعوة لاستفتاء شعبي حول العضوية. ولأن ويلسون كان سياسياً عبقرياً، فقد نجح في إقناع الرأي العام البريطاني بأنه حصل من دول السوق على ما يكفي من التنازلات لحراسة المصالح البريطانية، وحقق بالتالي نصراً مريحاً في الاستفتاء. ولكن نجاح ويلسون أجل المسألة ولم يضع نهاية لها.
في الديمقراطيات الراسخة، تستند الخيارات الكبرى إلى اجماع الأمة، وليس إلى مجرد أغلبية من أصوات الناخبين. ولذا، فهما كانت نتيجة الاسستفتاء اليوم فهذه لن تكون نهاية معضلة علاقة بريطانيا المشتبكة بالقارة الأوروبية. ومهما كانت نتيجة اليوم، فقد بات على الاتحاد الأوروبي أن يلقي نظرة فاحصة على بنيته وعلى الطريقة التي يعمل بها.