وأنتّ تسلّم من آخر ركعة من صلاة التراويح تنظر حولك فتجد أكثر العباد يهرعون إلى الخروج، إلا أنت كأنك قررت الخروج من عالمهم إلى عالم خاص ساحر، حيث لا قيمة للسرعة ولا لعصر السرعة، بل حتى التكنولوجيا كلها لم تعد تثيرك، فما حاجتك بها وأنت لا ترغب إلا في “فترة نقاهة” من هموم الحياة الدنيا؟ ولعلّك تقفل الهاتف والفيسبوك وكل ما له علاقة بالتواصل الافتراضي لتتحول بين ليلة وضحاها إلى “إنسان” يبحث عن ذاته تحت سماء المقدس!
تتأمل ساحات الأقصى فتجدها تخلو شيئًا فشيء، شيء ما يقلقك من أن تكون وحدك وبلا “عمل”، كأن الانغماس في العمل أسهل على النفس من اتخاذ قرار بالانشغال عن العمل بخلوة مع النفس، تقرر أن تبدد هذا القلق بكأس من السحلب الساخن مع شيء من الجوز والقرفة، فتنطلق نحو باب المطهرة وما إن تنزل بضعة درجات وتخرج من بوابة خضراء ضخمة حتى تجد “الكشك”، الضجيج كفيل بأن يجعلك تستدل على المكان بسرعة، فليس هناك كشك في الواقع وكل ما هناك هو طاولة صغيرة عليها بضعة أغراض أمام مبنى مملوكي فريد يدعى “الرباط الزمني” صار اليوم منزلًا لعائلة مقدسية.
تحمل “السحلب” وتعود، وبينما أنت تصعد الدرج ما عليك إلا أن ترفع عينيك لترى قبّة الصخرة في مشهد بديع نادر يستحق صورة ومما يزيد المشهد بهاءً وجود قبّة سبيل قايتباي أمامها وثلّة من المعتكفين المتحمسين لليلة أخرى في المسجد، نسبة كبيرة جدًا من هؤلاء لا ترى المسجد في العام إلا في رمضان، وهو ما يرى في عيونهم، ترى حماسة وبريق كأنهم لا يريدون لرمضان أن ينتهي ولا للاعتكاف، بل إن بعضهم لم يرَ رمضان منذ أعوام طويلة إن كان في الأسر وبعضهم لا يصدق نفسه أصلًا، إنه معتكف في رحاب المسجد الأقصى الذي لا يراه إلا في الصور والأخبار.
فلسطينيون يتسورون الجدار العازل للصلاة في المسجد الأقصى
فجأة وبينما أنت مستغرق في تأملهم وتأمل دردشاتهم، تجد صديقًا لك بينهم لم تحلم يومًا أن تراه في القدس، لأنه ممنوع من الدخول أصلًا، ولكنه لم يحتمل أن يرى كل الشباب تقاوم من أجل الوصول وهو من المتخلفين، بل لعلك تنسى نفسك وتسأله: “كيف وصلت وكيف دخلت؟” فيجيبك بفخر وابتسامة عريضة في محياه: “تهريب” فتسأله: “كيف” فيشير إلى يديه التي لا زالت الدماء لم تجف منها، بعد أن تجرّحت وهو ينزل من على الحبل عند الجدار، فلا تجد في نفسك شيئًا تقوله له إلا: “كل الاحترام”.
الفطور الجماعي في المسجد الأقصى
فرحة من يدخل إلى الأقصى بالتهريب لا يمكن تشبيهها بشيء إلا ربما بشعور طفل لا يعرف سبيلًا للنوم قبل الرحلة بيوم، وهؤلاء بالكاد ينامون الليل، كأنهم يريدون استغلال كل لحظة، وما إن تقترح عليه جولة تكشف له فيها جمال الأقصى حتى يرحب بالفكرة، فتنطلقان باتجاه الشمال من عند بابٍ يسمى الناظر، طريق تشكّ أنه مرّ منها يومًا، فهناك مدارس الأقصى كلها، ويكفيك منها فخامة الاسم كما يقال فمن المدرسة المنجكيّة ثم الجاولية والصبيبيّة والأسعردية ثم الملكية والفارسية والامينية، وكل مدرسة لها تاريخها ومنهاجها وطلابها وأعلامها، وسواء حفظته أم لم تحفظه، يكفيك أن تتأمل أيام عز المسلمين في هذا المسجد وأيام كانت القدس بلدًا للعلم والعلماء من كل أنحاء الدنيا.
هذه فرصة للـ “كزدرة” في ظلال التاريخ والأقصى وتحت ضوء القمر في ليلة اعتكاف رمضانية ومع كأس من الشاي بالنعناع أو السحلب والجوز توهمك بأنك مقدسي ولو للحظات، تجعلك تنسى أنك زائر، وتتحول بين خطوة وأخرى إلى مقدسي يعيش “القدس”، فلا تبالي بوقت عودتك إلى بيتك ولا حتى بكاميرا لتخلد لحظات تعيشها بسرعة، بل لعلك تتباطأ وأنت تمشي كي يطول الوقت أكثر.
تمشي وتمشي حتى تصل جنوب المسجد، حيث الأجواء مختلفة تمامًا، كأنه العيد، أطفال مشاكسون يستغلون منحدرًا عند بوابة من بوابات المصلى المرواني ويتدحرجون كأنهم في مدينة ملاهي بعيدًا عن أعين الحراس، ورجال يتجولون في الساحة الخلفية للمصلى القبلي ذهابًا وإيابًا وكأنهم في تشوّق ولهفة لشيء آت، ومن بعيد ترى فوق مصطبة الجنائز شابًا يرتدي عمامة بديعة وحوله عشرات المعتكفين، وهم كثر بالفعل نسبة إلى هكذا وقت متأخر يرتاح فيه غيرهم للاستعداد لصلاة التهجد، أسلوبه الذي لا يخلو من النكات والابتسامات يشد الناس حوله من كل الأطياف، كثيرٌ من المعتكفين الجدد لا يعرفونه ورغم ذلك يحبونه ويسجلون دروسه كما لو كان علمًا من أعلام القدس، ولو سألت معتكفًا من “المخضرمين” سيخبرك أن اسمه “الشيخ خضر” من بلدة تدعى “يطا” في قضاء الخليل وأنه يعتكف في الأقصى كل عام.
المصلى المرواني
لا يمضي كثيرٌ من الوقت بعد درس “الشيخ خضر” حتى يحين موعد صلاة التهجد، وحتى لو نال منك التعب ورحت تبحث عن زاوية للنوم فلن يفوتك التهجد غالبًا فهناك شباب يأخذون على عاتقهم تنبيه الحاضرين جميعًا كي لا يضيعوا أوقاتهم في النوم والناس في صلاة، قد يثيرك أن تسمع هناك أئمة لم تسمعهم في الأقصى من قبل، ولو حظيت بإمام عالمٍ بالقراءات وصلى برواية غريبة فلا تستغرب، فهو لم يخطئ في التلاوة، ولكنه لا يصلي برواية حفص عن عاصم المعروفة، بل يصلي برواية أخرى كي يطرد النعاس عن المصلين ويجعلهم أكثر يقظة وهم يسمعون القرآن كما لو لم يسمعونه من قبل، والقراءات علم وفن ولو سألت خبيرًا فقد يخبرك أن الصلاة كانت برواية الكسائي مثلًا أو أن القراءة كانت على مقام النهاوند مثلًا وهو مقام يمتاز بالعاطفة والحنان والرقة ويبعث على الخشوع والتفكر.
بعد السحور قد تتذكر أنك لم تتأمل السماء كثيرًا من كثرة ما رأيت على الأرض، ولكن ما إن تتأملها حتى تكتشف أنك مهما قلت ومهما قيل لك وسيقال فإنك لن تسمع كلامًا في لذّة الاعتكاف في المسجد الأقصى أبلغ من قول بشر الحافي في جملة واحدة:
“ما بقي عندي من لذات الدنيا إلاّ أن أستلقي على جنبي تحت السماء بجامع بيت المقدس”.