كما عرفنا دومًا، الوطنية هي ارتباط الإنسان بقطعة من الأرض يطلق عليها اسم الوطن، والقومية هي ارتباط الناس بمجموعة من الناس يُطلق عليهم اسم قومه، ثم يأتي مفهوم الدولة ليربط بين المفهومين السابقين، حيث للدولة المفهوم المُتعارف عليه وهو جماعة من البشر يعيشون في أرض معينة مشتركة، مؤلفين هيئة سياسية مستقلة ذات سيادة، ليربط مفهوم الدولة مفهوم الوطن من جهة ومفهوم الأمة أو القوم من جهة أخرى، مكونًا شكلًا من أشكال الارتباط الذي يختلف من دولة إلى أخرى باختلاف أشكال السيادة والحكم.
على الرغم من تقارب مفهوم الوطنية والقومية في بعض البلاد، والتي يكون فيها حب الوطن بالتبعية يؤدي إلى حب أهل الوطن ومنه يؤدي إلى القومية، إلا أنه هناك فرق بين المصطلحين، وهناك فرق واضح بين الشعب الوطني والشعب القومي في الصفات التي تميّز الشخصية الوطنية أو الشخصية القومية، وفي طريقة تعامل كل منهم مع الشعوب الأخرى.
القومي على سبيل المثال يرى في بلده نوعًا من السيادة تمنحها حق الأولوية على بقية البلاد، كما يمنحها الحق في الاعتداء على غيرها من البلاد نظرًا لمكانتها الأعلى وسيادتها القوية، أما الوطني فيرى أن حبه لوطنه وقومه هو ما يملي عليه أي قيم متبعة تجاه هذا البلد، حيث تميل مشاعر الوطني نحو التعايش عن طريق الاحترام أكثر من العدوان تجاه البلاد الأخرى، فبالنسبة له الناس سواسية حول العالم، ولا تفضيل لجنسية على أخرى.
يميل القوميّ إلى التأكيد على أهمية الهوية القومية، والتي تحتوي على اسم البلد وجنسيته وعلمه وحدوده الخاصة به، في حين يؤكد الوطني على أهمية القيم الاجتماعية والروابط الثقافية أكثر من تأكيده على المكان الذي أتى منه، حيث لا يؤمن القوميّ بعلاقات صديقة مستمرة وطويلة الأمد مع البلاد الأخرى ومع الأمم المختلفة، يرى مصلحة بلاده أولًا في تلك العلاقة وما إن كانت ستعود عليه بالمميزات أكثر من العيوب أم لا، أما الوطني لا يخشى تكوين صداقات وعلاقات ودودة مع الدول الأخرى، حيث يرى أنها أساس من أساسيات التعايش.
لا يجد القومي حرجًا من تبرير الأخطاء التي ارتكبتها بلاده من قبل حتى ولو كانت حروبًا دموية أو احتلالاً لبلاد أخرى، فهو يرى أن لبلاده السيادة الكافية التي تمكنها من ارتكاب ما يحلو لها سواء كانت جرائم ضد الإنسانية في شعوب أخرى، أما الوطني فيشعر بالعار والندم لأي أخطاء سابقة قد ارتكبتها بلاده في حق بلاد أخرى، كما لا يجد حرجًا من الاستماع لناقدي بلاده ويجدها فرصة جيدة ليتعلم شيئًا جديدًا عن بلاده من منظور مختلف، أما القوميّ فيعتبر أي نقد لبلاده هو إهانة، ويجد القومي صعوبة في تقبل أي انتقاد يمس بلاده بسوء أو يظهرها بمظهر ضعف.
عند الحديث عن القومية، لا يمكننا أن نهمل عبارة جورج أوريل والتي قال فيها:
“القومية هي أسوأ عدو للسلام”
بالنسبة لأورويل، القومية هي إعطاء الحق لأي بلد أن تطغى على بلد آخر بسبب السيادة الطاغية أو القوة المفرطة، وهو ما يجعل في وجهة نظره كل قومي هو إنسان عدواني، في حين أن الوطني يميل إلى اللطف في التعامل وحب التعايش مما يجعله أقل عدوانية تجاه الآخرين، يرى أوريل أنه من الممكن اعتبار القومية صفة مبنية على التنافس الدائم، حتى ولو كان بالقوة، مما يجعلنا نصف القومية أحيانًا بأنها دومًا تتبعها صفة القوة العسكرية، في حين أن الوطنية تميل إلى السلام أكثر.
يمكن اعتبار القومية وسيلة لحماية طريقة شعب ما في الحياة، أما الوطنية فهي وسيلة حماية أرض ما، يميل الوطنيون إلى التعاون مع كل من كان على أرضهم مع اختلاف الألوان والأديان لحماية أرضهم من أي عدوان، وهنا لا يهم الوطني التاريخ ولا العرق ولا اللغة، ما يهمه فقط هو رد العدوان عن بلده.
أما في حالة القومية، فهي تعتبر وسيلة لحماية أشياء غير ملموسة، لا يمكن الدفاع عنها بالقوة أو بالسلاح، فالقومية تحمي الثقافة بشكل أو بآخر، بالطبع يقوم القوميون بحماية أراضيهم، إلا أن حمايتهم لهويتهم يفوق حماية الأرض بكثير، وهو ما يجعل القوميون يميلون إلى النقد والسخرية من الأمم الأخرى والبلاد الأخرى، ويصل أحيانًا إلى التحقير من كل شيء لا يتناسب مع ما يحمونه من قيم وهوية ومبادئ تخصهم هم وحدهم.
في الماضي لم يكن الأمريكان قوميين على سبيل المثال، فلا يمكنك أن تجد ثقافة أمريكية لها الإطار الخاص بها في عام 1770، ومن بعد ذلك بدأ الأمريكان في كتابة الدستور الخاص بهم، وتأليف وتكوين الثقافة الخاصة بهم، والتي تميزهم عن غيرهم، بداية من حرية التسليح إلى حرية التعبير عن الرأي، ومنه بدأ الأمريكان في التحول من بناء الثقافة الخاصة بهم إلى حمايتها، فلماذا يؤسس الإنسان ثقافة خاصة به ولا يحميها ما دام يؤمن بأنها أفضل مما يوجد في البلاد الأخرى؟ ومن هنا بدأ تحوّل الأمريكيين من وطنيين إلى قوميين، ولأنهم يرون بأن الثقافة الأمريكية هي الثقافة العُليا التي تطغى على غيرها من الثقافات، وجدوا الحق في حمايتها، والتأكيد عليها، بل ونشرها، حتى ولو كان ذلك بالقوة.
في حديث لجورج كارلين الأمريكي أيرلندي الأصل في برنامجه الساخر، يقول بأنه لم يفهم أبدًا الفرق بين الوطنية والقومية، فلطالما حمل تلك اللافتة التي تقول “فخور بأنني أيرلندي”، يقول جورج بأنه يعرف أن في إيطاليا هناك لافتة مثلها وهي “فخور بأنني إيطالي”، وللزنوج لافتة مثلها تقول “فخور بأنني إفريقي” أو “فخور بأنني أسود البشرة”.
يقول جورج بأنه لا يفهم أبدًا سر الفخر بشيء لم يحققه الإنسان بنفسه، فهو لم يحقق كونه أيرلنديًا بنفسه ولا يُعتبر ذلك إنجازًا شخصيًا له، الفخر يكون بسعادة الإنسان بتحقيقه شيء بنفسه، نعم، يمكنك أن تكون سعيدًا بكونك أيرلنديًا أو أمريكيًا، ولكن لا يجب عليك أن تكون فخورًا بذلك، فلا يُعد كونك أيرلنديًا مهارة أو إنجاز، فموضوع الجنسية ما هو إلا أمر يكتسبه الناس بالولادة، ويتوارثوه من أبويهم، وليس له أي دخل في أن يكون الإنسان فخورًا به.