بالرغم من التاريخ الطويل من التقارب بين المملكة العربية السعودية ومؤسسة الأزهر الشريف وهو ما تجسد في العديد من الزيارات المتبادلة من الجانبين، إلا أنه وفي العامين الأخيرين فقط أولت الرياض اهتماما غير مسبوق بالأزهر، كشفت عنه حزمة المشروعات المقدمة لإعادة هيكلة وبناء المؤسسة وترميم مشيختها التراثية، فضلا عن تمويل قناته الرسمية، وإقامة مدينة البعوث الإسلامية
نسعى في هذه الإطلالة إلى الوقوف على أبعاد هذا الدعم غير المسبوق للمثل الشرعي لأكبر كتلة سنية في العالم، وما هي الأهداف الحقيقية وراءه لاسيما بعد الانفتاح التدريجي الأخير على طهران؟ وما هي آليات الرياض لتفعيل إستراتيجية تطويق المد الشيعي داخل الأزهر؟ وأخيرا : موقف الدولة المصرية مما يحدث؟
السعودية والأزهر..تاريخ من التقارب
ظلت الأزهر الشريف قبلة لملوك العالم وزعماءه على مر الأزمان والعصور، لما يتمتع به من مكانة خاصة في قلوب المسلمين، إذ يعد الممثل الشرعي لأكبر كتلة سنية في العالم، حيث استقبل الجامع الأزهر العشرات من زعماء العالم العربي والإسلامي في العقود الأخيرة، على رأسهم، العقيد معمر القذافى ،رئيس ليبيا الراحل ، وياسر عرفات، وهوارى بومدين، رئيس الجزائر الراحل، ورجب طيب اردوغان ،رئيس تركيا، وبينظير بوتو، رئيسة وزراء باكستان الأسبق، والرئيس فؤاد معصوم،رئيس العراق، والرئيس محمود عباس أبومازن، رئيس السلطة الفلسطينية، ومحمد بن زايد آل نهيان، ولى عهد دولة الإمارات العربية المتحدة.
وتحتل مؤسسة الأزهر وشيوخه مكانة خاصة في قلوب الأسرة المالكة في المملكة العربية السعودية منذ تولي آل سعود مقاليد الحكم في البلاد، حيث حرص الأمير سعود ـ رحمه الله ـ في زيارته للقاهرة عام1926 علي زيارة الجامع الأزهر، كما التقي ببعض علماء الأزهر الشريف ودعاته، وفي 1946 أدى الملك عبد العزيز آل سعود خلال زيارته لمصر صلاة الجمعة الحادي عشر من يناير في الجامع الأزهر برفقة الملك فاروق.
احترام بلاد الحرمين للأزهر الشريف لم يتوقف على مجرد الزيارات فحسب، بل كانت مؤسسته العريقة ورجاله الثقات مرجعا للسلطة الحاكمة في السعودية في الكثير من القضايا الشائكة، ومنها ما حدث في حرب الخليج الثانية، حين طلب الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود من شيخ الأزهر, فتوى تأذن بتمركز قوات أجنبية داخل المملكة علي الرغم من تواجد اثنين من أقدس الأماكن الإسلامية داخل المملكة العربية السعودية, في عام2003، وهو ما لم يطلبه من مفتي المملكة نفسه.
ومنذ 1946 وحتى هذا العام لم يذكر أن قام ملك سعودي بزيارة الجامع الأزهر، حتى زيارة سلمان بن عبد العزيز آل سعود الأخيرة في أبريل من هذا العام 2016، والتي حمل خلالها حزمة من المشروعات التنموية غير المسبوقة للأزهر.
الملك عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – خلال زيارته للأزهر برفقة الملك فاروق 1946م
الدعم السعودي للأزهر..علامات استفهام!!
المتابع لمسيرة تطور العلاقات بين السعودية والأزهر يجد أن العامين الماضيين فقط أولت فيهما الرياض اهتماما غير مسبوق بالأزهر ومؤسسته العريقة، تجسد في حزمة من المشروعات والمنح المقدمة من العاهل السعودي والتي جاء بها خلال زيارته الأخيرة.
نستعرض هنا بعض هذه المشروعات والتي تتجاوز في مجملها ملايين الدولارات مابين ترميم لمباني المؤسسة، وإعادة هيكلة لمنظومة المشيخة، فضلا عن الدعم الإعلامي والثقافي المقدم في صورة مؤسسات إعلامية وكيانات ثقافية تتدخل المملكة في تشكيلها بما يضع العديد من علامات الاستفهام، حول مدى إحكام سيطرة الرياض على الأزهر ومؤسساته الفرعية، والأهداف من وراء ذلك.
إعادة تأهيل مشيخة الأزهر الأثرية..أولى المشروعات المقدمة من المملكة العربية السعودية والتي أفصح عنها سفير خادم الحرمين بالقاهرة أحمد القطان هي إعادة بناء وتأهيل مؤسسة الأزهر، حيث تم إعداد ميزانية مبدئية لبناء بعض أجزاء المسجد، وترميم البعض الأخر فضلا عن التوسعة في بعض الجهات، إضافة إلى إعادة بناء مشيخة الأزهر الأثرية مع الحفاظ على سمتها التراثي المعروف.
تمويل قناة “الأزهر”..من المشروعات العملاقة التي تكفلت بها بلاد الحرمين دعما لمشيخة الأزهر ، تمويل قناة ” الأزهر ” المتحدث والناطق الرسمي باسم المؤسسة، والتي تم إنشائها مؤخرا كـ” بث تجريبي ” دون تطويرها نظرا لغياب التمويل اللازم لذلك.
وقد تعهد السفير السعودي في القاهرة بتمويل القناة بالكامل، والاستعانة بكبار الإعلاميين والصحفيين لتقديم أفضل البرامج المتنوعة، فضلا عن إنشاء مجمع استوديوهات للقناة ، يضمن لها التميز والبث المباشر دون أي عراقيل تعوق ذلك، مع إيداع مبلغ مالي كبير في حساب القناة يحقق لها الأمان وضمان استمرار بثها دون توقف لسنوات قادمة.
بناء مدينة البعوث الإسلامية الجديدة..كما وضع العاهل السعودي خلال زيارته الأخيرة للقاهرة حجر الأساس لبناء مدينة البعوث الإسلامية الجديدة، وتحمل جميع تكلفتها بدءا من الأرض المخصصة لذلك مرورا بالبنايات ورعاية الطلاب الوافدين، حيث تبلغ مساحة المدينة الجديدة ما يقرب من ( 18 ) فدان، تسع لإيواء آلاف الطلاب الوافدين من إفريقيا وأسيا وأوروبا.
كسب دعم رجال الأزهر..وقد نجحت الرياض في ذلك من خلال المنح والهدايا المقدمة لبعض رجالات الأزهر لاسيما القيادات التنفيذية، وهو ما تجسد في رحلات الحج والعمرة والإقامة المميزة لهم في بلاد الحرمين، فضلا عن الرحلات الترفيهية والمبالغ المالية المقدمة لهم أيا كان المسمى.
أحمد القطان سفير خادم الحرمين بالقاهرة
أداة لمواجهة التشيع
قوبلت هذه المشروعات المقدمة من السعودية لدعم الأزهر ومؤسساته بالعديد من التساؤلات حول الهدف من وراءها في هذا التوقيت بالذات، وهل هناك نية مبيته من قبل الرياض في فرض سيطرتها على مؤسسة الأزهر أم أن ما يحدث لا يخرج عن دائرة حزمة المساعدات التي تقدمها السعودية لمصر منذ أحداث 30يونيو والإطاحة بالرئيس المعزول محمد مرسي؟
لاشك أن الأزهر الشريف على مر التاريخ يعد الممثل الشرعي والمتحدث الرسمي لكتلة السنة في العالم، وبالرغم من مكانة المملكة والأماكن المقدسة بها، إلا أن للأزهر مكانة عالمية مختلفة، فهو عنوان الوسطية والتنوير، ومن تحت أعمدته وجدرانه خرجت مشاعل الهداية لتنير للعالم طريق الرشاد.
وبالرغم مما اعتلى الأزهر على مر تاريخه من تشويه لدوره من خلال رضوخه للسلطان والأنظمة الحاكمة، إلا أن تاريخه العظيم يؤكد دوره المحوري في الدفاع عن مقدسات الأمة، إذ كان في كثير من المحطات التاريخية الهامة قبلة المسلمين ونقطة الانطلاق نحو النصر في عدد من المعارك.
وانطلاقا من مبدأ البراجماتيكية التي بات منهج حياة لدى سلطة آل سعود خلال الآونة الأخيرة، فإن الدعم السعودي للأزهر ليس هبة أو منحة لا ترد، إذ أن هناك هدف واضح وصريح يقود الرياض إلى ما تقوم به من مساعدات لدعم الأزهر وفرض سيطرتها عليه….لتبقى كلمة السر في ” مقاومة الشيعة “، ومحاولة إحداث القطيعة التامة بين الأزهر وكل ماله علاقة بالشيعة والتشيع.
معروف أن بلاد الحرمين تبذل قصارى جهدها من أجل مناهضة التشيع في كل مكان بالعالم، وتسخّر لذلك كل ما أوتيت من مال وعتاد، والمتابع لتحركات المملكة في الداخل والخارج يلحظ هذا المنهج بصورة واضحة، لاسيما في دول إفريقيا التي هرولت إليها الرياض لتقويض المد الشيعي هناك، وسحب البساط من تحت أقدام طهران من خلال حزمة جديدة من المساعدات للدول الإفريقية الفقيرة، وما حدث في السودان وجيبوتي والصومال وإثيوبيا ليس ببعيد، حيث نجحت السعودية في دفع هذه الدول إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع طهران بعد فترات طويلة من قوة العلاقات بينهما.
هناك إيمان راسخ لدى الإدارة السعودية بقيمة وقامة الأزهر الشريف، حتى وإن لم تعلن ذلك بصورة مباشرة، إلا أنها في قرارة نفسها على يقين تام بأن من يمتلك دعم هذه المؤسسة يستطيع أن يقدم نفسه للعالم الإسلامي بصورة مختلفة، لاسيما وهي تكسب ثقة واحترام الجميع – مسلمين وغير مسلمين – حتى وإن شوه دورها في فترات طويلة من تاريخها بفعل السلاطين وحكام الدولة.
وقد جاء الانفتاح التدريجي للأزهر في الفترة الأخيرة على إيران والذي تجسد في زيارة الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد للأزهر ولقاءه بشيخه أحمد الطيب، فضلا عن زيارة بعض رجال الأزهر لطهران، إضافة إلى تزايد الطلاب الشيعة في الأزهر، ليدفع المملكة العربية السعودية إلى ضرورة التدخل الفوري لتطويق هذا المد الشيعي، وتحجيم دوره داخل اعرق مؤسسة إسلامية سنية في العالم، ومن ثم كانت هذه المشروعات.
الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد وشيخ الأزهر
الإعلام كلمة السر
أيقن الجميع وفي ظل ثورة الاتصالات الهائلة التي نعيشها أن الإعلام بات اللاعب رقم (1) في أي معادلة سياسية كانت أو اقتصادية أو حتى فكرية، لذلك فقد اتخذت السفارة السعودية بالقاهرة عددا من الإجراءات التي من شأنها كسب تأييد الإعلام للتوجهات السعودية بمصر وخارج مصر، وهو ما كشفته بعض التقارير المسربة بشأن الإغراءات المقدمة من السفارة لبعض الإعلاميين سواء كانت مادية أو معنوية، حتى وإنه ولوقت قصير كانت تخصص مكافآت شهرية لعدد من الصحفيين، فضلا عن دعوات الحج والعمرة مجانا كل عام لكثير منهم.
ولعل هذا يسفر لنا حجم الإنفاق الهائل الذي تعهدت به السعودية لتطوير قناة ” الأزهر ” والاستعانة بكبار الإعلاميين لتقديم عدد من البرامج، بما يضع العديد من علامات الاستفهام حول إنشاء هذه القناة ومن قبلها ترميم المشيخة وبنايتها الأثرية فضلا عن بناء مدينة البعوث الجديدة.
ويبقى السؤال: هل تنجح السعودية من خلال دعمها المقدم للأزهر في السيطرة عليه شكلا ومضمونا بما يحقق لها هدفها بتطويق المد الشيعي داخل المؤسسة؟ وهل من الممكن أن تعيد الرياض رسم خريطة علاقات الأزهر بالدول المجاورة وفي مقدمتها إيران؟ ..ثم السؤال الأهم ..هل تترك الدولة المصرية الساحة للسعودية لتنفيذ أهدافها دون تدخل أو رقابة ؟